الداعية جنة الفردوس Admin
عدد المساهمات : 4517 جوهرة : 13406 تاريخ التسجيل : 03/01/2013
| موضوع: منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 6- الشرح الثلاثاء مايو 28, 2013 11:41 pm | |
|
منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 6- الشرح 21 ـ فكلُّ نهيٍ عادَ للذواتِ***أو للشروط مُفْسِداً سَيَاتي ====================================================== 22 ـ وإِنْ يَعُدْ لخارجٍ كالعِمَّهْ***فلن يَضير فافْهمَنَّ العِلَّهْ
قوله: (فكل) الفاء: للتفريع، إشارة إلى أن هذا البيت مفرع على ما قبله.
(كل) مبتدأ (سياتي) خبرها (مفسداً) حال من فاعل يأتي، والسين للتحقيق.
قوله: (وإن يَعُدْ) : الضمير يعود على النهي لأنه قال: (فكل نهي عاد للذوات).
(وإن يعد) يعني: النهي إلى أمر خارج عن ذات العبادة وشرطها (كالعمة) أي: كالعمامة المحرّمة.
قوله: (فلن يضير) : أي يضر؛ أي: فلن يمنع من الصحة.
(فافهمن العِلَّة) والعلّة: أنه خارج عن ذات العبادة وشرطها، لأن العمامة ليست شرطاً في الصلاة، إذ تصح الصلاة بدون عمامة، والنهي عن لبس العمامة المحرّمة ليس نهياً عن ذات الصلاة في العمامة، فصار هذا غير موجب لفساد الصلاة.
فهذان البيتان كالتفصيل للإجمال السابق في البيت الذي قبله.
والمعنى: أن النهي إما أن يعود إلى ذات الشيء، أو إلى شرطه، أو إلى أمر خارج. والذي يقتضي الفساد هو ما عاد النهي فيه لذات المنهي عنه أو إلى شرطه.
1 ـ مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في العبادة:
نهي المرأة عن الصوم في الحيض، والنهي عن صوم يومي العيدين.
مسألة: ما حكم رفع البصر إلى السماء أثناء الصلاة؟
الجواب: قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا رفع بصره إلى السماء بطلت صلاته، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه، واشتد قوله في ذلك حتى توعد من رفع بصره إلى السماء أن لا يرجع إليه بصره[(78)] وإلى هذا ذهبت الظاهرية[(79)].
لكن الجمهور يقولون: إن هذا لا يزال مستقبلاً القبلة ولو رفع بصره، فإذا كان كذلك صحت صلاته.
ولا شك أن هذا التعليل في النفس منه شيء، والقول بالبطلان قول قوي[(80)]. ويقال: من قال لكم: إن العلّة في النهي عن رفع البصر إلى السماء هو عدم استقبال القبلة بوجهه؟! قد تكون العلّة سوء الأدب مع الله، وأن الإنسان ينبغي له إذا وقف بين يدي الله أن يكون خاضعاً.
مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في المعاملات: البيع بعد نداء الجمعة الثاني، ممن تلزمه الجمعة، فهذا النهي عائد إلى ذات البيع، وإن كانت العلة فيه هي خوف التوصل بذلك إلى ترك ما يجب من حضور الجمعة.
كل هذا عاد فيه النهي إلى ذات الشيء، فلا يصح، للدليل والتعليل السابق في شرح البيت الذي قبله.
2 ـ قوله: (أو للشروط) : إذا عاد النهي للشرط فإن المشروط لا يصح، لأنه إذا عاد للشرط فسد الشرط، وإذا فسد الشرط فسد المشروط، فلا تصح العبادة. فمثلاً: إذا قال الشرع: لا تتوضأ بهذا الماء فتوضأ به، لم يصح الوضوء، ولا تصح الصلاة المبنية على هذا الوضوء، لأن النهي عاد إلى شرطها، ومن ذلك النهي عن الصلاة في الحمام. والصلاة في المقبرة[(81)]، فإذا صلى فيهما فإن صلاته لا تصح، لأن البقعة بقعة منهي عن الصلاة فيها.
ومَثَّل العلماء للنهي العائد إلى شرط العبادة برجل صلّى في ثوب محرّم عليه، مثل: أن يصلّي في ثوب حرير مع تحريمه، فإن صلاته لا تصح، وعلّلوا ذلك بأن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، ويشترط لذلك الشرط أن يكون مباحاً، فإن كان محرّماً، فإن الصلاة لا تصح، لأن النهي يعود إلى شرط العبادة.
مثال ما عاد النهي إلى الشرط في المعاملات النهي عن بيع الحمل في البطن[(82)] ونهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر[(83)]، فإن النهي عن بيع الغرر عائد إلى شرط البيع، وهو العلم، إذ إن من شرط البيع أن يكون الثمن معلوماً، وأن يكون المبيع معلوماً، لأن جهالتهما أي: جهالة المبيع أو جهالة الثمن تؤدي إلى النزاع، ثم العداوة والبغضاء، والدين الإسلامي لا يريد من أهله إلا أن يكونوا أحبة متعارفين متوافقين، وكل شيء يهدم هذا الأصل الأصيل في الدين الإسلامي، فإنه يكون منهياً عنه.
3 ـ أما إذا عاد النهي إلى أمر خارج عن ذات العبادة وشرطها فإنه يصح، ومثَّلوا لذلك في العبادات بلبس الإنسان عمامة محرّمة في الصلاة، كعمامة الحرير للرجل مثلاً؛ فصلاته صحيحة، لأن ستر الرأس ليس بشرط لصحة الصلاة، فكان النهي هنا عائداً إلى أمر خارج، ليس إلى ذات العبادة ولا إلى شرطها. وكذلك لو صلّى وفي يده خاتم من ذهب وهو رجل، فإن صلاته صحيحة قولاً واحداً، وإن كان قد لبس هذا المحرّم، لأن هذا عائد إلى أمر خارج العبادة، لأن لبس الخاتم ليس شرطاً لصحة الصلاة.
ومثل ذلك: لو لبس قلادة من ذهب، فإن صلاته تصح لأن لبس القلادة ليس شرطاً لصحة الصلاة، فلم يكن النهي عائداً لذات الصلاة ولا لشرطها.
