الداعية جنة الفردوس Admin
عدد المساهمات : 4517 جوهرة : 13406 تاريخ التسجيل : 03/01/2013
| موضوع: سلسلة الأحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية (5) الجمعة يونيو 14, 2013 9:41 pm | |
|
سلسلة -------- الأحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية
================
(5)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_: "والجهاد: منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه"(3). واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة، وذلك من قبل أعدائها الكفرة، وأذنابهم المنافقين؛ فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك.
وكما هو مقرر عند أهل العلم أن جهاد الكفار يصبح متعيناً على أهل كل بلد عند ما يغزون في عقر دارهم، ويجب على كل قادر أن ينفر لصد العدوان وقتال الكفار حتى يجلوا عن أرض المسلمين، والجهاد في هذه البلدان يكون بالنفس والمال ولا يشترط له شرط كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ بقوله: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء : أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(4).
ويجب على بقية بلدان المسلمين أن ينصروا إخوانهم في بلدانهم المغزوة بأن يمدوهم بالمال والسلاح والبيان والدعاء، وإذا لم يكف المقاتلون في البلد المعتدى عليه في صد العدوان وجب على البلاد المجاورة لهم أن تمدهم بالرجال والمال حتى يكتفوا كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ حيث يقول: "وإذا دخل العدو بلاد المسلمين فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذا بلاد المسلمين كلها منزلة البلدة الواحدة"(5).
كما يجب على من كان من المسلمين ذا خبرة عسكرية في صنف من فنون القتال أن ينفر لنصرة إخوانه في البلدان المغزوة؛ قال الله _تعالى_: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (التوبة:38- 41).
هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقر دارها عقدياً واجتماعياً وإعلامياً واقتصاداً وثقافياً، وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل لافت وخطير، فما هو الواجب على المسلمين في هذه البلدان لمدافعة هذا الغزو الخطير؟
فقد تقرر فيما سبق من الكلام إن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن، فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة و المسموعة والمشاهدة منها أقول: إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف، وتقديماً للدنيا الفانية على محبة الله _عز وجل_ ورسوله والجهاد في سبيله _تعالى_، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله _تعالى_: " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:24).
هذا وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال ولكن ما الذي يمنع من أن تشمل أيضاً القاعدين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم السافلة، والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها؟
فلقد قال الله _عز وجل_ آمراً نبيه محمدا _صلى الله عليه وسلم_ في سورة مكية بمجاهدة الكفار بالقرآن قبل فرض الجهاد عليهم بالقتال؛ وذلك في سورة الفرقان حيث يقول الله _عز وجل_: "فلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً" (الفرقان:52).
وقد مر بنا كلا م شيخ الإسلام _رحمه الله تعالى_: "والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكن" ولا يعذر أحد من المسلمين في النفرة لهذا الجهاد كل بحسب علمه وقدرته؛ يقول ابن القيم _رحمه الله تعالى_: "ولله _سبحانه_ على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها: فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله _صلى الله عليه وسلم_، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس ديناً والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المُتحزِّن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتذبل وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل"(6).
السنة الثانية: سنة الابتلاء والتمحيص: قال الله _عز وجل_: " الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون ولقد فتنا الذين من قبلهم ليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين َ" (العنكبوت:1،2) وقال _تعالى_: " وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (آل عمران: من الآية154) وقال _سبحانه وتعالى_: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم" (آل عمران:179).
يقول الإمام ابن كثير _رحمه الله تعالى_ عن الآية الأخيرة: "أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر"(7).
ويقول سيد قطب _رحمه الله تعالى_: "ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله _سبحانه_ وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل، وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
وكل هذا يقتضى أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله _سبحانه_ أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة!"" class="postlink" target="_blank" rel="nofollow">(.
وبالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة في بلدان المسلمين اليوم - وذلك في الصراع بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والنفاق سواء ما كان منه صراعاً عسكرياً جهادياً باليد والسنان كما هو الحال في بلاد العراق وفلسطين وما صاحب ذلك من التداعيات أو ما كان منه صراعاً عقدياً وأخلاقياً كما هو الحاصل في عامة بلدان المسلمين - أقول: بالنظر لهذا الصراع في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أنه هذه السنة الربانية الثانية تعمل الآن عملها بإذن ربها _سبحانه وتعالى_ لتؤتي أكلها الذي أراده الله _عز وجل_ منها؛ ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمييز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة؛ وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم، فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أبواب الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وقبل هذا التمحيص والتمييز فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله _عز وجل_ عباده المؤمنين لن تتحقق. هكذا أراد الله _عز وجل_ وحكم في سننه التي لا تتبدل: أن محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي _رحمه الله تعالى_: أيها أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله _عز وجل_ أن قال: "لا يمكن حتى يبتلى"، ولعله فهم ذلك من قوله _تعالى_: "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (آل عمران:141).
