الداعية جنة الفردوس Admin
عدد المساهمات : 4517 جوهرة : 13406 تاريخ التسجيل : 03/01/2013
| موضوع: منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 5- الشرح الثلاثاء مايو 28, 2013 11:38 pm | |
|
منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 5- الشرح 16 ـ والشرعُ لا يلزمُ قبلَ العلمِ***دليلُهُ فعلُ المُسِي فافْتِهِم =======================================================
هذه أيضاً قاعدة مهمة جداً وهي: هل تلزم الشرائع قبل العلم؟
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: تلزم في الأصول، ولا تلزم في الفروع. ومنهم من قال: بل تلزم في الجميع، ومنهم من قال: لا تلزم في الجميع.
والصحيح: أن الشرائع لا تلزم قبل العلم. وأن الإنسان قبل العلم غير مكلّف بها، وقد دل على هذا أدلة عامة وخاصة:
أما الأدلة العامة فمثل قوله تعالى: {{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}} [النساء: 165] ففي هذه الآية دليل على أنه لو عدم الرسل لكان للناس على الله حجة؛ حيث يقولون: يا ربنا إننا لم نعلم، لم ترسل إلينا رسلاً. وهذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ *}} [القصص: 59] .
الدليل الثالث: قوله تعالى: {{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ *}} [هود: 117] .
الدليل الرابع: قوله تعالى: {{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}} [الإسراء: 15] .
الدليل الخامس: قوله تعالى: {{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}} [التوبة: 115] أي: ما كان الله ليحكم بضلالهم فيؤاخذهم عليه حتى يبيّن لهم ما يتقون. والآيات في هذا كثيرة.
أما الأدلة الخاصة: فقد استدل الناظم بفعل المسيء في صلاته. وقد اشتهر عند العلماء ـ رحمهم الله ـ أن هذا الرجل وصف بأنه مسيء في صلاته مع أنه لم يتعمد، ولم يقصد، فيقال: لا يلزم من الإساءة الإثم، أي قد يكون الفعل سيئاً غير صالح لكن لا يأثم به صاحبه لوجود مانع، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر» فالخطأ هنا إساءة، لكن لما كان صادراً عن اجتهاد لم يؤاخذ به مع أنه خطأ، فيجوز أن نقول: هذا الرجل مسيء في صلاته؛ لأنه لم يأت بها على الوجه المشروع، وإن كان لا إثم عليه. وذلك فيما رواه الشيخان[(52)] عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً دخل المسجد، والنبي صلّى الله عليه وسلّم جالس في أصحابه فصلّى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فرد عليه السلام، وقال له: «ارجع فصلّ، فإنك لم تصلّ»، فرجع الرجل فصلى كما صلى أولاً، أي: صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ»، فرجع الرجل وصلّى كصلاته الأولى، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلّمني. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».
ولم يأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بقضاء ما سبق من الصلاة لأنه كان جاهلاً بأن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة. فقد أقسم أنه لا يحسن غير هذا، وإنما أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة لأن وقتها باق، فهو مطالب بها.
دليل ثان: أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم عمار بن ياسر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم في حاجة فأجنب عمار وليس عنده ماء، فتمرّغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة يعني: تقلّب فيه، ثم صلّى فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال له: «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا»، وضرب بيده الأرض ثم مسح بهما وجهه وظاهر كفيه[(53)]، ولم يأمره النبي بالإعادة مع أنه تيمّم تيممّاً غير مجزئ، لكن لجهله عذره النبي صلّى الله عليه وسلم.
دليل ثالث: جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إني استحاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصيام، وكانت لا تصلّي وهي مستحاضة، فبيّن لها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الواجب عليها أن تجلس أيام عادتها فقط، ثم تصلّي[(54)]، ولم يأمرها بقضاء الصلاة لأنها كانت جاهلة.
وبناء على هذه القاعدة نقول: إن من ترك واجباً دون أن يطرأ على قلبه وجوبه، وليس عنده من يسأله فلا قضاء عليه بلا إشكال، ويكثر هذا في النساء؛ يبلغن في زمن مبكر، ثم يتركن الصيام ظناً منهن أن الصوم لا يجب إلا بعد تمام خمس عشرة سنة، فهل نطبق هذا على القاعدة؟
الجواب: نعم، نطبقه على القاعدة، ونقول: ما دامت هذه المرأة لم يطرأ على بالها أن الصوم واجب، وهي في محل بعيد عن العلماء، كالنساء اللاتي في البوادي، فإننا لا نأمرها بقضاء الصوم، لأنها معذورة، والشرع لا يلزم قبل العلم.
