الداعية جنة الفردوس Admin
عدد المساهمات : 4517 جوهرة : 13406 تاريخ التسجيل : 03/01/2013
| موضوع: تابع ادعاء أن الإسلام حرم ربا الجاهلية دون غيره من أنواع الربا الأحد مارس 31, 2013 1:48 pm | |
| الاستشكال الخامس: تحصيل الربا من المصارف الأجنبية.
وهذه شبهة أخرى من الشبه العجيبة التي يصطنعها هؤلاء الناس؛ لإباحة الربا، وهي تعتمد على رأي للأحناف في باب الربا.
ويوضح د. البوطي أولا الرأي الذي قال به الحنفية في هذا الموضوع، ثم يذكر النتيجة التي توصل إليها هؤلاء الناس؛ ليتبين بعد ذلك مدى الصلة بين ذلك الرأي الفقهي وهذه النتيجة.
الربا في دار الحرب عند الحنفية:
يرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن أنه لو دخل مسلم دار حرب، فبايع حربيا درهما بدرهمين مثلا جاز ذلك على أن تكون الزيادة للمسلم، ومثل ذلك أن يقامر المسلم الحربي، وقد أيقن المسلم أن الغلبة ستكون له.
قال في "تنوير الأبصار" ما شرحه: "ولا ربا بين حربي ومسلم مستأمن، ولو بعقد فاسد أو قمار ثمة - أي في دار الحرب ـ؛ لأن ماله ثمة مباح، فيحل برضاه مطلقا بلا غدر".
وقال في "بدائع الصنائع": "إذا دخل مسلم أو ذمي دار الحرب بأمان فعاقد حربيا عقد الربا أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الإسلام جاز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.. "، ثم قال مبينا وجهة نظرهما في ذلك: "وجه قولهما أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال، وإتلاف مال الحربي مباح؛ وهذا لأنه لا عصمة لمال الحربي ".
إذن فالمسألة تتعلق:
1. بدار الحرب لا بدار الاستئمان أو الأمان.
2. هي تتعلق بربا المبادلة والبيوع لا ربا القرض؛ كما نصوا على ذلك في أكثر من موضع.
3. المسألة مشروطة بأن تكون الزيادة آيلة للمسلم لا للحربي.
النتيجة المستخلصة عند المروجين لإباحة الربا:
النتيجة التي يستخلصها هؤلاء الناس من رأي الإمام أبي حنيفة وصاحبه، أن المسلمين يحل لهم اليوم أن يتعاملوا مع المصارف الأجنبية بالربا، فيودعوا فيها أموالهم، ثم يأخذوا الفوائد الربوية عليها!! فانظر إلى بعد ما بين البرهان والنتيجة، هل تجد إلا ما يثير الاشمئزاز المضحك، والتلاعب المفضوح الخائب؟ الحنفية يتكلمون عن دار الحرب والحربيين، وهؤلاء يتحدثون عن البلاد التي يقوم بيننا وبينها أمان دبلوماسي كامل! الحنفية يتكلمون عن ربا النقود المتبادلة التي لا مجال فيها لاستيداع ثروات مالية في صناديق أجنبية، وهؤلاء يتحدثون عن ربا القروض، إذ تذهب من عندنا الملايين والمليارات إلى الصناديق الأجنبية، وتعود دريهمات لا تذكر باسم الفوائد إلى جيوب عربية! والحنفية يتكلمون عن معاملة يعود كامل الكسب فيها - أصلا وفرعا - إلى خزينة المسلمين، وهؤلاء يتكلمون عن معاملة تستجر فيها الثروات الإسلامية كلها، أو جلها؛ لتوضع تحت تصرف الدولة الأجنبية، تفعل بها ما تشاء، وتستغلها في كل ما يؤذي هذه الأمة ويدعم عدوان المعتدين عليها، ويزيدها ضعفا وخبالا.
إذن ليس ثمة أي علاقة بين مسألة ربا التبادل والبيوع في دار الحرب من وجهة نظر الحنيفة، ومسألة ربا القروض التي تتمثل في توظيف المسلمين أموالهم الطائلة في مصارف أجنبية مقابل فوائد ربوية من وجهة نظر أصحاب هذه الشبهات.