ومما نهي عنه، وهو لا يعود إلى ذات الشيء ولا إلى شرطه، في المعاملات:
تلقي الجَلَب، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلقوا الجلب»[(84)] والجلب: هم الذين يأتون بالسلع إلى البلاد، وليسوا من أهل البلاد ليبيعوها وينصرفوا، فقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تلقيهم، لأن في تلقيهم ضررين:
الضرر الأول: أنهم ربما يشترون من الجلب بِرُخْصٍ فيقع الغبن.
والضرر الثاني: أنهم يحرمون أهل البلد مما يحصل من وراء المعاملة مع هؤلاء الجلب.
فهذا النهي لا يفسد البيع، يعني: لو أن رجلاً تلقى الجلب، واشترى منهم، فإن البيع يقع صحيحاً مع تحريم التلقي، وذلك لأن النهي لا يعود إلى نفس البيع ولا إلى شرطه. ودليل صحته قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار»[(85)] يعني: إذا أتى البائع السوق ورأى أنه مغبون فله الخيار.
ومن ذلك، أي: مما لا يعود النهي فيه إلى شرط الشيء ولا إلى ذاته: تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، أي: جمع اللبن في ضرع البهيمة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه[(86)] لما في ذلك من التدليس على المشتري، وللمشتري الخيار إذا ظهر له ذلك.
مسألة: إذا استأجر محلاً لحلق شعر الرأس فحلق فيه اللحى، فإن عقده صحيح، لأن عقده على فعل مباح، لكن فعل فيه محرماً، وأما الذي استأجر المحل ليحلق اللحى، فعقده باطل. قال تعالى: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] .
ـ من سافر للتجارة فوجد في البلد بغايا فزنى بهن، فيجوز أن يقصر الصلاة. ولو سافر لأجل البغاء، فلا يجوز له القصر لأن السفر محرّم والمحرّم لا تستباح به الرخصة، هذه قاعدة المذهب[(87)].
والراجح جواز القصر، لأن الجهة إذا انفكت فلكل شيء حكمه، وهذه الجهة منفكة، وهو اختيار شيخ الإسلام[(88)]، وهو مذهب الحنفية[(89)].
ـ الحج بالمال المغصوب صحيح لكنه محرّم.
إذاً فالقاعدة: أن النهي إذا ما عاد إلى أمر خارج فإنه لا يضر، وذلك لانفكاك الجهة، فجهة هذا غير جهة هذا، ولهذا قال الناظم: (فلن يضير فافهمن العلة).
ومعنى انفكاك الجهة: هو أن يكون تحريم الشيء لأجل شيء آخر، مثل: ما إذا توضأ إنسان بماء مغصوب، فعلى الراجح يكون التحريم ليس للوضوء، بل لإتلاف هذا المغصوب على صاحبه، سواء بوضوء أو إراقة أو شرب أو غيره.
بخلاف إذا قيل لك: لا تتوضأ بهذا الماء المغصوب، فإن الوضوء لا يصح، لأن النهي هنا عاد إلى ذات العبادة ـ نفس الفعل ـ.
قوله: (فافهمن العلة) : هذا أمر بأن يفهم الطالب العلّة. ليس المراد في هذه المسألة فقط، بل في جميع مسائل الفقه، لأن فهم العلل يوجب فوائد:
الفائدة الأولى: أن الإنسان يعرف سمو الشريعة الإسلامية، وأنه لم يشرع فيها شيء إلا لسبب يقتضيه، وجميع المسائل الحكمية معلَّلة، لكن تارة تكون العلّة معلومة، وتارة تكون العلّة مجهولة، وتارة يعلمها بعض الناس، ويجهلها بعضهم، فتارة تكون فوق مستوى العقول، لكننا نعلم أن الله لم يشرعها إلا لحكمة.
وقد اطرد عند الفقهاء رحمهم الله تسمية ما كان مجهول العلة تعبدياً. فمثلاً قالوا: إن نقض الوضوء بلحم الإبل تعبدي، لأننا لا نعقل المعنى. فأيُّ فرق بين لحم الجمل ولحم الخروف أو الحصان أو البقر؟ لا ندري.
ومن العلماء من قال: بل العلة معلومة، وهي أن الإبل فيها نوع من الشَّيطنة والكبرياء والأَ نَفَة، ولهذا يكون الراعي لها دائماً ذا كبر وأنفة وغطرسة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «الغلظة والجفاء في الفَدَّادين أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم»[(90)].
ثم إنه ورد في الأثر أنها خلقت من الشياطين[(91)]، فلها تأثير على البدن، وعلى خُلُق الإنسان، وهذا الوضوء يخفف من آثارها.
وقد قرأت قديماً في كتاب ينهى فيه الإنسان العصبي عن الإكثار من أكل لحم الإبل، يقول: لأن هذا يزيد العصبية ويؤثر عليها أكثر.
والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل[(92)] يقول بعض الفقهاء: إنه تعبدي، ويقول بعضهم: إنه لعلّة معلومة، هي نجاسة الروث والبول، لكن هذا ليس بصحيح، لأن بول الإبل وروثها طاهر.
فإما أن نقول: إنه تعبدي، وإما أن نقول: إن العلّة هي أن مكان الإبل تحضره الشياطين، لأن الإبل خلقت من الشياطين، وقد روي أن على كل شَعْفَة بعير شيطاناً[(93)].
الفائدة الثانية: أننا إذا فهمنا علّة الحكم قسنا عليه ما شاركه في هذه العلّة، وأدلة القياس معروفة في الكتاب والسنّة وليس هذا موضع ذكرها[(94)].
الفائدة الثالثة: أن الإنسان إذا فهم العلّة ازداد طمأنينة وأخذاً بالأحكام الشرعية، لأنه يفهم لماذا شرع هذا الحكم تحريماً أو إيجاباً فيزداد طمأنينة، وفرحاً وسروراً بفعل الأوامر، وكذلك يزداد فرحاً وسروراً بترك النواهي، فيتمسك بالشريعة.
الفائدة الرابعة: أن العلّة، هي عبارة عن دليل عقلي إذا فهمتها استطعت أن تقنع من لم يقتنع بالكتاب والسنّة، ونحن في هذا العصر في حاجة ماسة إلى هذا الأمر، لأن كثيراً من الناس يجادلونك حتى في الأدلة الشرعية، فإذا وهبك الله شيئاً من معرفة العلل والحِكَم والأسرار استطعت أن تقنع غيرك بدلالة العقل.