ولهذا قال العلماء رحمهم الله: لو أن إنساناً أسلم في ناحية بعيدة عن بلاد الإسلام، وترك شيئاً من الواجبات، أو أتى شيئاً من المحرمات، أو أنكر شيئاً من المعلوم بالضرورة من الدين، فإنه لا يؤاخذ بذلك لأنه معذور.
ثم استدرك الناظم في هذه المسألة فقال:
17 ـ لكنْ إذا فَرَّطَ في التعلُّمِ***فذا مَحَلُّ نظرٍ فلْتَعْلَمِ
إذا فرط الجاهل في التعلُّم بأن أمكنه أن يتعلم شرائع الإسلام ولكنه تهاون وفرط، فهنا قد لا نعذره بجهله، لأنه أمكنه أن يرفع هذا الجهل بالتعلُّم، ولم يفعل، فهذا محل نظر.
وإذا قلنا: إنه محل نظر، صار معناه: أننا لا نعطي قاعدة عامة، بل نطبق الحكم في كل قضية بعينها بما يتناسب مع الحال الواقعة.
فإذا جاءنا شخص عرفنا أنه مفرط في التعلُّم، لكن بناءً على أن المعروف عندهم وفي بلدهم أن هذا الشيء مباح، أو أن هذا الشيء ليس بواجب، فهذا لا نلزمه بقضاء ما ترك، لأنه لم يطرأ على باله إطلاقاً أن هذا واجب.
أما إذا كان في مكان يمكن أن يتعلّم، وربما يكون في مكان قد شاع عند الناس أنه واجب، ولكنه تهاون، وقال كما يقول العامة: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فإننا نلزمه بقضاء ما ترك، لأن العذر هنا في حقه قد تضاءل. وهذا الذي قلناه في هذا النظم هو ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الاختيارات في أول كتاب الصلاة وهو قول وجيه[(55)].
مثال ذلك: رجل احتلم وله ثلاث عشرة سنة، ولكنه لا يصلّي ولا يصوم بناءً على ظنه أنه لا يبلغ إلا إذا تم له خمس عشرة سنة، فهل نلزمه بقضاء الصوم والصلاة أو لا؟
الجواب: ينبني على ما سبق، إذا كان جاهلاً جهلاً مطبقاً لا يدري عن شيء، فإننا لا نأمره بقضاء ما فاته، وأما إذا كان مفرطاً فإن هذا محل نظر.
ـ لو أن هذا الرجل الذي بلغ ثلاث عشرة سنة ولم يكن يغتسل من الجنابة، ويصلّي بلا اغتسال، فهل نلزمه بإعادة الصلاة؟
الجواب على القاعدة: نقول: ما دام هذا الرجل جاهلاً جهلاً مطبقاً، ولم يخطر بباله أن هذا واجب، فإننا لا نأمره بقضاء الصلاة، لأن بعض الناس عنده جهل عظيم: يظن أن حصول الجنابة بالإنزال، كخروج البول، لا يوجب غسلاً.
ـ لو أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم ظناً منه أن الجماع المحرّم ما كان فيه إنزال، ولكنه لم ينزل، فهل نلزمه بالكفارة أو نقول بفساد صومه؟
الجواب: لا، ليس عليه شيء لأنه جاهل.
على هذا نأخذ هذه القاعدة على أنها أصل من أصول الدين، وقد ذكرنا أدلة كثيرة عليها.
وهنا مسألة: لو كان الجهل في أمر يكون ردة وكفراً مع العلم، مثل أن يكون عاميٌّ قد عاش بين قوم يَدْعُون الأموات، ولم يبّين له أحد أن هذا من الشرك، ولكنه يدين بالإسلام ويقول إنه مسلم، فهل يعذر بدعائه غير الله؟
الجواب: نعم، يعذر، لأن هذا الرجل قد عاش على هذه الحال، ولم يبين له أحد أن هذا شرك، وهو يعتقد أن هذا من الوسائل وليس من المقاصد، يعني: يعتقد أن هذا الميت وسيلة له إلى الله عزّ وجل، يقربه إليه فنقول: هذا لا يكفر، لأنه منتسب إلى الإسلام، إلا إذا دعيَ إلى الدين الحق فاحتج بأن هناك علماء أعلم بهذا ولم يقولوا بهذا الأمر؛ فإن هذا قد قامت عليه الحجة، وهو مثل الذين قالوا: {{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}} [الزخرف: 22] فهؤلاء لم يعذروا، فالواجب أن يبحث.