أما مناقشة مذهب الحنفية في هذه المسألة وعرض أدلة أصحابه، وأدلة جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، وترجيح المذهب المختار، فهو شيء لا يعنينا في هذا المقام، ولسنا بصدده قط.
وليكن واضحا أننا لا نعني بتفنيد هذا الاستخلاص العابث العجيب، أن الفوائد التي تسجلها المصارف الأجنبية لأصحاب الأموال المودعة فيها يجب أن تترك لتلك المصارف، فالقول بذلك استجرار لبلاء فوق بلاء، ولكن الذي نعنيه أن ترك المسلمين أموالهم الطائلة في مصارف البلاد الأجنبية جناية مركبة من معصيتين اثنتين.
أولاهما: وضع المسلمين أموالهم التي أنعم الله بها عليهم بين أيدي أعدائهم؛ ليتقووا بها عليهم، ولتعود أخيرا دعما للقوى الصهيونية وغيرها من أعدائهم وأعداء هذا الدين.
ثانيهما: توظيف هذه الأموال في فوائد ربوية محرمة.
اختلاق المبررات الوهمية الباطلة لكلتا المعصيتين:
وأحب أن أقول بهذه المناسبة كلمة عن مصير الفوائد الربوية بالنسبة لمن تورط، فوضع أمواله في مصارف ربوية:
ليكن معلوما أنه ليس في قواعد الشريعة وأحكامها ما يصلح أن يكون فتوى بشرعية استحصال هذه الفوائد وأخذها امتلاكا؛ ذلك لأن ما بني على باطل فهو باطل، وقد بنيت هذه الفوائد على باطل متفق على بطلانه، وهو ترك أصل هذه الفوائد في مصارف ربوية توظفها في مشاريع ربوية، دون ضرورة ملجئة.
إلا أن السؤال الذي يظل مطروحا هو: فما الذي يجب أن يفعله صاحب الأموال المودعة في هذا المصرف بهذه الفوائد المتجمعة؟ والجواب أننا نعلم يقينا أنه ممنوع شرعا من أن يأخذها ويتملكها، كما أنه ممنوع شرعا من أن يتركها لذلك المصرف؛ ليكون مادة جديدة للمشاريع الربوية.. فإذا تجنب هذين السبيلين، فإن عليه بعد ذلك أن يجتهد - على مسئوليته، لا استنادا إلى فتوى شرعية جاهزة - في توجيه هذه الفوائد إلى الجهة التي يراها مناسبة؛ كأن يصرفها إلى حيث ينبغي أن تصرف الأموال الضائعة.
وعليه بعد هذا أن يكثر التضرع والالتجاء إلى الله أن يغفر ذنبه، ويقبل هذا الحل الذي لم يهتد إلى سبيل أمثل منه؛ فإن سلوك هذا السبيل أحرى أن يكون شفيعا له عند الله من أن يعتمد على فتوى شرعية مبتكرة تفتح له وللناس آفاق تصرفات محظورة من الشرع، ثم يركن منها إلى طمأنينة تامة بأنه لم يخالف الشرع، ولم يأت بأي مغامرة قد تعرضه لعقاب الله عز وجل.
الاستشكال السادس: الربا المحرم هو الزيادة الطارئة مقابل الأجل الطارئ.
يرى الشيخ رشيد رضا والإمام محمد عبده - رحمهما الله - أن الربا المحرم بنص القرآن والذي أكدته السنة: هو ذاك الذي يتوالد بعد العقد الأول للقرض، كأن يعجز المدين عن الوفاء عند حلول الأجل، فيطلب من المقرض أن يمد في الأجل على أن يزيد له في الفائدة، وهكذا.
أما ما اتفقنا عليه من الربا في العقد الأول، فليس في نظره مشمولا بالنص القرآني، ومن ثم فليس محرما.
وهو يستدل على هذا بقوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة( (آل عمران: ١٣٠).
فتقييد الربا بكونه أضعافا مضاعفة، يكشف أولا عن الجانب المحرم من عمل العرب في الجاهلية، وهو فرض المقرض على المقترض زيادة إضافية طارئة من الربا بعد حلول الأجل؛ وذلك بسبب رغبة المقترض في مزيد من الإمهال، ثم هو ينبه ثانيا إلى المفهوم المخالف المبني عن عدم حرمة الربا المتفق عليه عند أول التعاقد بين الطرفين.