الفائدة الخامسة: أن الإنسان يكون عنده ملكة ورسوخ في العلم، وإن شئت دليلاً على ذلك فاقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، انظر كيف يأتي بالشواهد الكثيرة على مسألة واحدة حتى تعرف مقدار الرسوخ في العلم من الإنسان الذي يفهم الحِكَم والأسرار.
وخلاصة هذه القاعدة: أن كل منهي عنه إذا فعله فهو فاسد إن عاد النهي إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه، أما إذا عاد إلى أمر خارج فإنه لا يفسد، لكن يكون الفاعل آثماً لوقوعه في النهي.
23 ـ والأصلُ في الأشياءِ حِلٌّ وامْنَعِ***عبادةً إلا بإذنِ الشارعِ
لمّا تكلم عن المحرّمات ناسب أن يذكر ما هو الأصل، هل الأصل في الأشياء الحل أو الأصل في الأشياء المنع؟
فبيّن في هذه القاعدة أن الأصل في الأشياء عموماً الحل بخلاف العبادات، فالأصل فيها المنع إلا إذا أذن بها الشرع.
قوله: (الأشياء) : جمع شيء، وقد قيل: إن فيها إعلالاً مكانياً؛ يعني: نقل حرف من مكان إلى آخر، وبيّنوا قولهم هذا بأن كلمة أسماء منصرفة، وكلمة أشياء غير منصرفة، مع أن الميزان واحد في الظاهر، لكن قالوا: أشياء، أصلها شيئاء، ففيها ألف التأنيث الممدودة، لكن نقلت الهمزة إلى أول الكلمة، ولهذا وزن أشياء لفعاء.
«فأشياء» كلمة عامة، وقد قيل: إن أعم شيء كلمة شيء، لأنها تشمل الموجود والمعدوم، والأعيان والأوصاف والمنافع، والأفعال والمعاملات والعادات، والعَالِم وغير العَالِم، والعاقل وغير العاقل، فكل الأشياء الأصل فيها الحل.
والفرق بين الأعمال والأعيان أن العمل فعل الفاعل، والعين خارجة عن فعل الفاعل منفصلة، ونقصد بالعين المعين.
فالأعيان: الأصل فيها الحل فلو أن شخصين اختلفا في عين من الأعيان، حيوان أو أشجار أو غيرها، هل أكله حلال أو حرام، فالأصل الحلّ؛ فليأكله ما لم يتيقن أنه من المنهي عنه، أو يقم الدليل على تحريمه.
لكن يرد هنا سؤال: لماذا خلق الله عزّ وجل الحيات والعقارب والنمل وما أشبه ذلك؟ والجواب على ذلك أنها نافعة بغيرها لأمور:
1 ـ ما يترتب على أذيتها من الأجر والثواب.
2 ـ بيان قدرة الله عزّ وجل حيث يخلق للخلق ما فيه منفعتهم {{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ}} [يس: 72، 73] وما فيه مضرتهم.
3 ـ أن كثيراً من الناس لا يستعمل الأوراد إلا حماية من هذه الأشياء، فتكون حثاً على استعمال هذه الأوراد.
4 ـ أن يعرف الإنسان عذاب أهل النار بهذه الأشياء، لأن لها نظيراً في النار، كما جاء في بعض الآثار أن فيها العقارب والحيات[(95)]، وما إلى ذلك.
المنافع: الأصل فيها الحلّ؛ بمعنى: أنه يحل لك أن تنتفع بالأعيان على أي وجه شئت، إلا إذا ورد دليل بالمنع.
فلو قال قائل: أنا أريد أن أركب البقرة وأسافر عليها، لقلنا: الأصل الحل، مع أن البقرة معدة للحرث والنسل والدر.
والدليل على أن الأصل في الأعيان والمنافع الحلّ قوله تعالى: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}} [البقرة: 29] فعمّم وأكد؛ التعميم في قوله: {{مَا فِي الأَرْضِ}} «ما» اسم موصول تفيد العموم ثم أكد هذا العموم بقوله: {{جَمِيعًا}}.
الأعمال: الأصل في كل عمل غير عبادة الحلّ، لقوله تعالى: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] نأتي إلى هذا العمل المعيّن هل قال الله تعالى: إنه حرام أو قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟
الجواب: لا، ولو كان حراماً لفَصَّله؛ لأن الله قال: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}}، فالأصل الحل حتى يقوم دليل على أنه ممنوع.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها»[(96)].
وقال: «وما سكت عنه فهو عفو»[(97)].
فلو عمل الإنسان عملاً من الأعمال، أو اتخذ إنسانٌ لعبة من اللعب وصار يعملها، وجاءه آخر وقال: حرام عليك هذا، لم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعمله ولا أصحابه، فإننا نقول: الأصل الحلّ حتى يقوم دليل على المنع.
ـ إنسان اتخذ ساعة منبهة من أجل إذا جاء الوقت الذي يريد أن يقوم فيه تنبهه فقال قائل من الناس: لا تفعل، اجعل عندك ديكاً ينبهك للصلاة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم إذا سمع صوت الصارخ ـ يعني: الديك[(98)] ـ وأما هذه الساعة فحرام! فماذا نقول له؟
نقول: أين الدليل؟ الأصل الحلّ: وهل عندك دليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أفضل البشر وأحبهم للخير واليسر لو كان عنده مثل هذه الساعة منعها؟ الجواب: لا.
ـ حين ظهر مكبر الصوت في الصلاة والخطبة قام بعض الناس وقال: هذا حرام لا يجوز، لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب بمكبر الصوت ولا يصلّي به. فنقول لهم: الأصل الحلّ؛ ولو كان هذا موجوداً في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكان يبيح ذلك ـ حسب علمنا بشريعته ويسرها وسماحتها ـ، بل هو أمر العباس عمه في غزوة ثقيف وكان قوي الصوت أن ينادي في القوم، فجعل ينادي: يا أصحاب الشجرة، يا أهل سورة البقرة، فرجع الناس[(99)].
وأبو طلحة رضي الله عنه في خيبر أمره الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن ينادي: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس[(100)].
وعبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه لما رأى الأذان في المنام قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اذهب فألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك»[(101)].
ثم إنه ليس بلازم لنا أن نتطلب الأدلة التي فيها طلب الشارع لرفع الصوت، لكن هذا من باب تقوية الحكم، وإلا فالأصل الحلّ.