أما إذا كان لا ينتسب إلى الإسلام ولم يعرف عن الإسلام شيئاً مثل من يكونون في غابات أفريقيا، أو في مجاهل آسيا، أو ما أشبه ذلك، فإننا نقول: إن أمره إلى الله، لا نحكم له بإسلام ولا بكفر، لكننا لا نلحقه بالمسلمين، بالتغسيل والتكفين والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين، لأنه لم يكن معتنقاً للإسلام، ولا منتسباً إليه، فنعطيه أحكام الكفار الذين عاش فيهم في الدنيا، أما في الآخرة فأمره إلى الله.
وهذا هو القول الراجح، أن أصحاب الفترة، ومن لم تبلغهم الدعوة نقول فيهم: الله أعلم. فيفرَّق بين شخص يدين بالإسلام ويقول إنه مسلم، وبين شخص عاش في أمة كافرة ولا يعرف عن الإسلام شيئاً.
مسألة: أصحاب الفترة ومن لم تبلغهم الدعوة هل نقول فيهم الله أعلم بما يصنعون لو عمّروا، أو أعلم بما يصنعون لو كلّفوا يوم القيامة؟
الجواب: الثاني هو المراد، لأن الصحيح أن أهل الفترة ومن مات من أطفال المشركين يكون أمرهم في الآخرة إلى الله، يكلفهم الله تعالى بما شاء من التكليف، فإن أطاعوا فهم من أهل الجنة، وإلا فهم من أهل النار. وقد ورد في هذا أحاديث ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه «طريق الهجرتين»[(56)].
فإن قال قائل: هذا منقوض بكون التكليف منقطعاً بالموت وأن الدار الآخرة ليس فيها تكليف؟
فالجواب: أن نقول: من قال: إن الآخرة ليس فيها تكليف؟! أليس الله تعالى قد قال: {{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ *}} [القلم: 42] فهنا كلّفوا بالسجود، ولكنهم لم يستطيعوا {{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}} [القلم: 43] .
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم العذر بالجهل في باب أصول الدين، وقال: إن المشرك لا يعذر بجهله، ولو كان منتسباً إلى الإسلام، ولو أخذنا بهذا القول لكان كثير من المسلمين اليوم كفاراً، لكن من كان قد علم، أو قد بلغه أن هذا العمل كفر ولكنه أصر وقال: {{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}} [الزخرف: 22] فهذا لا شك في كفره. ولا يمكن أن نقول إنه ليس بكافر.
وقوله: (فلتعلم) : هل المعنى فلتعلم أن هذا محل نظر أو المعنى فلتعلم ما يجب حتى تصل إلى العلم؟
يحتمل معنيين، والثاني هو الأهم أي: ما دام أن هذا الشيء محل نظر، فحقق المسألة حتى تصل فيها إلى العلم ويتبين لك الأمر.
18 ـ وكلُّ ممنوعٍ فللضرورةِ***يباحُ والمكروهُ عند الحاجةِ
قوله: (كل ممنوع) : مبتدأ وجملة (يباح) خبر المبتدأ، وللضرورة متعلق بـ (يباح) .
فإن قال قائل: لماذا جاءت الفاء مقترنة بالخبر (فللضرورة يباح) ؟
قلنا: لأن المبتدأ لما أشبه الشرط في العموم حسن أن ترتبط بخبره الفاء، ونظير هذا قولهم في المثال المعروف: الذي يأتيني فله درهم. (الذي) مبتدأ وجملة (فله درهم) خبر المبتدأ، وحسن أن يرتبط (الخبر بالفاء)، لأن المبتدأ وهو (الذي) اسم موصول يشبه الشرط في العموم.
وهذه القاعدة من القواعد الفقهية الأصولية التي دلّ عليها الشرع، كل شيء ممنوع فإنه يحلّ للضرورة، دليل هذا قول الله تبارك وتعالى في سورة المائدة: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ أَلْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}} أي: في مجاعة {{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [المائدة: 3] وقال في آية أخرى: {{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [البقرة: 173] وقال تعالى في آية عامة أعم مما ذكرنا: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] . فالممنوع يباح للضرورة، ولكن بشرطين:
الشرط الأول: أن نضطر إلى هذا المحرّم بعينه؛ بمعنى: أن لا نجد شيئاً يدفع الضرورة إلا هذا الشيء المحرّم، فإن وجد سواه فإنه لا يحل، ولو اندفعت الضرورة به.