ويفند د. البوطي هذه الأقاويل وذلك من خلال النقاط الآتية:
1. كيف خفيت دلالة المفهوم المخالف لقيد )أضعافا مضاعفة( على المفسرين كلهم بدءا من الصحابة فالتابعين فمن بعدهم، حتى جاء الشيخ رشد رضا فعلم ما لم يعلمه العلماء والمفسرون كلهم من قبله، من أن الربا المحرم، إنما هو تلك الزيادات الإضافية التي تفرض مقابل مزيد من الإمهال، فأما ما قد اشترطه المقرض من أول يوم فهو ليس محرما بالغا من الكثرة ما بلغ؟! والسؤال الأهم هو: كيف يتاح لي أو لأي قارئ مثلي يقف على هذا التفسير للشيخ رشيد رضا أن يقنع عقله ووعيه بأن كل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء غفلوا عن معنى الآية، من حيث لم يتنبه إليه إلا هذا الشيخ الجليل؟ 2. إذا كان من شأن القيد كلما وجد في الجملة أن يسوق معه دلالة على المفهوم المخالف؛ كما هو مقتضى فهم الشيخ رشيد رضا - رحمه الله - إذن فعليه أن يكتشف لنا المفهوم المخالف للقيد الوارد في قوله سبحانه وتعالى: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا( (النور: ٣٣)، وفي قوله سبحانه وتعالى: )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم( (الإسراء:٣١)، وفي قوله سبحانه وتعالى: )وربائبكم اللاتي في حجوركم( (النساء: ٢٣)، فإن هذه المفاهيم قد خفيت هي الأخرى على سائر العلماء والصحابة السابقين.
ولا شك أن هذه المفاهيم المخالفة التي لا بد أن يسوقها الشيخ لنا، اقتداء بالمفهوم المخالف لـ: )أضعافا مضاعفة(، ستقضي بأن يترك الرجل فتاته تمارس البغاء إن لم ترد تحصنا، وبأن يباح قتل الرجل طفله إن لم يكن ذلك خشية إملاق، وبأن الربيبة التي هي بنت الزوجة لن تكون محرمة على الزوج إن لم تنشأ في حجره! وليس من حق أي باحث أو مفكر أن يستعظم القول بهذه المفاهيم بعد أن استساغ الشيخ - رحمه الله - ما لا يقل عن هذه المفاهيم بشاعة، فقرر بأن للمقرض أن يفرض على المقترض من الفائدة الربوية ما يشاء، بالغا من الكثرة ما بلغ، بشرط أن يكون يقظا فيفرضها من أول يوم، ولا يجزئها مقسمة على المدد الآتية! أما ما عرفناه نحن من أصول اللغة العربية ودلالاتها، فهو أن القيد الذي يكون في الجملة لا يجوز أن يحمل أي دلالة على مفهوم مخالف، حتى نستقرئ الاحتمالات والأدلة كلها، فنجزم بأن ليس ثمة أي فائدة أو معنى لهذا القيد إن أغضينا الطرف عما يشير إليه من المفهوم المخالف.
فأما إن بحثنا فرأينا أن القيد سيق مساق التعليل، أو لبيان الواقع، أو إبرازا لشناعة الفعل وقبحه، فلا مجال عندئذ لربط أي مفهوم مخالف بالقيد.
وقد أجمع المفسرون أن قيد الحال في قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة( سيق لبيان شناعة ما كان عليه العرب من عدم الاكتفاء بقدر محدد من الربا الذي يفرضونه، واستغلال حاجة المقترض إلى مزيد من الإنظار، لمضاعفة الربا عليه، وهو الأمر الذي يعبر عنه شعارهم الشائع: أتقضي أم تربي؟ ولذا فلم يخطر ببال أي من أولئك العلماء المفسرين أن يحملوا الآية أي مفهوم مخالف.
على أن الذي يقطع دابر أي لجج أو جدل في هذه المسألة، قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279)( (البقرة)، فلم يبق هذا النص القرآني الجازم المبين أي مجال لتحميل القرآن هذا اللغو الباطل في العقل، والثقيل على النفس.