المعاملات: وهي من الأشياء، الأصل فيها الحلّ؛ ودليلها قوله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}} [البقرة: 275] ؛ فكل مبايعة فالأصل فيها الحل، وكذلك بقية العقود، لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] فأمر الله بالوفاء بالعقود على أي وجه عقدت، وبأي معاملة كانت، ما لم يثبت تحريمها.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»[(102)] وقال: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»[(103)].
فهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكن يؤيده حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»[(104)]؛ فدل على أن ما كان موافقاً لحكم الله فإنه غير باطل.
العادات: تدخل في الأشياء فالأصل فيها الحلّ؛ فإذا فعل الناس شيئاً على وجه العادة فإنه لا ينكر عليهم، إلا إذا قام الدليل على أن هذه العادة محرّمة فتمنع.
فمثلاً: إذا اعتاد الناس طرازاً معيّناً من البناء، أو طرازاً معيّناً من الثياب، فالأصل الحلّ، حتى يقوم الدليل على المنع. والمنع قد يكون بالأوصاف، وقد يكون بالأعيان، فالحرير محرّم بعينه، والثوب النازل عن الكعبين محرّم بوصفه.
إذاً الأصل في الأشياء كلها، الأعيان والمنافع والأعمال وغيرها، الأصل فيها أنها حلال لا إثم فيها، وهذا الأصل يفيدك في أشياء كثيرة أن من ادعى خلاف الأصل فعليه الدليل.
لو قال قائل: الأصل في الأشياء التحريم، لأن الملك ملك الله عزّ وجل، ولا يجوز أن نتصرف في ملك الغير إلا بإذنه، فأين الدليل على أن الأصل الحلّ؟
فالجواب: صحيح أن الملك ملك الله عزّ وجل، ولا نتصرف بشيء من ملكه إلا بإذنه سبحانه وتعالى، لكن هو الذي أذن لنا. قال عزّ وجل: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}} [البقرة: 29] . {{مَا}} اسم موصول للعموم، وأكد بقوله: {{جَمِيعًا}}. وقال عزّ وجل: {{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}} [الجاثية: 13] أي: ذلّل لنا ما في السماوات والأرض. فالشمس مذلَّلة لمصالحنا، والقمر والنجوم والسحاب والرياح كلها مذلَّلة لمصالحنا ـ ولله الحمد ـ بإذن الله عزّ وجل، وقال تعالى: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] فنحن لم نقل: إن الأصل الحلّ إلا بعد أن علمنا إذن ربنا بذلك.
فإن قال قائل: أليس الله يقول: {{قُلْ أآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}} [يونس: 59] ؟.
قلنا: بلى، لكن هذا في الشريعة، حيث كانوا يحلّون ما شاؤوا ويحرّمون. قال تعالى: {{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}} [الشورى: 21] ولهذا قال الناظم:
(وامنع عبادة إلا بإذن الشارع) ؛ (وامنع): فعل أمر، (الشارع) وصف له سبحانه، والدليل قوله تعالى: {{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ}} [الشورى: 13] . وقوله: {{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}} [المائدة: 48] . لكن العلماء رحمهم الله يقولون: إن الشارع وصف لله، ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، لأن الرب عزّ وجل يشرِّع، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يشرِّع، وما شرعه الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو شرع الله.
وقوله: (وامنع عبادة إلا بإذن الشارع) : يعني لا تُجِزْ عبادة إلا بإذن الشارع، فلو تعبّد شخص لله بعبادة فإننا نمنعه حتى يقيم دليلاً على مشروعيتها، ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(105)]. وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»[(106)]. ووجه الدلالة: أن العبادة التي لم يشرعها الله ليس عليها أمر الله ورسوله فتكون مردودة، فلو أن إنساناً تعبّد لله تعالى بعبادة لم يشرعها الله كانت العبادة باطلة، سواء كانت لم تشرع من أصلها، أو شرعت على وجه آخر، وأثبت هو لها سبباً غير ثابت شرعاً، فإنها مردودة عليه.
وقال تعالى منكراً على من يشرعون بلا إذنه: {{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}} [الشورى: 21] وقال تعالى: {{قُلْ أآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}} [يونس: 59] .
فهذه الأدلة تدل على أن الأصل في العبادات الحظر، إلا ما قام الدليل على مشروعيته.
ودليل ذلك من النظر: أن العبادة طريق موصل إلى الله، فلا يمكن أن نسلك طريقاً يوصل إلى الله إلا إذا كان الله قد وضعه لنا، أما إذا لم يضعه فلا ندري أين يوصلنا هذا الطريق فلا بد أن يكون الواضع لهذا الطريق الموصل إلى الله عزّ وجل هو الله عزّ وجل.
إذاً فيوجد دليل من الأثر، ودليل من النظر على أن الأصل في العبادات هو الحظر، إلا ما قام الدليل على مشروعيته.
وليُعْلم أنه لا بد أن يقوم الدليل على كون العبادة مشروعة في كل ما يتعلق بها، فلا بد أن تكون موافقة للشرع في ستة أشياء: في السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والزمان، والمكان.
أولاً: أن تكون موافقة للشرع في سببها:
فمن شرع عبادة لسبب لم يجعله الشارع سبباً فإنها لا تقبل، لأن الشارع لم يأذن بها.
ومن ذلك ما يفعل في شهر ربيع الأول من الاحتفال بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن الاحتفال بالمولد إنما يحمل عليه محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند من احتفل به، أو مضاهاة النصارى الذين يحتفلون بمولد المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، أو لأسباب أخرى، لكن غالبهم إنما يحملهم عليه محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذكرى ولادته كما زعموا، وهذه البدعة ليست معروفة لا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا في عهد الصحابة، ولا في عهد التابعين ولا في عهد تابعي التابعين، وإنما أحدثت في القرن الرابع من الهجرة، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حذر من محدثات الأمور، فقال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»[(107)].
فإن قال قائل: أنا لا أعمل ذلك إلا محبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن من علامة المحبة، وهو أصدق علاماتها، أن يكون المحب متبعاً لمن أحبه. قال الله تعالى: {{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}} [آل عمران: 31] . وإذا كان هذا أصدق علامات المحبة، فاتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك أن لا يقيم هذه البدعة، لأنها شيء لم يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وحقيقة الاتباع أن لا يأتي بشيء لم يفعله.