الشرط الثاني: أن تندفع الضرورة به، فإن لم تندفع الضرورة به فإنه يبقى على التحريم، وإن شككنا هل تندفع أو لا، فإنه يبقى أيضاً على التحريم، وذلك لأن ارتكاب المحظور مفسدة متيقنة، واندفاع الضرورة به مشكوك فيه، ولا ينتهك المحرم المتيقن لأمر مشكوك فيه.
ومن ثم يختلف الحكم في رجل جائع لم يجد إلا ميتة، فهنا نقول: كُلْ من الميتة. فإذا قال: هذا انتهاك للمحرّم، قلنا: حلّ لك للضرورة، لأنه ليس عندك ما تأكله سوى هذا، ولأنك إذا أكلت اندفعت الضرورة به.
ورجل قيل له: إن تناول الخمر يَشفيك من المرض، فهنا نقول: لا يحلّ لك أن تتناول الخمر ولو قيل لك: إنه يشفيك من المرض، لماذا؟
أولاً: لأنه لا يتيقن الشفاء به فإنه ربما يشربه ولا يبرأ من المرض، فإننا نرى كثيراً من المرضى يتناولون أدوية نافعة، ثم لا ينتفعون بها.
ثانياً: أن المريض قد يبرأ بدون علاج، بتوكله على الله، ودعائه ربَّه، ودعاء الناس له، وما أشبه ذلك. هذا من حيث التعليل.
أما من حيث الدليل فقد جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»[(57)] فهذا الحكم معقول العلّة، لأن الله سبحانه لم يحرمه علينا إلا لأنه ضار بنا، فكيف يكون المحرّم شفاءً ودواءً؟!
ولهذا يحرم التداوي بالمحرّم، كما نص عليه أهل العلم، ولا يقال: هذا ضرورة؛ كما يظنه بعض العامة.
لو قال قائل: إنسان غَصَّ، وليس عنده إلا كوب خمر، فهل يجوز أن يشرب هذا الكوب لدفع الغصة؟
الجواب: يجوز، لأن الشرطين وجدا فيه.
فهو قد اضطر إلى هذا بعينه، ونتيقن زوال الضرورة به. فنقول: اشرب الخمر، ولكن إذا زالت الغصة فكفَّ عن الشراب.
لو قال قائل: رجل وجد لحماً مذبوحاً حلالاً ولحماً لحيوان ميت، فهل له أكل الميت لكونه مضطراً لذلك؟
الجواب: ليس له ذلك، لأن الضرورة تندفع بغيره، فلا يحلّ، لعدم تحقق الشرط الأول.
ولو قال: أنا عطشان وليس عندي إلا كوب الخمر. فهل يشرب؟
الجواب: لا، كما قال العلماء، لأنه لا تندفع به الضرورة، بل لا يزيده إلا عطشاً، فإذاً لا فائدة من انتهاك المحرّم، لأنه لا تندفع به الضرورة، فلم يتحقق الشرط الثاني.
ولو قال قائل: لو اضطر المريض إلى شرب الدم للتداوي به فهل يجوز له ذلك؟
الجواب: لا يجوز له ذلك، لانتفاء الشرطين.
مسألة: هل يدخل تحت قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، مسألة فك السحر بالسحر إذا قام المصاب بقراءة القرآن كثيراً، بل وبجميع أنواع العلاج دون فائدة؟
نقول: يدخل تحت هذه القاعدة على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله كما صرّحوا به[(58)]. قالوا: يجوز حلّ السحر بالسحر ضرورة، ولكن هذا القول ينشأ عنه مفسدة، وهي كثرة تعلّم السحر من أجل حلّ السحر، لأن حلّ السحر قد يكون بعوض كبير جداً، فيصبح الناس يتعلمون السحر ليفكوا السحر بالقيمة الكبيرة، فلهذا يمنع منه، ثم إننا نقول: إن حلّ السحر بالسحر قد يحصل وقد لا يحصل، ثم إنه لا يتعيّن حلّ السحر بالسحر، فقد يُحَلُّ السحر بالقرآن والأدوية المباحة وما أشبه ذلك فليس هناك ضرورة، لكننا نحكي كلام الفقهاء رحمهم الله وإن كنا لا نراه.
