الداعية جنة الفردوس Admin
عدد المساهمات : 4517 جوهرة : 13406 تاريخ التسجيل : 03/01/2013
| موضوع: منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 2- الشرح الثلاثاء مايو 28, 2013 11:27 pm | |
| منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 2- الشرح ====================================================== 3 ـ ثم الصلاةُ معْ سلامٍ قدْ أُتِمْ***على الذي أُعْطِي جوامعَ الكَلِمْ
قوله: (ثم الصلاة مع سلام قد أتم) : ثم بعد حمد لله عزّ وجل والثناء عليه ووصفه بما يليق به ـ جلّ وعلا ـ تكون الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والترتيب هنا مناسب، لأن حق الله مقدم على حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيبدأ أولاً بحق الله ثم بحق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو الموافق للكتاب والسنّة، فإن حق الله تعالى يُذْكَر قبل حق رسوله صلّى الله عليه وسلّم. ألم تر إلى التشهد في الصلاة يقدم وجوب الثناء على الله عزّ وجل وتعظيم الله عزّ وجل على السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا تقول: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»[(10)]، ثم حق النفس ثم حق الصالحين. وكما درج عليه علماؤنا ـ رحمهم الله ـ، يبدؤون أولاً بالثناء على الله سبحانه وتعالى ثم بالصلاة والسلام على الرسول صلّى الله عليه وسلم.
(ثم الصلاة مع سلام قد أتم) : جمع بين الصلاة والسلام لأنه أكمل، كما أمر الله تعالى فقال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}} [الأحزاب: 56] ولو اقتصر على الصلاة وحدها، أو على السلام وحده، لكان ذلك جائزاً غير مكروه على القول الراجح. فإن النبي عليه الصلاة والسلام علّم أمته التشهد أول ما علمهم ليس فيه صلاة، كان التشهد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»[(11)] ليس فيه صلاة حتى قالوا: يا رسول الله، عَلِمنَا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك[(12)]؟ فعلّمهم.
فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يكره إفراد الصلاة عن السلام، ولا السلام عن الصلاة، ولكن الجمع بينهما أفضل.
(قد أتم) : يحتمل أن الناظم قالها تتميماً للشطر، ويحتمل أن يكون المراد بها أن الله عزّ وجل أكد التسليم بالمصدر، فقال: {{وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}} [الأحزاب: 56] وهذا يدل على أنه ينبغي أن يسلّم تسليماً تاماً، لأن المصدر يفيد التأكيد، كما قالوا في قوله تعالى: {{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}} [النساء: 164] أنه يفيد تأكيد الكلام ونفي المجاز، فقولنا: «قد أتم» أي وقع متمماً مكملاً.
(ثم الصلاة) : الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: التعبد لله بأقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
وهنا نقول: ما الفائدة من أن نعرف معناها في اللغة ومعناها في الشرع؟
الفائدة: هي أن الصلاة إذا جاءت في كلام أهل اللغة تحمل على عرفهم، وهو الدعاء، وإذا جاءت في كلام الشرع تحمل على عرف الشرع، وهي: العبادة ذات الأقوال والأفعال المعلومة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، ما لم يوجد دليل على أن هذا غير المراد فإن وجد دليل على أن هذا غير مراد فإنها لا تحمل عليه، مثل قوله تعالى: {{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}} [التوبة: 103] . الصلاة هنا: الدعاء قطعاً، ودليل ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فسّرها بفعله، فكان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صلِّ على آل فلان»[(13)].
وصلاة الله على رسوله أصح وأحسن ما قيل فيها ما اعتمده المحققون من العلماء: أنها ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، وهم الملائكة. يذكره بالخير على وجه التكرار.
نحن إذا صلّينا عليه مرة صلّى الله بها علينا عشراً، ولله الحمد. ولهذا ينبغي أن نكثر من الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بقدر المستطاع.
أما السلام، فالسلام اسم مصدر «سَلَّم»، والمصدر من «سَلَّم» «تسليم»، مثل «كلَّم» مصدره «تكليم»، واسم المصدر منه «كلام».
والسلام هو السلامة من الآفات الحسية والمعنوية. والآفات الحسية هي الظاهرة، مثل: آفات في البدن من أمراض أو غيره، وآفات في الأموال، وآفات في المجتمع؛ من جدب، وقحط، وخوف. أما السلامة من الآفات المعنوية فهو أن يسلم الله دين الإنسان مما يوجب الانحراف.