الوجه الثاني: أنك لست أشد محبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خلفائه وأصحابه، ولا يمكن لأحد أن يحب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أعظم مما يحبه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، وهؤلاء كلهم لم يفعلوا ذلك، لأنهم يريدون أن يطبّقوا حقيقة المحبة تماماً، وهي أن يتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في فعله وتركه، فكما أن فعل ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم سنّة، فكذلك ترك ما تركه مع وجود سببه سنّة، وما خالف ذلك فهو بدعة، وهذه المسألة ينبغي لنا أن نتفطن لها، كلنا يعلم أن الثناء على الرسول صلّى الله عليه وسلّم على وجه لا غلو فيه محبوب إلى الله ورسوله.
فإذا قال المبتدع للاحتفال بالمولد: أنا لم أفعل شيئاً ممنوعاً؛ إنما جلست لصنع الطعام للناس وإطعامهم، وإطعام الناس دائر بين الإباحة والاستحباب، ثم إني أتحدث عن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأصلّي عليه، وأتلو من القصائد ما فيه الثناء عليه، أليس هذا أمراً مطلوباً؟ أليس كل واحد منا يحب النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أليس كل واحد منّا يُشَنِّفُ أسماعه[(108)] بقصائد الثناء على الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟
قلنا: بلى؛ ولكن تقييد هذه الأمور بزمن أو مكان هو الذي جعلها بدعة. فأنت لا تقيّدها بهذا الزمن، ونقول: صلِّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكلما أكثرت من الصلاة عليه فهو خير لك، أثنِ عليه بما شئت من القصائد بشرط ألا تخرج إلى درجة الغلو، أطعم الطعام، لا نمنع من ذلك، ولكن تقييده بزمن معيّن هو الذي يجعله بدعة. وإلا فهات دليلاً على أن ليلة مولده وقت للاحتفال وإطعام الطعام وما أشبه ذلك، على أن الاحتفال بالمولد النبوي يحدث فيه من الأغلاط، والغلو المنهي عنه، وغير ذلك من الأشياء ما لا يرتضيه شرع ولا عقل.
ثم إنه لم يثبت تاريخياً أن ولادة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، والمحققون من أهل الحساب يقولون: إن ولادته كانت في اليوم التاسع وليست في اليوم الثاني عشر، وهذا مما يوهن القول بجواز الاحتفال بمولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الليلة الثانية عشرة.
ـ ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: صلاة ركعتين إذا دخل البيت قبل أن يجلس، فبناءً على عدم ورود دليل صحيح في ذلك، نقول: هذه بدعة، لأنه لم يرد في الشرع أن دخول البيت سبب لصلاة ركعتين.
ـ رجل كلما تجشأ قال: الحمد لله، نقول: إن هذا بدعة، لأنه لم يرد، نعم، لو فرض أن الإنسان حُبس عن التجشي، يعني أصيب بمرض يمنعه من التجشي، ثم زال هذا المرض فتجشأ، فحينئذ يشرع أن يحمد الله، لأن هذه نعمة، وإذا حصلت النعمة فاحمد الله على ذلك.
لو قال قائل: لماذا لا نحمد الله على هذا، أليس العطاس يحمد الله عليه؟
فالجواب: بلى، لكن الحمد بعد العطاس وردت به السنّة، وهذا لم ترد به.
ـ رجل كلما تثاءب قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نقول: إن هذا بدعة. فإن قال: كيف يكون بدعة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التثاؤب من الشيطان»[(109)]. وقال الله في كتابه: {{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}} [فصلت: 36] قلنا: ليس المراد بالنزغ هذا؛ المراد بالنزغ أن ينزغك لتعمل معصية أو تدع واجباً، فاستعذ بالله، أما هذا فإنه ليس نزغاً، ولكنه يدل على الكسل، والشيطان يحب من ابن آدم أن يكون كسلان.
والدليل على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر من تثاءب أن يكظم ما استطاع[(110)]، فإن لم يستطع وضع يده على فيه[(111)]، ولم يأمره بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فهنا السبب موجود في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولم يجعله سبباً.
إذاً لا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في سببها.
ثانياً: أن تكون موافقة للشرع في جنسها:
فإن كانت من غير الجنس الذي شرعه الشرع فإنها لا تقبل؛ لأن العبادة مبنية على التوقيف[(112)].
ـ فلو ضحى شخص بفرس تساوي قيمة الناقة عشر مرات فإنه لا يجزئ، لأن الأضحية لا تكون إلا من جنس معيّن خاص؛ وهي الإبل والبقر والغنم، وليس منها الخيل، فلا تصح التضحية بها.
ـ لو ضحى بدجاجة فإنها لا تصح، لأنها ليست من جنس ما يشرع التضحية به. فإن قال قائل: أليس النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة؟»[(113)] قلنا: هذه قربة صدقة، لا قربة نسك. كما لو تصدق بوزن الدجاجة لحماً فليس بنسك.
ـ لو أن رجلاً عقّ ببعير هل تجزئ العقيقة؟
الجواب: قال بعض العلماء: لا تجزئ العقيقة ببعير، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عينها من الغنم شاة. وقال بعض العلماء: تجزئ، لكن الشاة أفضل، وإنما قالوا بالإجزاء، لأن جنس الإبل يصح التقرّب إلى الله تعالى به في النسك، فهي باعتبار كونها نسكاً تكون جنساً وباعتبار كونها إبلاً وبقراً وغنماً تكون نوعاً من النسك يشملها اسم الجنس.
والذين قالوا بالإجزاء في العقيقة يقولون: إنها لا تُجزئ العقيقة بالبعير إلا عن واحد، بينما في الأضحية تُجزئ عن سبعة، فإذا أراد إنسان أن يعق بإبل فعن الغلام بعيران، وعن الجارية بعير واحد، هذا إذا قلنا بالإجزاء. ومع ذلك فالشاة أفضل ولا شك؛ لأن الإنسان يتردد في كون البعير يجزئ. وهذا مذهب الحنابلة[(114)].
ثالثاً: أن تكون موافقة للشرع في قَدْرِها:
لا بد أن تكون العبادة موافقةً للشرع في القَدْر يعني الكمية. ثم إن زاد أو نقص فإن كان لا ينفصل بعضها عن بعض بطلت، وإن كان ينفصل بعضها عن بعض لم تبطل لكن ينهى عن الزائد.