قوله: (والمكروه عند الحاجة) : المكروه تبيحه الحاجة، لأن درجة المكروه دون درجة المحرّم، المحرّم منهي عنه على سبيل الإلزام بالترك، ويستحق فاعله العقوبة، والمكروه منهي عنه على سبيل الأولوية، ولا يستحق فاعله العقوبة، ولهذا يباح عند الحاجة.
والفرق بين الحاجة والضرورة كالفرق بين الضروريات والكماليات، أي: أن الحاجة أدنى من الضرورة، بمعنى: أن الإنسان يكون محتاجاً للشيء، لكن لو فقده لم يتضرر.
مثاله: إنسان محتاج إلى ثوبين لدفع البرد، لكنه لو اقتصر على ثوب واحد لم يتضرر. فالثوب الثاني مع البرد يكون محتاجاً إليه، لكن لو فرضنا أنه لولا الثوب الثاني لهلك لكان هذا ضرورة.
مسألة: هل نحتاج إلى الشرطين المذكورين في المحرّم لأجل استباحة المكروه أو نقول: ما دام المكروه على الأولوية فلا حاجة إليهما، لأن الإنسان يجوز أن يتناوله ولو بلا حاجة؟
الجواب: الثاني، لكن إذا احتاج إليه ارتفعت الكراهة إطلاقاً وصار يتناول هذا الشيء على وجه المباح.
إذًا المكروه يباح للحاجة.
ومن أمثلة ذلك:
ـ الالتفات في الصلاة مكروه، لكن لو احتاج إليه أبيح، كما لو كان حوله صبي، فالتفت خوفاً على الصبي من أن يقع في حفرة، أو أن يتناول حارّاً أو ما أشبه ذلك، فهنا الالتفات جائز، مع أن الأصل كراهة الالتفات في الصلاة، لكن عند الحاجة لا بأس به.
ومن الحاجة ما رخص فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم للمُصلّي إذا أصابه البصاق أن يتفل عن يساره[(59)] وفي هذه الحال يلتفت.
ـ الحركة اليسيرة في الصلاة لغير مصلحتها تباح إذا احتاج إليها، كحمل النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامة بنت زينب رضي الله عنهما في الصلاة ووضعها عند السجود[(60)].
ـ ومنها: لو كان في صلاة نفل ونودي، وشك مَنِ المنادي ـ أبوه أو أمه أو أجنبي؟ والتفت ليتيقن، لأنه إذا كان المنادي أباه أو أمه وهو في نفل وجبت عليه الإجابة ما لم يعلم رضى أبيه وأمه بعدم الإجابة، فهو التفت لينظر من الذي ناداه، إن كان أمه أو أباه أجاب، وإن كان أجنبياً لم يجبه.
ـ وإذا سمع صارخاً يصرخ صراخاً مزعجاً، فالتفت ليستبرئ الخبر، هل هذا ضرورة أو حاجة؟
الجواب: الواقع أنه ينظر للحال، إذا كان الصراخ شديداً فظاهر الحال أنه ضرورة، وإذا كان دون ذلك فهو حاجة.
ـ أكل البصل لمن يحضر المسجد ذكر العلماء أنه مكروه، لكن لو احتاج إليه وأكل، فيجوز أكله ويكون مباحاً، على أن بعض أهل العلم يقول: إنه لا كراهة في أكل البصل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا خيبر وصاروا يأكلونها، نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأكلوها مع حضور الجماعة، فقالوا: إنها حرّمت. قال: «إنه ليس لي تحريم ما أحل الله»[(61)]، لكن إذا أخذنا بالقول بالكراهة فإنه عند الحاجة تزول الكراهة.
ـ في باب المياه ذكروا أن ما اسْتُعْمِلَ في طهارة مستحبة فإنه يكره استعماله في الطهارة، لكن عند الحاجة كما لو كان الماء فيه شيء من البعد، وليس عنده إلا هذا الماء المستعمل في طهارة مستحبة، فإنه يكون مباحاً للحاجة.
ـ قالوا: أيضاً في الضَبَّة من الفضة إذا ضُبِّب بها الإناء لانكساره فإنه يكره للشارب منه أن يباشر الضَبَّة من الفضة، فإذا احتاج إلى ذلك، فلا كراهة، كأن يكون الإناء متثلماً من كل جانب إلا من هذه الناحية، فهذه حاجة، لك أن تشرب ولا تُعَدُّ فاعلاً للمكروه، على أن القول بالكراهة في مباشرة الضَبَّة فيه نظر.