غير أننا نضيف إلى هذا، فنذكر بأن تحريم الربا لم يكن له - يوما ما - مقياس ناظر إلى الكمية التي تصل إليها الفائدة الربوية، ولا يقول هذا بصير بمعنى التشريع أو القانون قط، فحرمة الربا منوطة بحكمة تشريعية تعود إلى جوهر الربا من حيث ذاته، بقطع النظر عن الكمية، وما قد تتصف به من زيادة أو نقص.
إن الشارع الذي خلق لعباده المنافع، ثم قوم المنافع بما يضبطها في نطاق التبادل والتداول، وجعل من النقدين - أو ما يقوم مقامهما - ضابطا لذلك علم عباده من خلال تحذيرهم من الربا وتحريمه والتشديد في ذلك أن المال لا يلد المال، وإنما المنفعة المتقومة وحدها هي التي تلد المال، فمن حاول أن يستولد المال من مال مثله بعيدا عن المنفعة التي يجب أن تقابله، فقد جر المجتمع بذلك إلى مهلكه.
إذن فالأمر يتعلق بمبدأ علمي وحقيقة ذاتية، دون أي نظر إلى الكم، مهما تفاوت صعودا أو هبوطا [41]. الاستشكال السابع: الربا ضرروة لا مناص منها.
يرد الشيخ أبو زهرة على ذلك قائلا: لا مساغ لأحد يؤمن بالله ورسوله، ويجعل لحكمهما المقام الأعلى أن يقول إن شيئا من فائدة المصارف حلال، ولقد وجدنا بعض العلماء يفتح لهم نافذة أخرى، وهي نافذة الضرورة، فقد زعموا أن الاقتصاد في البلاد الإسلامية يقوم على المصارف. والمصارف تقوم على الربا، وفوق ذلك، فإن هذه الفائدة فيها مصلحة اقتصادية؛ إذ تنمي الادخار وتجعل المجتمع ينتفع بكل الأموال بدل أن تكون الأموال في الخزائن لا تنتج كالماء الآسن الذي لا ينتفع به أحد.
وفي الحق إن نظرية الضرورة قد لاقت رواجا، وخصوصا أنها جاءت علي لسان رجل تقي غير متحلل من الأوامر الدينية، ولا ممن يخضعون المقررات في الإسلام لأعراف الناس.
ومع إجلالنا لصاحب هذا القول نقرر أن الضرورة لا يتصور أن تتقرر في نظام ربوي، بل تكون في أعمال الآحاد؛ إذ إن معناها أن النظام كان يحتاج الربا كحاجة الجائع الذي يكون في مخمصة إلى أكل الميتة، أو لحم الخنزير، أو شرب الخمر، وأن مثل هذه الضرورة لا تتصور في نظام كهذا النظام، ولقد قيد العلماء الضرورة التي تبيح الحرام فيما إذا لم يأكل الحرام هلكت نفسه.
فهل الحاجة إلى التعامل بالربا من هذا الصنف حتى نستحل ما حرم الله تعالى، هل يكون الدائن فيه كمن لا يجد الأكل في الصباح، ولا في المساء؟ قد يكون المقترض في حال قريبة من هذا، ولكن المقرض لا يمكن أن يكون في مثل هذه الحال، قد يحتاج إنسان إلى الاقتراض؛ لأجل قوته الضروري، ولكن لا يمكن أن يكون المقرض في مثل هذه الحال.
إن من المقررات أن الضرورات تبيح المحظورات، ولقد قال الفقهاء إن الإسلام منع الحرج في الدين؛ ولذلك قسموا المحرمات قسمين: محرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، ومحرم لغيره كرؤية جسم المرأة؛ فإنه يحرم لأنه ذريعة إلى الزنى. والمحرم لغيره يباح للحاجة كعلاج أو نحوه، والحاجة ما يمكن أن يعيش الإنسان من غيره، ولكن يكون في حرج وضيق.
أما الضرورة فهي ما يترتب علي تركه تلف النفس أو عضو من أعضاء الجسم، ومن أي نوع حاجة الاقتصاد الإسلامي إلى الربا؟ مع العلم بأن ربا النسيئة هو الربا الجلي وهو محرم لذاته، لا لغيره، فهو لا يباح إنما يباح فقط للضرورة.