فمثال ما لا ينفصل بعضها عن بعض: لو صلّى الظهر خمساً، قلنا: لا تصح الصلاة، إذا كان متعمّداً، لأنه خالف الشرع في القدر. ولو ركع مرتين في صلاة الظهر قلنا: لا تصح، لأنه خالف الشرع في القدر. ولو سجد سجوداً واحداً قلنا: لا تصح، لأنه خالف الشرع في القدر. ولو صلّى الظهر ثلاثاً قلنا: لا تصح، لأنه خالف الشرع في القدر.
ومثال ما ينفصل: لو أنه سبّح دبر الصلاة المكتوبة أربعين وحَمِد أربعين وكبّر أربعين قلنا: هذا خلاف السنّة لا شك، وإذا قصد التعبّد بهذا العدد فهو مبتدع. لكن ما وافق العدد المشروع، ثلاثاً وثلاثين فإنه يثاب عليه ولا يبطل به التسبيح، لأن هذا يمكن انفصال بعضه عن بعض.
يعني: لا نقول: يشترط لقبول التسبيحة الأولى صحة التسبيح إلى آخر واحدة منه، لكن نقول في الصلاة: يشترط لصحتها أن تكون شروط الصحة فيها من أولها إلى آخرها.
مسألة: لو زاد في التسبيحات والتهليلات والتكبيرات التي بعد الصلاة وقال: أنا لم أقصد العبادة إنما قصدت زيادة خير.
الجواب: أنه يثاب، لكن لا يثاب ثواب الذكر المقيّد، لأن الذكر المقيّد له خاصية فثوابه أكثر، ولهذا نقول: اقطع قراءة القرآن من أجل إجابة المؤذن، لأن إجابة المؤذن في وقته ذكر مقيّد فيكون أفضل من قراءة القرآن المطلقة.
رابعاً: أن تكون موافقة للشرع في كيفيتها:
لا بد أن تكون العبادة مطابقة للشرع في كيفيتها، لأن الكيفية في الحقيقة تدخل في صلب العبادة، فإن خالف في الكيفية لم تصح العبادة ولو أتى بأجزائها. فلو سجد ثم ركع لم تصح صلاته. ولو بدأ بغسل الرجلين قبل الوجه في الوضوء لم يصح غسل الرجلين. ولو أنه طاف حول الكعبة جاعلاً الكعبة عن يمينه لم يصح طوافه. ولو ركع مرتين في ركعة واحدة خالف الشرع في الكيفية، باعتبار الصلاة ككل، وخالف الشرع في القدر باعتبار الركوع.
خامساً: أن تكون موافقة للشرع في زمانها:
فإن أتى بها في غير زمانها المحدد، فإن كان قبله لم تصح بالاتفاق، لأن سبب الوجوب لم يوجد. وإن كان بعده لعذر صحت إن كانت مما يُقْضَى، وإن كان بعده لغير عذر لم تصح على القول الصحيح. وقيل: تصح مع الإثم.
مثال ذلك: رجل صلّى الظهر قبل زوال الشمس معتقداً أن الشمس قد زالت، ثم تبيّن أنها لم تزل، فإنها لا تجزئه، لكن تصح نفلاً، لأنه نوى العبادة على نيتين: نية الصلاة ونية الظهر، فتصح نية الصلاة، لأن الصلاة تصح في كل وقت، ولا تصح نية الظهر لأنه قبل دخول وقتها.
وإن صلى الظهر بعد خروج وقتها لكن لعذر كنوم ونسيان وما أشبه ذلك، فالصلاة صحيحة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها»[(115)] يعني: ولو بعد الوقت.
وإن كان لغير عذر، كما لو تعمّد أن يصلِّيها بعد الوقت بحيث يكون عنده حصة درس أو عمل لا ينقضي إلا بعد الوقت، وصمّم أنه لن يصلّي إلا بعد الوقت فإن صلاته لا تصح، ولو صلّى ألف مرة، والقول الثاني: أنها تصح مع الإثم، ولكن الصحيح أنها لا تصح، ولا تقبل منه، وأنه يعتبر مخلاًَّ بركن من أركان الإسلام.
ومثل ذلك: لو تركها تكاسلاً، فإنها لا تقبل منه لو صلاّها بعد الوقت، لأن التكاسل هو العمد بلا فرق، وهذه مسألة مشكلة على كثير من الناس، يحسبون أن التكاسل غير العمد. ولو قلنا: إنها مقبولة تجرأ في اليوم الثاني على تركها، لكن إذا قلنا: لا تقبل، ويردها الله، ففي اليوم الثاني يخاف ويصلي.
ـ في الزكاة: لو أنه زكّى قبل ملك النصاب، فإن الزكاة لا تجزئه، لأنه أداها قبل أن يخاطب بها، فإن أخّرها عن وقت الوجوب لغير عذر، مثلاً تحل زكاته في شهر المحرم، فأخّرها عن شهر المحرم تأخيراً لا يعذر فيه، فهل تجزئه أو لا؟ في هذا خلاف بين العلماء. فمنهم من قال: تجزئه؛ لأنه أدى حق الفقراء، ومنهم من قال: لا تجزئه؛ لأنه أخّرها عن الوقت المخاطب بها، ولا سيّما إذا مات، فإن ورثته وإن أخرجوها عنه، لا تبرأ بذلك ذمته، لأنه تعمّد أن يترك هذا الركن من أركان الإسلام، ولا ينفعه قضاء أهله عنه. نعم، لو فرض أن الرجل عنده حسابات كثيرة، وأخّر الزكاة من أجل أن يراجع حسابه. فهنا نقول: إنه يجزئ، لأن له شبهةً، وشيئاً من العذر.
ـ رجل أوتر قبل صلاة العشاء هل يجزئه؟
الجواب: لا، لأنه صلاّها قبل أن يخاطب به لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً»[(116)]. وإن أخّر الوتر إلى ما بعد طلوع الفجر لغير عذر فإنه لا يجزئه ايضاً، لأنه أخرج العبادة عن وقتها المقدر شرعاً.
سادساً: أن تكون موافقة للشرع في مكانها:
لا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في مكانها، فلو اعتكف الإنسان في بيته في العشر الأواخر من رمضان فإنه لا يجزئه، لأن مكان الاعتكاف المساجد. قال تعالى: {{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}} [البقرة: 187] .