وبالنسبة للرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا دعونا له بالسلام فالسلام الحسي غير وارد لأنه قد توفي صلّى الله عليه وسلّم. أما السلام المعنوي فإنه وارد، وهو أن يسلم الله شريعته من كل آفة، لأن سلامة شريعته سلامة له لا شك. كذلك يمكن أن نقول: يراد به السلام الحسي أيضاً، وذلك يوم القيامة، كما جاء في الحديث: أن دعاء الرسل عند عبور الصراط: (اللهم سلّم سلّم)[(14)]، فجمع الناظم في قوله: (ثم الصلاة مع سلام قد أتم) بين زوال المكروه وذلك بالسلام، وبين حصول المقصود وذلك بالصلاة.
قوله: (على الذي أعطيَ جوامع الكلم) : وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا من خصائصه كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه «أعطيَ جوامع الكلم»[(15)]، واختصر له الكلام[(16)].
جوامع: جمع جامعة أي: الكلمة الجامعة، والكلم بمعنى: الكلمات.
فالرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول كلمات يسيرة تتضمن معاني كثيرة. أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»[(17)] كيف كانت هاتان الجملتان تشملان الدين كله، بل تشملان أعمال العباد كلها؟! ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(18)] كيف يشمل كثيراً من الأحكام الشرعية وتوزن به الأعمال الظاهرة. ولهذا قال أهل العلم: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» هذا ميزان الأعمال الباطنة ـ أعمال القلوب ـ وإن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ميزان للأعمال الظاهرة. وبهذا يتم الدين كله، ويتحقق الشرطان الأساسيان وهما الإخلاص لله والمتابعة للرسول صلَّى الله عليه وسلم.
ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم لما شُكي إليه أن الإنسان يجد في نفسه شيئاً يحب أن يكون فحمة ولا يتكلم به. أمر عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة من الشيطان الرجيم وأن يقرأ الإنسان: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} {اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}}[(19)] [الإخلاص: 1 ـ 4] . ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم لمن ابتلي بالوسوسة حيث أعطاه كلمتين تحجبان عنه كل وساوس الشيطان، فقال: «لا يزالون يتساءلون من خلق كذا من خلق كذا، من خلق كذا» أي: لا يزال الشيطان يقول للإنسان: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فليستعذ بالله ولينته»[(20)] أي: ليستعذ بالله من شر الشيطان ووساوسه، ولينته أي: ليعرض عنه، والفطرة تدلك أن الخالق هو الله، وبذلك ينقطع ويحسم الشر والوساوس.
هاتان الكلمتان لو أن الفلاسفة والمتكلمين جمعوا عدة ورقات ما اهتدوا إلى ما يدل عليه هذا الكلام المختصر، بل تجد الفلاسفة لمَّا تكلموا على مسألة التسلسل ملؤوا الصفحات كلاماً هراء لا تخرج منه بفائدة.
ثم أرأيت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»[(21)] كلام قليل لكن يتضمن معاني كثيرة.
(جوامع الكلم) : وإنما اختير هذا اللفظ في هذه المنظومة لأن هذه المنظومة تشتمل على القواعد والأصول، والقواعد والأصول من جوامع الكلم في الواقع، لأن القاعدة تشتمل على أشياء كثيرة، بألفاظ قليلة.
إذاً فالرسول صلّى الله عليه وسلّم أعطيَ جوامع الكلم، ولا ينافي هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحياناً يسهب في المقال ويقول قولاً موسعاً، وذلك في الحال التي تقتضي ذلك، لأن لكل مقام مقالاً. فالنبي صلّى الله عليه وسلّم من حيث الأصل قد أعطيَ جوامع الكلم ولكنه أحياناً يسهب لدعاء الحاجة إلى ذلك. كما نجد في القرآن الكريم الآيات التي نزلت في مكة غالبها الاختصار والجمع، والآيات التي نزلت في المدينة الغالب فيها البسط والاتساع، لأن لكل مقام مقالاً.
ثم بيّن من الذي أعطيَ جوامع الكلم، فقال:
4 ـ محمدِ المبعوثِ رحمةَ الوَرَى***وخيرِ هادٍ لجميعِ مَنْ دَرَى
قوله: (محمد المبعوث) : (محمد) : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي صلّى الله عليه وآله وسلّم. و (محمد) : علم من أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وله أسماء متعددة، منها في القرآن: محمد وأحمد. قال تعالى: {{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}} [الفتح: 29] {{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}} [آل عمران: 144] {{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}} [الصف: 6] وسبحان الله! الذي ألهم عيسى عليه السلام أن يقول أحمد بدلاً من محمد، لأن أحمد اسم تفضيل يدل على أنه أحمد الناس لله، وعلى أنه أحق الناس أن يحمد، لأنه يخاطب بني إسرائيل، حتى يعرف بنو إسرائيل فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقدره قبل أن يبعث ولا يفضلوا عليه أحداً.