أحاجة الاقتصاد الإسلامي إلى الربا من الضرورة التي تتلف النفس إن لم يؤخذ به، أم من قبيل الحاجة؟ قد عرفنا معنى الضرورة من الحديث النبوي الشريف الذي أوردناه، فهل الحاجة إلى الربا من هذا الصنف، وهل غلقت كل أبواب الإنتاج الحلال، أو سلكناها كلها ولا نجد مع ذلك ما يسد رمقنا إلا الربا، وهل حيل بيننا وبين الحلال، فلا نجد إلا الربا سبيلا لسد الجوع؟ اللهم: لا.
إن الفقهاء قد قرروا أنه لا يؤخذ من المحرمات التي تباح للضرورة إلا ما يسد الرمق، وقد توسع مالك فأجاز الشبع والتزود عند الضرورة، ومع ذلك فإن ذلك الإمام الجليل يقرر أنه لو طبق الحرام الأرض، أو ناحية منها بعسر الانتقال، وانسدت طرق المكاسب الطيبة، ومست الحاجة الزيادة عن سد الرمق، يسوغ لآحاد الناس - إذا لم يستطيعوا تغيير الحال وتعذر الانتقال إلى أرض تقام فيها الشريعة ويسهل الكسب الحلال - أن ينالوا كارهين بعض هذه المكاسب الخبيثة.
فهل نحن الآن قد انسدت أمامنا كل طرق الكسب الحلال، ولا يمكننا التغيير حتى نستبيح الربا باسم الضرورة؟ اللهم: لا.
إن الحلال بين والحرام بين، وإننا قبل أن نستحل الربا علينا أن نعمل على تغيير هذه الأوضاع الاقتصادية التي قامت عليه، وأن نفتح باب الكسب الحلال على مصراعيه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
لقد تحدثنا في الضرورات التي تبيح المحظورات، ولم نتصور أن ثمة ضرورة اقتصادية، أو اجتماعية تجعل المسلمين في حال اضطرار إلى التعامل بالربا، وجعله نظاما قائما ولو كان على سبيل التوقيت، وقلنا إن أساس الضرورة ألا تكون منجاة إلا بارتكاب المحرم، وقد تأيد نظرنا بالبحث القيم الذي نشرته مجلة "المسلمون" للأستاذ محمود أبو السعود مستشار بنك الدولة بباكستان، ففيه رسم منهاج قويم لتنظيم اقتصاد الأمة الإسلامية الذي يحل محل النظام الاقتصادي الربوي، وأحسب أنه لو اتبع لكان أطيب ثمرة، وأبرك رزقا، وأكثر خيرا، وفيه رضا الله، والبعد عن مآثم الربا، فإن الربا من السحت؛ كما وردت بذلك الآثار، وكما هو الحق الذي تدركه العقول.
لقد وجهت الأسئلة الآتية في إحدى الندوات العلمية المباركة:
الأول: إذا ألغى الربا فما مآل العقود والالتزمات التي بنيت عليه، فهل تذهب ديون البنك العقاري على الأراضي سددا بددا. ويتحلل كل عاقد مما أوجبه عليه العقد. والعقد شريعة المتعاقدين؟ والثاني: إذا اضطرت الدولة إلى شراء أسلحة، هي مضطرة إليها؛ لأن عدوا يساورها ويهجم عليها، وهي لا محالة مأكولة إذا لم تشتر أسلحة، وليس في خزانتها نقد تؤديه، ولا بضائع تزجيها، ولا سبيل إلا بالشراء نسيئة على فائدة تدفع، فهلا تكون هذه حالة ضرورة توجب قبول ذلك العقد الربوي؟ والثالث: إذا كان شخص في حال اضطرار إلى القرض، ولم يجد إلا من يقرضه بربا؛ كأن يحتاج إلى جراحة تجرى في جسمه؛ ليقطع جزءا تالفا منه، ولا مال معه، والطبيب لا يعمل إلا بأجرة، والموت يترصده وهو واقع لا محالة إن لم تجر الجراحة، فهلا يكون في حال اضطرار تسوغ له أن يقترض بالربا؟ هذه هي الأسئلة، وقبل أن نخوض في الأجوبة عنها، أو تسجيل ما كان جوابا لها نقرر أن الآراء قد اتفقت على أنه لا توجد ضرورة اقتصادية تسوغ أن يكون الربا نظاما للتعامل الإسلامي، ولو على سبيل التأقيت، وأن إقرار النظم الربوية القائمة بدعوى أن الضرورة تلجئ إليها ليست من الشرع في شيء، وإنما هو تحلل العزائم وتقاعد الهمم، وضعف الوجدان الديني.