ـ ولو طاف بالبيت خارج المسجد الحرام لا يجزئه، لأنه لم يوافق الشرع في المكان، إذ من شرط الطواف أن يكون في المسجد الحرام، حتى ولو كان هناك ضيق فإنه لا يجزئه، فلو فرض أن ما حول المسجد الحرام ساحات يمكنه الطواف فيها فطاف فيها فإنه لا يجزئه، لأنه خارج المسجد الحرام، فيكون مخالفاً للشرع في مكان العبادة.
ـ ولو حج الإنسان إلى المدينة بدلاً عن مكة لم يجزئه الحج، لأنه مخالف في مكان العبادة فلا تجزئه.
الخلاصة: أن العبادات تمنع إلا حيث أذن فيها الشرع، وبناء على هذا لا بد أن تكون موافقة للشرع، ومأذوناً فيها من قبل الشرع في الأمور الستة السابقة.
فإن قال قائل: هاتان القاعدتان يشكل عليهما، ما قاله بعض أهل العلم أن الأصل في الأبضاع يعني: النساء، التحريم، والأصل في اللحوم التحريم.
قلنا: هذا لا يرد على القاعدة، والعلماء رحمهم الله لا يريدون مخالفة هذه القاعدة التي ذكرنا، لكن قصدهم أن الأصل أن الأبضاع لحلّها شروط، فلا نستحلّها إلا بعد أن نعرف الشروط، فإذا شككنا مثلاً في عقد النكاح هل تم أو لا؟ فالأصل عدم التمام فلا يحلّ. لكن لو شككنا هل هذه المرأة ممن يحلّ له أخذها أو ممن لا يحلّ، فالأصل الحلّ، لأن الله لما ذكر المحرّمات قال: {{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}} [النساء: 24] . فدل هذا على أن الأصل الحلّ.
ومن ذلك: لو شككنا في عدد الرضعات، وأراد الرجل أن يتزوج من أرضعتها أمه رضاعاً لم يعرف عدده، فهنا نقول: يجوز أن يتزوجها، لأن الأصل الحلّ.
كذلك قولهم في اللحم: الأصل التحريم، نقول: هذا إذا شككنا في شرط الحلّ، مثل: أن نجد لحماً من الإبل أو البقر أو الغنم وشككنا هل ذبح على الطريقة الإسلامية أو لا، فالأصل التحريم، حتى نعرف شرط الحلّ، أما لو وجدنا حيواناً، ولا ندري هل هو حلال أو حرام فالأصل الحلّ.
وعلى هذا فما استثناه بعض العلماء في مسألة الأبضاع واللحوم فيه نظر في الواقع، لأن ما استثنوه يعني: أن شرط الحلّ لم يوجد، وهذا يشمل كل شيء حتى في البيع الأصل في الأعيان التحريم، حتى أعرف أني ملكت هذه السلعة مثلاً ببيع، أو بإجارة، أو ما أشبه ذلك.
لكن ليُعْلَم أن كل فعل صدر من أهله فالأصل فيه السلامة حتى يقوم دليل على المنع، فإذا جاءتنا لحوم مذكاة من مسلمين، فلا يحتاج أن نبحث هل هي مملوكة للذابح أو غير مملوكة؟ وهل الذابح يصلّي أو لا يصلّي؟ كذلك لو جاءتنا من نصارى لا نسأل كيف يذبحون؟ وهل ذبحوا على الطريقة الإسلامية أو لا؟ ما دام الفعل قد صدر من أهله.
وكذلك لو باع عليك إنسان شيئاً فلا يشترط أن تعرف أنه مالكه أو لا؛ لأن الأصل أنه مالكه. فالحاصل أن هذه القاعدة لا يرد عليها شيء.
مسألة: بعضهم يقول: إن الدجاج المستورد من الخارج ذبح بالصعق أو غيره كالماء الحار فما حكم أكله؟
الجواب: لا نعلم أن الدجاج الذي في هذا الصندوق هو مما جرى عليه هذا الشيء، والأصل أن ما ورد على المملكة مختبر ومعروف، وهيئة كبار العلماء قبل سنتين سألوا وزير التجارة وأناساً مسؤولين عن هذا الشيء فقالوا: كل شيء لا يمكن استيراده إلا بعد الاطلاع عليه.
24 ـ فإنْ يقعْ في الحكمِ شكٌّ فارجِعِ***للأصلِ في النوعَيْنِ ثم اتَّبِعِ
قوله: (إن يقع) : في حكم الشيء الحادث شك هل هو حلال أو حرام أو هو مشروع أو غير مشروع؟ فارجع للأصل في النوعين، فإن كان من العبادات فالأصل المنع حتى يقوم دليل على الإذن به، وإن كان من غير العبادات فالأصل الحلّ حتى يقوم دليل على المنع. ثم نتبع هذا الأصل، ولهذا قال: (ثم اتبع) : يعني: بعد أن ترجع للأصل تتبع الأصل.
مثال ذلك: اختلف اثنان في عادة من العادات لم يأت فيها دليل، فقال أحدهما: جائزة، وقال الثاني: غير جائزة، إذاً وقع الشك، فنرجع للأصل، والأصل في العادات الحلّ، لأنها داخلة في عموم قولنا: (والأصل في الأشياء حلّ). فنقول: هذه العادة حلال، هات دليلاً على أنها حرام، فإن لم يأت بدليل على أنها حرام فهي حلال، لأننا عند الشك نرجع للأصل، ونتبع الأصل.
وإذا تنازع شخصان في حلّ صيد صاده أحدهما، فقال أحدهما: هو حرام، وقال الثاني: هو حلال، ولم نجد نصاً عليه بالمنع، فإنه حلال، رجوعاً إلى الأصل.
ولو شككنا في معاملة من المعاملات هل هي حلال أو حرام؟ فهي حلال حتى يقوم دليل على المنع منها.
وهذا الأصل ينفع فيما يحدث من المعاملات في هذا العصر، فإذا شككت في معاملة هل هي حلال أو حرام، فهي حلال، والذي يقول: إنها ممنوعة هو المطالب بالدليل، بناءً على ما ذكرناه من هذه القاعدة العظيمة.