(محمَّد) : مُفَعَّل لكثرة محامده عليه الصلاة والسلام، فإن محامده تفوق محامد الناس بكثير.
(المبعوث) : أي المرسل، والبعث هو الإرسال. قال الله تعالى: {{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}} [النحل: 36] والباعث هو الله عزّ وجل.
وقوله: (رحمة الورى) : رحمة هنا مفعول من أجله عاملها المبعوث. قال الله تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ *}} [الأنبياء: 107] فهو مبعوث ومرسل لرحمة الخلق أي: ليرحم الله الخلق برسالته.
(الورى) : هم الخلق وقد أُرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإنس والجن عامة إلى يوم القيامة، وكان غيره من الأنبياء يبعث إلى قومه خاصة.
وقوله: (وخير هاد) : هذه صفة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، لا شك في هذا، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير الهداة، فهو أهدى الناس سبيلاً، وهو أقوم الناس في الدعوة إلى الله عزّ وجل. و (هاد) : اسم فاعل من الهداية وهي هنا بمعنى الدلالة، وليست بمعنى التوفيق، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدل الخلق إلى الحق، ولا يوفقهم للحق، إذ التوفيق للحق بيد الله عزّ وجل، كما قال تعالى: {{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}} [القصص: 56] والهداية عند أهل العلم قسمان:
1 ـ هداية دلالة وإرشاد، وهذه تكون للرسول صلّى الله عليه وسلّم ولغيره، كما هي لله تعالى أيضاً، ومن أمثلتها قوله تعالى: {{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ}} [الشورى: 52] وقوله تعالى: {{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}} [السجدة: 24] .
2 ـ هداية توفيق، وهذه لا تكون إلا لله، ومن أمثلتها قوله تعالى: {{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}} [القصص: 56] . إذاً (خير هاد) أي: دال.
قوله: (لجميع من درى) : أي: من كان ذا دراية وعلم، فإنه يعرف هداية النبي صلّى الله عليه وسلّم له. أما الأعمى الذي أعمى الله قلبه وبصيرته، والعياذ بالله، فهذا لا يدري عن هداية النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل قد ينكرها. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}} [المطففين: 12 ـ 14] هذا يقول عن القرآن العظيم الذي فيه أعظم الهداية: إنه أساطير الأولين، فأبطل الله قوله بقوله: {{كَلاَّ}}، فالعلة إنما هي في قلب هذا الرجل حيث {{رَانَ}} على قلبه ما كان يكسب.
5 ـ وبعدُ فالعلمُ بحورٌ زاخِرَهْ***لنْ يبلغَ الكادحُ فيه آخرَهْ
قوله: (وبعد) : أي: بعد ما ذكر من الثناء على الله، والصلاة على نبيه صلَّى الله عليه وسلم.
قوله: (فالعلم) : الفاء رابطة لشرط مقدّر أي: مهما يكن من شيء بعد ذلك فالعلم هو الذي يقع بعد. وقوله: (العلم) يشمل جميع العلوم، علم الشريعة، علم اللغة، علم الهندسة، علم الصنائع، كلها (بحور زاخرة) أي: واسعة لا يصل الناس إلى غايتها. قال الله تعالى: {{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}} [الإسراء: 85] ولهذا الآن يترقى العلم في الصناعات ترقياً يَبْهرَ، وبالمقارنة ما بين هذه السنة مثلاً وقبل عشر سنوات نجد الفرق العظيم، وكذلك العلم الشرعي بحور، فرجل ابتدأ طلب العلم يحفظ ـ مثلاً ـ مائة مسألة، ورجل آخر قد بلغ في العلم مبلغاً يعرف ألف مسألة، حسب ما أعطاه الله عزّ وجل من العلم والفهم.
ومع ذلك مهما بلغ الإنسان فإنه قاصر، ولن يبلغ آخره، حتى العلماء الجهابذة لا يصلون إلى منتهى العلم أبداً. فالعالم الذي بلغ من العلم مبلغاً كبيراً قد تأتيه المسألة فيتوقف فيها، كما يوجد في كتب العلماء السابقين، تجده يحكي خلافاً مثلاً من دون ترجيح يعني: أنه متوقف، وإلا كان الواجب عليه أن يرجّح، لأجل أن يبلّغ الناس علمه.