وللتدليل والتأكيد على أن مجتمعات المسلمين تعيش اليوم حالة شديدة من الابتلاء والتمحيص والفتنة في هذه النوازل: أذكر بعض المواقف التي أفرزتها هذه السنة - أعني سنة الابتلاء والتمحيص - في خضم هذه الفتن المتلاطمة ولم يكن لهذه المواقف أن تعرف ويعرف أهلها قبل حصول هذه الفتن، وقد ظهرت هذه المواقف مع أننا في أول السنة وبداية الابتلاء فكيف يكون الحال في آخر الأمر نعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن، وفي ذكر هذه المواقف نصيحة وتحذير لنفسي ولإخواني المسلمين من الوقوع فيها أو المبادرة بالخروج منها لمن وقع فيها.
الموقف الأول: موقف المنافقين والمرجفين: النفاق داء عضال في الأمة، ولقد عانت الأمة في تاريخها الطويل ما عانت من الخيانات ومظاهرة الكافرين وكشف عورات المسلمين لأعدائهم، ومن عادتهم أنهم لا يظهرون إلا في أيام المحن الكبيرة والنوازل العظيمة التي تمر بالمسلمين حيث يظهر الله عوارهم ويكشف أسرارهم، وهذا من رحمة الله _عز وجل_ وحكمته في حصول الابتلاءات، ومن ذلك ما كان منهم يوم الأحزاب يوم أن أحاط المشركون وحلفاؤهم بالمدينة، ونقضت اليهود عهدها مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً وعند ذلك نجم المنافقون والمرجفون والمعوقون ممن كانوا مندسين في الصف المسلم، ويكفينا في وصف حال المنافقين في هذه الغزوة قول الله _عز وجل_: " وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً" (الأحزاب:12، 13، 14). إلى قوله _تعالى_:" قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً" (الأحزاب:18).
وها نحن في هذا الزمان نشاهد فريقاً منهم يقفون نفس الموقف الذي وقفه إخوانهم يوم الأحزاب؛ وذلك عند ما رأى منافقوا زماننا ما أحاط بالمسلمين من النوازل، ورأوا إخوانهم من الصليبيين يحيطون ببلدان المسلمين فظهر نفاقهم وبدا للناس ما كانوا يخفون من قبل، وأصبحنا نسمع منهم الإرجاف وترديد ما يقوله الكفرة الغزاة عن المجاهدين والدعاة الصادقين، وراحوا يحرضون عليهم ويشمتون بما يصيبهم من المحن والمصائب، وصاروا يبثون في الأمة اليأس من مقاومة الغزاة، يحسنون الكفرة الغزاة في عيون المسلمين، ويستبشرون بمجيئهم ويساندونهم في تنفيذ مخططاتهم لغزو العقيدة والأخلاق ، قال الله _تعالى_ في وصف سلفهم من المنافقين الأولين: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الحشر:11) وقال _سبحانه وتعالى_ عن شماتتهم بالمؤمنين وإشاعة اليأس والإرجاف وإساءة الظن بالله _عز وجل_ ووعده: " بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً" (الفتح:12).
ولم يعد خافياً على أحد ما يطرحونه في وسائل الإعلام المختلفة وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله _عز وجل_ أو من الناس، وذلك في ما يتعلق بثوابت الدين أو ما يتعلق بالمرأة والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال والزج بها في أعمال مخالفة لحكم الله _عز وجل_ وحكم رسوله _صلى الله عليه وسلم_، والسعي الحثيث لمحاكاة المرأة الغربية في هديها وأخلاقها.