19 ـ لكنَّ ما حُرِّمَ للذريعةِ***يجوزُ للحاجةِ كالعَرِيَّةِ
هذا مستثنى من قوله: (وكل ممنوع فللضرورة يباح) لأن ظاهره أنه لا يباح المحرّم إلا عند الضرورة، فاستثنى من ذلك ما كان محرّماً للذريعة، فإن حكمه كالمكروه، يجوز عند الحاجة.
مثاله: العَرِيَّة وهي: عبارة عن بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، وأصل بيع الرطب بالتمر حرام، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن بيع التمر بالرطب فقال: «أينقص إذا جف؟» قالوا: نعم، فنهى عن ذلك[(62)].
ووجهه: أن بيع التمر بالتمر لا بد فيه من التساوي. ومعلوم أن الرطب مع التمر لا يتساويان، فإذا كان هذا الفلاح عنده الرطب على رؤوس النخل، وجاء شخص فقير ليس عنده دراهم يشتري بها رطباً يتفكه به مع الناس، لكن عنده تمر من العام الماضي؛ فلا حرج أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة لأنه ليس عنده دراهم، ولو باع التمر أولاً ثم اشترى به رطباً ففيه تعب عليه، وربما ينقص ثمن التمر، فيجوز له أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة بشروط:
1 ـ أن لا يتجاوز خمسة أوسق.
2 ـ وأن لا يدع الرطب حتى يتمر.
3 ـ وأن يكون الرطب مخروصاً بما يؤول إليه تمراً، مثل أن يقال: هذا الرطب إذا صار تمراً صار مماثلاً للتمر الذي بذله المشتري.
4 ـ وأن لا يجد ما يشتري به سوى هذا التمر.
5 ـ وأن يكون الرطب على رؤوس النخل، لئلا يفوته التفكه شيئاً فشيئاً.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يبيع التمر ويشتري الرطب؟ كما أرشد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء، وأراد تمراً جيداً أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمراً جيداً[(63)]، فلماذا نقول بالعَرِيَّة، ولا نقول: بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطباً؟
فالجواب على هذا: أولاً: أن السنّة فرقت بينهما، وكل شيء فرق الشرع فيه فإن الحكمة بما جاء به الشرع، لأننا نعلم أن الشرع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين مفترقين، وما فرق الشرع بينهما وظننا أنهما متماثلان، فإن الخطأ في فهمنا، فيكفي أن نقول: جاء الشرع بحلّ هذا ومنع هذا، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلاً عن هذا، فيقال: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل، وهذا ربا صريح لا يحلّ.
أما في مسألة العَرِيَّة فيجب أن يخرص الرطب بحيث يساوي التمر لو أتمر، بمعنى: أننا نخرص الرطب بحيث يكون هذا الرطب إذا يبس وصار تمراً على مقدار التمر الذي اشترى الرطب به.
ثانياً: أن نقول: إن ربا الفضل إنما حُرّم لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة، وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين متماثلين جنساً ووصفاً، بل لا بد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل، وتتشوف النفوس إلى زيادة الدَّين إذا تأجل، وتقول النفس: إذا كانت الزيادة تجوز لطيب الصفة، والنقص يجوز لرداءة الصفة، فلتجز الزيادة لزيادة المدة بتأخير الوفاء، فترتقي النفس من هذا إلى هذا، والنفس طماعة لا سيّما في البيع والشراء، ولا سيّما مع قلة الورع كما في الأزمنة المتأخرة، لذلك سُدَّ الباب، وقيل: لا يجوز ربا الفضل، ولو مع التقابض في المجلس.
والذي يمكن أن يقع في العرية هو ربا الفضل، وتحريم ربا الفضل علمنا من التقرير الذي ذكرناه أنه إنما حرّم لئلا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة، والذي حرّم لكونه ذريعة فإنه يباح عند الحاجة.
فإن قال قائل: الفقير الذي لا دراهم عنده ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر؟
الجواب: ليس هناك ضرورة، لأنه يمكن أن يعيش على التمر، لكن هناك حاجة، يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، فلهذا رخِّص له في العرية.
ـ مثال آخر: النظر إلى وجه المرأة الأجنبية حرام، لأنه وسيلة إلى الفاحشة، ولهذا جاز للحاجة، فالخاطب يجوز أن يرى وجه مخطوبته، والشاهد إذا أراد أن يعرف عين المرأة المشهود عليها، يجوز أن يرى وجهها ليشهد على المرأةِ بعينها، لأن التحريم هنا تحريم وسيلة، وما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة.