وبعد تقرير هذه الحقيقة التي تم الاتفاق عليها نبتدئ في الإجابة عن الأسئلة الثلاثة، ونتبدئ بالثالث حتى نعود إلى الأول.
إن هذا السؤال يومئ إلى أن الشخص يكون في اضطرار لأن يقترض بالربا، وتلك حال لا تحتاج إلى بحث ولا تنقيب، وهي من البدهيات المقررة؛ فإنه إن لم يقترض بالربا فسيتلف جسمه لا محالة، فهي ضرورة فردية لا شك في ذلك، وهي تسوغ له أن يقترض بالربا، وهذا لا يسمى تعاملا بالربا في حال الاختيار، وهي مرتبة عفو بالنسبة للمقترض، أما المقرض فإنه يبوء بإثمه وإثم المقترض معا، والكسب لا يحل له بحال من الأحوال، فهو كسب خبيث لا شك في ذلك، وإذا كان قد أكله فقد اقتطع لنفسه قطعة من النار.
وأما السؤال الثاني: وهو اضطرار الأمة إلى شراء أدوات حرب بالربا، وإلا أبيدت خضراؤها واجتثت من أرضها، أو ضربت عليها الذلة، فإنا نجيب عنه، ولا نقول إنه سؤال فرضي يشبه أسئلة الفقهاء الذين يفرضون بعض المستحيلات؛ ليحلوا مشاكل يحسبونها متوقعة، وهي لا يمكن أن تكون واقعة، ولا أنه يشبه أسئلة بعض الفقهاء الذين وصفهم "الشعبي" بأنهم الأرأيتيون الذين يتبعون كل مسألة بقوله: أرأيت لو كان كذا وكذا: يفرضون ويقدرون ما ليس واقعا.
وتكون في هذه الحال غير آكلة للربا، ولكنها تؤكله، ولكن هل تخلو الأمة في مجموعها من إثم الربا في هذه الحال؟، لا لأنها إنما أهملت أمرها، فلم تعد المصانع، ولم تأخذ بقوله عز وجل: )وأعدوا لهم ما استطعتم( (الأنفال: ٦٠)، وفرطت حتى صار أمرها فرطا، فلم تنم مواردها، ولم تنم موارد الآحاد ولا موارد المجموع، ولم تستخرج ما في الأرض من ينابيع الخير، ثم مع ذلك فقد التعاون فيها حتى صارت مطمع الفاتحين. إن هذه كلها آثام تضافرت حتى تأدت بها إلى هذه الحال.
على أنا على أي حال لا نعتبر ذلك من قبيل تنظيم التعامل بالربا أوجدته الضرورة، إنما هي حال تشبه حال المكره الملجأ، وإنا بعد هذا نقول: إن هذه صورة تفرض ولا تقع.
على أنه يجب أن نقرر هنا أن أكل الربا حرام لذاته لا يحل إلا لضرورة تكون على الحد الذي بيناه نقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الاقتراض بالربا فهو حرام لغيره، فهو حرام سدا لذريعة الربا، وما يحرم سدا للذريعة يباح للحاجة لا للضرورة، ويبوء بالآثمين من لا يقرض إلا بالربا ومؤكله وشاهده وكاتبه، ولكن اللعنة متفاوتة، فهي على الأول بالأصالة، وعلى الآخرين بالتبع.
ننتهي من هذه إلى أنه لا ضرورة تبيح الاقتراض بالربا مطلقا، بل لا ضرورة تبيح الاقتراض إلا في أحوال فردية، وليست جماعية حتى لا يكون ثمة ضرورة لنظام اقتصادي قائم على الربا.
وأما السؤال الأول: وهو خاص بالعقود الربوية التي أبرمت تحت ظل النظام الربوي، أتبقى نافذة الأثر؛ لأن القانون الجديد المحرم لا يطبق عليها، إذ المقرر أن القانون لا يطبق على الماضي، فإنا نتلو في الجواب عنه قول الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279)( (البقرة).