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون في هذه السنوات الأخيرة والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين، وإنما المقصود التدليل على أن سنة الله _عز وجل_ في الابتلاء والتمحيص أنها تكشف وتفضح المنافقين وتبرزهم في مجتمعات المسلمين كما فضح الله _عز وجل_ إخوانهم وسلفهم في عزوة الأحزاب وغزوة أحد وغزة تبوك التي أنزل الله _عز وجل_ فيها سورة كاملة هي سورة التوبة التي من أسمائها الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وميزتهم. وهذه من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة لسنة الابتلاء؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم فإنهم يشكلون خطراً وتضليلاً للأمة، أما إذا عرفوا وفضحوا وتميزوا فإن الناس يحذرونهم، وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان، أو بالسيف والسنان إن ظهر انحيازهم للكفار ومناصرتهم لهم، وبذلك يتخلص المسلمون من سبب كبير من أسباب الهزيمة والفشل ويتهيئون لنصر الله _عز وجل_ وتأييده.
الموقف الثاني: موقف اليائسين والمحبطين والخائفين: لما كشف أعداء هذا الدين من الكافرين وبطانتهم من المنافقين عن عدائهم الصريح وحربهم المعلنة على الإسلام وأهله، وعندما تعرض كثير من المسلمين ومؤسساتهم الدعوية والخيرية للمضايقة والأذى من الكفرة والمنافقة شعر بعض المسلمين حينئذ بشيء من اليأس والإحباط والخوف وبخاصة لما قام شياطين الإنس والجن يبثون وساوسهم وشبههم في تضخيم قوة الأعداء وأنها لا تقهر سيطر على بعض النفوس اليأس من ظهور هذا الدين والتمكين لأهله؛ فكان منهم فئة ظهر ضعف يقينها ومرض قلوبها في هذه الابتلاءات فشكت في ظهور هذا الدين واهتز يقينها بوعد الله _تعالى_ بنصرة دينه، وهؤلاء على خطر يهدد إيمانهم ويخشى أن يقعوا في فتنة المنافقين الظانين بالله ظن السوء. وفئة أخرى لم يساورها الشك في دين الله _تعالى_: بنصرة أوليائه، وإنما أصابها اليأس من ذلك في هذا الزمان حيث رأت أن المسلمين اليوم غير قادرين على المواجهة لعدم تكافؤهم مع عدوهم وعليه فلا داعي للمقاومة التي لا تفيد شيئاً، وإنما هي بمثابة المحرقة التي تحرق المسلمين وبخاصة المجاهدين منهم، والحل عند هؤلاء: الاستسلام للواقع وانتظار معجزة ربانية من الله _عز وجل_ كانتظار المهدي أو المسيح عيسى ابن مريم _عليه الصلاة والسلام_!! ولا يخفى ما في هذه التصور من الانحراف والشطط، وكم هو مفرح للكفرة والمنافقين مثل هذا التفكير ومثل هذه المواقف المستخذية التي تبث اليأس في نفوس المسلمين وتعيقهم عن بذل الجهد في الدعوة والجهاد والأخذ بالأسباب الشرعية والمادية للنصر على الأعداء.
وإن مواقف الخوف واليأس والإحباط ما كانت لتعرف لو لا سنة الابتلاء والتمحيص وظهور هذه السنة وعملها اليوم في حياة المسلمين هي التي أفرزت وأظهرت مثل هذه المواقف وفي ظهورها فائدة لأصحابها لعلهم أن يراجعوا أنفسهم ويقلعوا عن هذه المواقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السنة، كما أن فيه فائدة أيضاً لغيرهم ليحذروا من هذه المواقف ويحذروا ممن ينادي بها؛ قال الله _تعالى_ في تحذير عباده المؤمنين من الوهن واليأس والإحباط: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139).
وقال _سبحانه وتعالى_ في وصف عباده الصابرين والموقنين بنصره _عز وجل_: " وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران:146، 147، 148) وقال _سبحانه وتعالى_ في وصف أصحاب محمد _صلى الله عليه وسلم_ لما تحزبت عليهم الأحزاب: "وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً" (الأحزاب:22).
الموقف الثالث: موقف المسايرين للواقع أهل الحلول الوسط: وهم الذين نظروا إلى شدة ما يصيب المسلمين في هذه الأزمنة من الأذى والتضييق والابتلاءات المتنوعة فرأوا أن الثبات والصمود على ثوابت هذا الدين والصبر على أحكامه الشرعية ومصادمة الواقع مما يصعب في مثل هذه الظروف؛ لأن أعداء هذا الدين لا يرضون بذلك بل يوجهون حربهم إلى هؤلاء الثابتين الذين يطلقون عليهم تارة: الأصولية، وتارة: المتشددين، وتارة: الإرهابيين، والخطير في الأمر في هذه المواقف أنها تغطى بشبه شرعية، ويحاول أصحابها أن يؤصلوا مواقفهم هذه بأدلة يزعمون أنها قواعد شرعية مع أنها غير منضبطة بضوابط الشرع ولا ملتزمة بمقاصده؛ كاستدلالهم مثلاً بالضرورة وأحكامها، وقواعد التيسير ورفع الحرج، وبالمصالح المرسلة وغيرها مما هي صحيحة في أصله لكنها فاسدة في تطبيقها(9).