وإذا اختلف اثنان في عبادة، فقال أحدهما: هذا ذِكْرٌ طيبٌ، وعملٌ صالحٌ فلنفعله، وقال آخر: هذا بدعة، لم يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه فلا نفعله، وكل بدعة ضلالة، فالأصل ما قاله الثاني، ونقول للأول: هات دليلاً على أن هذا مشروع، ومن ثَمَّ نقضي على جميع حجج أهل البدع الذين يقيمون الصلوات في ليلة الرغائب ـ أول جمعة من رجب ـ وفي ليلة النصف من شعبان، وفي ليلة ما يسمى بليلة الإسراء والمعراج، وفي ليلة بدر، وهكذا في ليلة مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، نقول: هاتوا دليلاً على مشروعية هذه الأعمال التي تقومون بها تعبّداً لله وتعظيماً له. فإن أتوا بدليل قبلناه، وعلى العين والرأس، وإن لم يأتوا بدليل فإن عملهم مردود عليهم، وهو ضلال، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل بدعة ضلالة»[(117)] ويكون هذا العامل المتعبّد لله بما لم يشرع إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة، وإنما قلنا: إنه إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة، لأنه ربما يفعل هذا الشيء تأويلاً لا عناداً، لكن إذا بُيِّن له الحق، وعاد وأصرّ على بدعته، فهو آثم بلا شك، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حذر تحذيراً بالغاً من المحدثات في الدين، حتى كان صلّى الله عليه وسلّم يعلن ذلك في كل خطبة جمعة يقول: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة»[(118)].
وهل يمكن أن نجعل هذه القاعدة قاعدة في المنهج والسلوك، وأن الإنسان ينبغي له في منهجه الحياتي أن يرجع لهذا الأصل حتى لا ترد عليه الشكوك الكثيرة التي ربما تشككه حتى في أهله؟
الجواب: يمكن ذلك؛ فنقول للإنسان: الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، فلا تتعب نفسك بالوساوس، فقد يعرض الشيطان للشخص حتى يشككه في أهله، فنقول: الأصل السلامة، أَعْرِضْ عن هذا نهائياً. وقد يأتي الشيطان للشخص يشككه في أمور مما يتعلق بالله عزّ وجل، فنقول له: أعرض عن هذا، الأصل أنه ليس عندك شك، وليس عندك قدح في الله، ألست تتوضأ لله وتصلّي لله، وتتصدق لله، وتصوم لله، فكيف تعمل هذه الأعمال التي فيها مشقة عليك من أجل الله عزّ وجل ثم تأتي وتقول: أنا عندي وساوس فيما يتعلق بذات الله. لأن الذي عنده وساوس أو شكوك لا يعمل هذه الأعمال.
فالحاصل: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأنك مؤمن مُقِرٌّ، وأن هذه وساوس من الشيطان بمنزلة السهام، يرمي بها الفريسة، لكن إذا كانت الفريسة قوية نجت من سهامه.
إذا قال قائل: ما الدليل على أننا عند الشك في الأمور نرجع إلى أصولها؟
الجواب: الدليل على ذلك مسألة فردية وقعت في قضية طهارة، لكن صارت ميزاناً لكل شيء، وهي أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم شُكي إليه: الرجل يخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ـ الشيء يعني الناقض للوضوء كالريح ـ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً»[(119)].
والحقيقة أن هذا الحديث الدال على فرد من مسائل العلم ينبغي أن يكون قاعدة من قواعد الفقه، لأنه ينفع في العبادات والمعاملات والأنكحة والطلاق وغير ذلك، حتى لو شك الإنسان في الطلاق هل وقع أو لم يقع؟ فإنه لا يقع، لأن الأصل بقاء النكاح، وإن كان بعض العلماء يقول: الورع التزام الطلاق، لكن نقول: هذا قول ضعيف، بل الورع عدم التزام الطلاق، لأن الأصل بقاء العصمة، ولو قلنا: إن الورع التزام الطلاق لأحللنا المرأة لرجل ثان بدون يقين الحلّ،ولا يُشْكل على قول الناظم:
فإن يقع في الحكم شك فارجعِ***للأصل في النوعين ثم اتبعِ
قولُ النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»[(120)] لأن معنى قولنا: إن يقع في الحكم شك، أننا إذا شككنا هل هذه عبادة مشروعة أو لا، فيجب علينا أن نتجنّبها، وإن طابت نفوسنا بها، أو ركنت إليها، لأن الأصل في العبادات الحظر، وأما في المعاملات فالأصل فيها الحلّ، فإذا شككنا هل هذه المعاملة حلال أو حرام فإننا نأخذ بالحلّ، وإذا شككنا في هذا الحيوان هل هو من الحلال أو الحرام فنأخذ بالحلّ، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، لقوله تبارك وتعالى: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}} [البقرة: 29] فهذا أصل عظيم يقتضي أن جميع ما في الأرض حلّ لنا، فإذا شككنا هل هذا مما حرّمه الله أو لا، رجعنا للأصل وهو الحل، إلا أن يوجد قرائن ترجّح أنه من المحرّمات فحينئذ يكون من المشتبهات ونقول: إن من التقوى ترك المشتبهات والاحتياط في الحكم.
مسألة: امرأة لها طفل معوق، وكان مولوداً على هذا الوضع وكانت ترعاه هي وأبناؤها الكبار، وفي يوم وجدت أن الطفل قد مات، وهي لا تعرف في هذا اليوم هل وضعت الحليب لهذا الطفل أو لا، ولا تعرف هل إخوته أرضعوه أو لم يرضعوه، وقد رأته ميتاً فماذا عليها، علماً بأنها قد وجدت الحليب الذي وضعته في الثلاجة؟
نقول: هذه المرأة ليس عليها شيء، ومثل هذه الحال يقع كثيراً، فيشتبه على بعض الناس، تجد المرأة طفلها ميتاً على الفراش، ولا تدري هل انقلبت عليه أم لا، ونحن نقول قاعدة مفيدة: إذا حصل الشك هل كان القتل بسبب من الأم أو غيرها من الناس، أو كان ذلك بفعل الله عزّ وجل فإن الأصل براءة الذمة، ولا شيء على الأم ولا على غيرها مع الشك، لأننا لا يمكن أن نوجب على أحد شيئاً لا كفارة ولا دّية إلا إذا علمنا يقيناً أنه حصل القتل بسبب تعد منه أو تفريط، وعلى هذا فنقول لهذه المرأة: لا شيء عليك لا إثم ولا كفارة ولا دّية.
| |
|