ـ مثال آخر: الحرير على الرجال حرام، لأنه وسيلة إلى أن يتخلق الرجل بأخلاق النساء من الليونة والرقة، والتشبه بالنساء حرام، فلما كان تحريمه تحريم وسيلة جاز عند الحاجة، فإذا كان الإنسان فيه حِكَّة يجوز أن يلبس الحرير من أجل أن تبرد الحِكَّة، لأن تحريمه تحريم وسائل.
مسألة: ذكرنا أن المحرم إذا كان سداً للذريعة يجوز عند الحاجة، فهل من تطبيقات هذه القاعدة الصلاة في مسجد فيه قبر لإدراك الجماعة، حيث لم يجد إلا هذا المسجد في طريقه؟
الجواب: المسجد المبني على قبر لا تصح الصلاة فيه، ولا حاجة إلى الصلاة في هذا المسجد في الواقع، إذ إن الإنسان يمكن أن يصلّي في أي مكان من الأرض، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً»[(64)].
20 ـ وما نُهِيْ عنهُ من التَّعَبُّدِ***أو غيرِهِ أَفْسِدْهُ لا تردّدِ
قوله: (ما نهي عنه من التعبد) : (ما) اسم موصول ويحتمل أن تكون شرطية، فإن كانت اسماً موصولاً فلا إشكال في قوله: (أفسده) لأن الاسم الموصول لا يجب أن يقترن خبره بالفاء، وإن كانت شرطية فإنه يشكل، لأن جواب الشرط إذا كان فعل أمر وجب أن يقترن بالفاء، ولكن قد تحذف الفاء في جواب الشرط لضرورة الشعر ومنه قول الشاعر:
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها[(65)]
أصله: فالله يشكرها لكن حذفت الفاء للضرورة.
والحريري رحمه الله جعل الشعر صلفاً فقال:
وجائزٌ في صنعةِ الشعرِ الصَّلفْ***أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف[(66)]
(من التعبد) : (من) بيانية، أي: من العبادات، أي: مما يتعبد به.
قوله: (أو غيره) : أو غير ما يتعبد به كالأنكحة والأوقاف والمعاملات، البيع، والشراء، والإجارة، والرهن.
قوله: (أفسده لا تردد) : أي احكم بفساده (لا تردد) صيغة نهي أي: لا تتردد في ذلك.
ومعنى هذه القاعدة: أن ما ينهى عنه من العبادة إذا فعله الإنسان وقع فاسداً، وكذلك ما نهي عنه من غير العبادة إذا وقع على الوجه الذي نهي عنه فإنه يقع فاسداً، وهذا معنى قولهم: النهي يقتضي الفساد.
ودليلها في غير العبادة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»[(67)] والشرط هنا يشمل الوصف في العقد ويشمل العقد نفسه، لأن حقيقة العقد أنه شرط، فكل من المتعاقدين قد اشترط على نفسه أن يلتزم للآخر بمقتضى العقد، و«كتاب الله» المراد به حكمه.
ـ فلو باع الإنسان الذي تلزمه الجمعة بيعاً بعد نداء الجمعة الثاني، وقع هذا البيع فاسداً لأنه بيع منهي عنه.
ـ ولو باع بيضاً لمن يلعب به القمار كان البيع فاسداً، وذلك لأنه بيع منهي عنه، لقوله تعالى: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] .
ـ ولو اشترى الإنسان على شراء أخيه، فإن الشراء يكون فاسداً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبع بعضكم على بيع بعض»[(68)].
وينبني على فساد البيع أنه يجب على المشتري أن يرد السلعة إلى البائع، ويجب على البائع أن يرد الثمن إلى المشتري إن كان قد قبضه، ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أُتِيَ إليه بتمر جيد، فسأل عنه فقالوا: كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، يعني: من التمر الرديء، والصاعين بالثلاثة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ردوه» فأمر برده[(69)]. وهذا نتيجة القول بالبطلان، لأننا لو قلنا: يبطل، وبقيت السلعة في يد المشتري، والثمن في يد البائع لم يكن لقولنا: إنه باطل معنى ولا ثمرة، بل لا بد من إعادته، ولو فرض أنه تعذّرت الإعادة لطول المدة وتصرف كل منهما في ما آل إليه، فحينئذ قد يقال: إنه يعفى عنه أو يقال: إنه بالنسبة للمشتري يرد مثله للبائع، والبائع يرد القيمة للمشتري، وهي القيمة التي وقع العقد عليها فيما سبق.