وعلامة أصحاب هذا الموقف أنهم يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالمعتدلة أو الوسطية. وهذه المواقف ما كانت لتعرف لولا سنة الابتلاء التي تمحص وتميز الصفوف ويكشف الله بها كوامن النفوس التي يعلمها الله مسبقاً، لكنه _سبحانه_ يظهرها للناس بفعل سنة الابتلاء والتمحيص، وصدق الله العظيم: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" (آل عمران: من الآية179).
وقد أخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن المتمسك بدينه في آخر الزمان يعد غربياً بين الناس ووصفه بأنه كالقابض على الجمر وهذا الوصف لا يقدر عليه إلا أولوا العزم من المؤمنين الصابرين؛ قال _صلى الله عليه وسلم_: "إن الإسلام بدأ غربياً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء " قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسد الناس"(10).
وقال _صلى الله عليه وسلم_: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر". ولا يخفى على من يراقب اليوم كثيراً من الفتاوى والحوارات التي تقوم بها بعض الصحف والمجلات والقنوات الفضائية ما تحمل من هذه المواقف المتميعة والتي يحاول أصحابها أن يتشبثوا في الاقتناع بها بأدنى شبهة أو أدنى قول شاذ يخالفه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة ، وهذه المواقف والفتاوى لم تقتصر على الأحكام فحسب بل تعدتها إلى أصول العقيدة وأركانها، وبخاصة ما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر وحدودها، أو بمسائل الولاء والبراء، أو ما يتعلق بالجهاد وأحكامه؛ والمقصود أن سنة الابتلاء والتمحيص التي نعيشها هذه الأيام قد أفرزت مثل هذه المواقف ولله _عز وجل_ الحكمة في ذلك؛ لأن في ظهورها خيراً لأهلها لعلهم يحاسبون أنفسهم فيتخلصون منها كما أن فيها خيراً أيضاً لغيرهم حتى يحذروها ويحذروا منها.
الموقف الرابع: موقف المتعجلين المغيرين بالقوة: وهذا الموقف يقابل الموقف السابق، فبينما ينحي الموقف السابق إلى التنازل عن بعض الثوابت والتعلق ببعض الشبهات و الشذوذات، يذهب أصحاب هذا الموقف إلى الطرف المقابل حيث لم يصبروا على ما يرون من شدائد ومحن وابتلاءات توجه للمسلمين في دينهم وأعراضهم وعقولهم ورأوا أن الموقف إزاء مثل هذه الابتلاءات هو المواجهة المسلحة دون أن ينظروا إلى ما يترتب عليها من مفاسد كبيرة ، ودون أن ينظروا إلى واقعية المصالح التي يسعى لتحقيقها فنشأ من جراء ذلك أضرار عظيمة عليهم وعلى الدعوة وأهلها في المحيط الذي تدور فيه هذه المواجهات.
وهنا أود التنبيه إلى أنه ليس المعنى في هذه المواقف تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين وديارهم في أفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين وكشمير وغيرها ممن يقوم بجهاد الدفع عن ديار المسلمين المحتلة، وإنما المعني هنا أولئك الذين يرون المواجهة المسلحة في بعض بلدان المسلمين قبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك، مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهاً لوجهٍ مع إخوانهم المسلمين، فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضاً، كما هو حاصل في الجزائر وما قد حصل في مصر وسوريا أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في العراق وأفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس والوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار. والذي حملني على هذا التنبيه ما نسمعه – ويا للأسف – من بعض الفتاوى المتسرعة والتي مفادها أن القتال ضد الغزاة الكفرة في العراق هو قتال فتنة وتعجل وافتئات على الأمة وهذا من صور الابتلاء الذي يتعرض له المسلمون في هذه الأزمنة.
السنة الثالثة: سنة الإملاء والاستدراج للكفار والمنافقين: قال _تعالى_: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران:178). وقال _تعالى_: " وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" (الأعراف:182، 183).
وهذه السنة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات؛ وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق؛ وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكبر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن من دولة الكفر والطغيان أمريكا؛ حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها: "من أشد منا قوة" وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله _عز وجل_ ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم أمريكا وحلفائها هم الآن يعيشون سنة الإملاء والاستدراج والتي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم قال _تعالى_: " وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً" (الكهف:59).