قوله: (لن يبلغ الكادح فيه آخره) : الكادح هو العامل المجد المجتهد في العمل لا يمكن أن يبلغ آخر العلم. وهذا هو الواقع، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: {{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}} [الإسراء: 85] وقول الله تعالى: {{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}} [يوسف: 76] حتى يَنْتَهِي إلى عالم الغيب والشهادة جلّ وعلا.
ولكن الناظم استدرك أشياء تقرّب العلم وتجمعه، فقال:
6 ـ لكنَّ في أصولِهِ تَسْهِيلا***لنَيْلِهِ فاحرصْ تجدْ سبيلا
يعني: أنه من نعمة الله عزّ وجل أن جعل لهذه البحور الزاخرة أصولاً تسهل نيلها، وهذه الأصول هي القواعد والضوابط، وليست هي الأصول المذكورة في أول هذه المقدمة، لأن الأصول المذكورة في أولها هي الأدلة التي يعتمد عليها في فهم الأحكام، أما هنا فالمراد بالأصول القواعد والضوابط التي تجمع شتات العلم.
قوله: (لكن في أصوله) : أي: أصول العلم (تسهيلاً لنيله) ؛ لأن الإنسان إذا عرف الأصل بنى عليه مسائل كثيرة. فالأصول تجمع لك مسائل كثيرة في كلمتين يسيرتين.
نضرب لذلك مثلاً:
إذا شك الإنسان في طهارة الماء أو نجاسته، فالأصل الطهارة. فكلما جاءت مسألة مثل هذه، فابن على هذا الأصل.
جاءك رجل يقول: أنا عندي إناء فيه ماء أصفر اللون. تقول له: الماء طاهر، لأن الأصل الطهارة.
وجاءك شخص آخر يقول: وجدت في ثوبي بقعة لا أدري أنجاسة هي أم لا؟ تقول: الأصل الطهارة..
فأنت إذا عرفت الأصول، وهي أن الأصل في الأشياء الطهارة فرّعت عليها مسائل لا يحصيها إلا الله، فعلى طالب العلم أن يستنبط الأصول من كلام أهل العلم.
ومن الأصول وإن كانت ليست أصولاً واسعة، ما تجدونه في كلام الفقهاء من التعليلات. فهي في الحقيقة أصول لأنها موجبات الحكم، فهي أدلة من جهة، وهي أيضاً تشمل مسائل كثيرة.
أرأيتم قول الله عزّ وجل: {{قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}} [الأنعام: 145] نأخذ من هذا التعليل أن كل رجس حرام، لأن الله علل تحريم هذه الأشياء بأنها رجس. فأخذنا من هذا قاعدة (أن كل نجس حرام).
وليس كل حرام نجساً، فهذا الحرير مثلاً حرام على الرجل وليس بنجس. والمغصوب حرام وليس بنجس.. والسم حرام وليس بنجس.. وهكذا.
إذاً التعليلات التي يعلل بها الفقهاء هي في الحقيقة بمنزلة القواعد.
أنا أذكر في زمن الطلب أني كنت أتتبع شرح ابن دقيق العيد على عمدة الأحكام[(22)]، لأن هذا الشرح من أعظم الشروح في مسألة الرجوع إلى القواعد الأصولية، وإن كان من جهة الأحكام، ومن جهة الكلام على الألفاظ ليس بذاك الواسع، لكنه في الحقيقة من جهة القواعد الأصولية والفقهية يعتبر مرجعاً. كنت أتتبع هذا الشرح كلما وجدت فيه قاعدة كتبتها واستفدت من ذلك.
كذلك بعض طلبة العلم تتبع الروض المربع شرح زاد المستنقع، وكلما ذكر تعليلاً قيّده، فصار يستفيد من هذا...
المهم أن القواعد مفيدة لطالب العلم، وهناك من طلبة العلم من يهتم بحفظ المسائل فقط دون القواعد، فتجد أن عنده قصوراً عظيماً، إذا جاءته مسألة خارجة عما كان يحفظ توقف، لا يعرف كيف يصرفها، لأنه ليس عنده قاعدة، لكن الذي عنده قاعدة يرد جزئيات المسائل إلى أصولها، وينتفع انتفاعاً كثيراً.
قوله: (لنيله فاحرص تجد سبيلاً) : أي: احرص على هذه الأصول تجد سبيلاً للوصول إلى العلم وإلى إدراك العلوم
| |
|