ـ ومن ذلك: لو أعتق الراهن العبد الذي رهنه، فالصحيح أنه لا يصح عتقه بناءً على القاعدة، وإن كان بعض العلماء قال: يصح وتؤخذ قيمته رهناً مكانه.
ـ لو باع الراهنُ رهنَه لم يصح لأنه منهي عن بيعه، لما فيه من إسقاط حق المرتهن.
ـ لو أوصى لوارث، لم تصح الوصية، لأن النهي عاد إلى نفس الوصية، لكن إذا كان النهي عن الشيء لحق المخلوق فأسقطه صحت، ولهذا جاء الحديث: «لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة»[(70)]. كما لو باع الرهنَ ووافق المرتهن على البيع، فإن البيع يصح على القول الراجح الذي هو جواز تصرف الفضولي.
ـ لو باع الإنسان شيئاً مجهولاً لم يصح البيع، لأنه منهي عنه بذاته. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن بيع الغرر»[(71)] والمجهول غرر.
ـ وفي النكاح، لو تزوج الإنسان بعقد شِغَار كان العقد فاسداً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الشغار[(72)]؛ ونكاح الشغار أن يزوج الإنسان مُوْلِيَتَهُ، على أن يزوجه الآخر مُوْلِيَتَهُ، بدون مهر، أو بمهر ينقص عن مهر مثلها عادة.
أما لو زوّج أحدهما الآخر بمهر، ورضيت كل من المرأتين، وكان كل من الرجلين كفئاً للمرأة، فهذا ليس بشغار، إلا على رأي بعض أهل العلم.
ـ ولو تزوج في العدة لم يصح، لقوله تعالى: {{وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}} [البقرة: 235] والأمثلة على هذا كثيرة.
ودليل فساد ما نهي عنه من العبادة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(73)] أي مردود.
وأما الدليل العقلي على فساد ما نهي عنه: أن ما نهى الشارع عنه إنما قصد من العبد أن يتجنّبه ولا يفعله، فإذا صححناه فهذا إقرار له، والإقرار على الحرام حرام، بل ويكون مضاداً لله عزّ وجل ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم لأن ما نهي عنه شرعاً فالمطلوب عدمه، فإذا قدر أن صححناه فهذا يعني إثباتَه، وإثباتُه مضادة لله ورسوله.
ودليل عقلي آخر: أنه لما نهى الشارع عنه علمنا أنه لا يرضاه، وما لا يرضاه فليس مقبولاً عنده، قال الله تعالى: {{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}} [الزمر: 7] .
ـ مثاله في الصلاة، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس»[(74)]. فلو أن إنساناً صلّى نفلاً مطلقاً في هذا الوقت فإن صلاته تكون باطلة غير مقبولة، لأنها منهي عنها.
ـ وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن صوم يومي العيدين[(75)]، فلو صام إنسان يوم عيد الفطر، أو يوم عيد الأضحى، فصومه باطل، لأنه فعل عبادة منهيّاً عنها.
وكذلك لو صامت المرأة وهي حائض فصومها باطل.
ـ وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمسيء في صلاته: «ارجع فصلّ فإنك لم تصل»[(76)].
ـ وقال للذي صلّى خلف الصف منفرداً: «أعد صلاتك»[(77)]. أمره بإعادة الصلاة لأنه وقف في مكان منهي عن الوقوف فيه.
فصار عندنا دليل من النقل والعقل على فساد ما نهي عنه.
مسألة: لو صلّى في مكان مغصوب فهل تنطبق عليه هذه القاعدة؟
الجواب: لا تنطبق عليه القاعدة، لأن المكان المغصوب لم يُنْهَ عن الصلاة فيه بعينها، إذ لم يأت في الشرع: لا تصلّوا في المكان المغصوب، لكن نهينا عن الغصب، فليس النهي عائداً إلى الصلاة بعينها.
وكذلك لو توضأ بماء مغصوب صح وضوؤه على القول الراجح، لأننا لم نُنْه عن الوضوء بالماء المغصوب، وإنما نهينا عن غصب الماء.
فالقول الراجح في الصلاة في المكان المغصوب أو الوضوء بالمغصوب أو لباس الثوب المغصوب في الصلاة أن العبادة صحيحة.
مسألة: لو وجد إنسان ماءً مغصوباً فهل يتيمّم أو يتوضأ منه؟
الجواب: يتيمّم ولا يتوضأ به. وأما قوله: {{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}} [المائدة: 6] . فهذا الماء ليس ملكاً له، فهو كالمعدوم
| |
|