والله _عز وجل_ لا يستجيب لعجلة المستعجلين بل له الحكمة البالغة والسنة الماضية التي إذا آتت أكلها أتى الكفرة ما وعدهم الله _تعالى_ لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
يقول صاحب الظلال _رحمه الله تعالى_ في هذه الآية السابقة الذكر من سورة آل عمران: "وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يحسبون أن الله – حاشاه – يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن الله – _سبحانه_ – لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟ أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!!
وهذا كله وهم باطل، وظن بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك، وها هو ذا الله _سبحانه وتعالى_ يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن؛ إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه؛ إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة، وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران:178).
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ لابتلاهم، ولكنه لا يريد بهم خيراً وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة – غمرة النعمة والسلطان – بالابتلاء! "وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ". والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير، فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم – ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء – فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين).
ويقول في موطن آخر: "وإنه لمما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر، ممكناً له في الأرض، غير مأخوذ من الله ولكن الناس إنما يستعجلون؛ إنهم يرون أول الطريق أو وسطه، ولا يرون نهاية الطريق ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون – في حياتهم الفردية القصيرة – نهاية الطريق؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق!"
ومن حكمة الله _عز وجل_ في سنة الإملاء للكافرين أن يمكنهم في هذا الإملاء ليزدادوا إثماً وطغياناً يندفعون به بعجلة متسارعة إلى نهايتهم التي فيها قصمهم ومحقهم، وقد بدت بوادر المحق في الأمريكان الكفرة وحلفائهم فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي يتشدقون بها وغير ذلك من عوامل المحق والقصم، ولكن الله _عز وجل_ بمكره لهم قد أغفلهم عن سوءاتهم وعما يترتب على حماقاتهم وطغيانهم ليحق عليهم سنته _سبحانه_ في القوم الكافرين، كما أن من حكمته _سبحانه_ في إملاء الكافرين وظلمهم وتسلطهم على المسلمين تحقيق للسنة التي سبق الحديث عنها ألا وهي سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين .
ففي الإملاء للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، حتى إذا آتت سنة الابتلاء أكلها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفاً ممحصاً عندئذ تكون سنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها فيحق القول على الكافرين ويمحقهم الله كرامة للمؤمنين الممحصين الذين يمكن الله لهم _عز وجل_ في الأرض ويخلفون الأرض بعد محق الكافرين. قال _تعالى_: " وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" (آل عمران:141).
فذكر الله _سبحانه_ التمحيص قبل المحق ولو محق الله الكفار قيل تهيأ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم إن الله _عز وجل_ حكيم عليم وما كان _سبحانه_ ليحابي أحداً في سننه ولله _عز وجل_ الحكمة في وضع السنتين سنة الابتلاء وسنة الإملاء في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران؛ قال _تعالى_: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" (آل عمران:178) "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ" (آل عمران:179).
ولعل من الحكمة – والله أعلم – أن يعلمنا الله _عز وجل_ أن هاتين السنتين متلازمتان ومتزامنتان وأن إحداهما تهيئ للأخرى.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، الهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك سميع الدعاء، اللهم ارحم عبادك الموحدين والطف بهم في العراق وفي كل مكان؛ اللهم احقن دماءهم واحفظ لهم دينهم وأعراضهم.
اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم اشف صدورنا وأقر أعيننا بنصرة دينك وأوليائك وخذلان أعدائك؛ اللهم قاتل أمريكا وحلفاءها الذين يكذبون رسلك ويعادون أولياءك ويصدون عن سبيلك، وأنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
_______________ (1) رواه مسلم ( 2865). (2) في ظلال القرآن 3/ 1319 بتصرف يسير. (3) الاختيارات الفقهية: ص 447. (4) الاختيارات الفقهية ص 309، 310. (5) الاختيارات الفقهية ص 448. (6) إعلام الموقعين 2/176. (7) تفسير ابن كثير عند الآية ( 179) من سورة أل عمران. ( في ظلال القرآن 1/525. (9) للرد على هذه الشبهات : انظر كتاب ( فاستقم كما أمرت ) للمؤلف. (10) تحفة الأحوذي ( 2361 ) 6/539 وقال الترمذي: حديث غريب وقال الأرناؤوط في جامع الأصول له شواهد يرتقي بها.
| |
|