هذا هو حكم الله الصريح فيما بقي من الربا، فالعقود الربوية التي عقدت لا ينفذ منها إلا رأس المال، كما هو نص القرآن الكريم، وهو قضاء الله ورسوله: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( (الأحزاب: ٣٦).
هذا جواب صريح نقرره معتمدين على الله، ولا عبرة بما يقال من أن ذلك تطبيق للقانون على الماضي، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد طبق قاعدة تحريم الربا على الماضي، فنادى في حجة الوداع: «وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب»[42] فقد أزال كل عقود ربا الجاهلية، ولم يوجب على المدين إلا رأس المال.
وقد يقول قائل: إن في ذلك هدما لعقود أبرمت بالتراضي، فنقول: إنها عقود أبرمت في إثم، وفي مفسدة للجماعة، ولا ضرر ولا استحالة في إنهاء الربا فيها.
إن الأمر لا يحتاج إلا إلى إيمان قوى، وإخلاص ديني، وعزمة صادقة، ونية مخلصة لله ولرسوله [43]. الاستشكال الثامن: الربا فيه مصلحة للفرد.
ويفند الشيخ أبو زهرة دعوى أن المصلحة في الربا، فقد رددها الأكثرون، وقالوا إن نظام الفائدة نظام اقتصادي، يجعل الأموال كلها مدخرة، وقبل أن نخوض في الإجابة عن هذه الشبهة التي يثيرها أكلة الربا، ويتداعون عليه باسمها، ويحاول أن يطوع الشرع الإسلامي لتفكيرهم بعض الذين يتصدون للفتيا، فقد بين الشيخ أن تحريم الربا في الإسلام هو لبناء اقتصادي سليم، تتحقق فيه أوجه المصلحة الفاضلة التي ليس فيها أكل لمال الناس بالباطل، وليس فيه كسب مطلق من غير تعرض لتحمل الخسارة، فليس تحريم الربا للمروءة أو الأخلاق، كما توهم بعض الكتاب، وقد أزلنا ذلك الوهم في بحثنا هذا.
وإذا كان تحريم الربا للمصلحة، أو بعبارة أدق للتخفيف من طغيان رأس المال طغيانا مطلقا؛ حتى يكون ربح المال كسبا مضمونا مستمرا، فإن الإسلام - بهذا - يراعي مصلحة المجتمع كلية.
والآن نناقش أي النظامين أصلح للاقتصاد؟ النظام الذي يبيح الفائدة أم النظام الذي يمنعها؟ يقولون: إن وجه المصلحة في نظام الفائدة؛ لأنه يجعل كل رؤوس الأموال تعمل، فبدل أن يترك المال في الخزائن يتنقل في الأيدي، ندخله في الصناعات وفي المتاجر وفي الزراعات، وفي كل أبواب الإنتاج المختلفة فينميها، وفوق عمله في الإنتاج، يحمل الأفراد على الادخار، فإذا علم كل عامل أو ذي مورد محدود أنه يستطيع أن يستغل القدر القليل الذي يدخره من غير أن يتعرض للخسارة أدخل أكبر قدر يمكنه، فتكون ثمة فائدتان:
إحداهما: فائدة المدخر الشخصية.
والثانية: الفائدة الاقتصادية العامة بزيادة الإنتاج.
ونظرية الفائدة - فوق ذلك - عادلة؛ لأنه إذا كان المقترض يستفيد، فمن حق المقرض أن يشركه في هذه الاستفادة، ولكل منهما حظ معلوم؛ ولأنه إذا كانت الأسهم في الشركات الصناعية والعقارية والزراعية والتجارية تسوغ المشاركة في الربح، فإن الاستدانة توجب المشاركة أيضا في الربح، ولا فرق بينهما إلا أن هذا ربح معلوم محدود، بينما ربح الأسهم ربح شائع غير محدود المقدار.
تلك هي المصلحة التي يقررها الربويون للفائدة! ونحن إذا قلبنا القرطاس، ودرسنا من ناحية ثانية، وهي ناحية الإسلام وسائر الأديان، نجد أن هذه المصلحة تتضاءل إزاء المصلحة في منع الفائدة؛ ذلك أن الفائدة قد تعوق المصلحة، وقد تعوق الإنتاج، ذلك أن المصلحة في الفائدة لا تتجه رأسا إلى الإنتاج عن طريق تحمل صاحبه التبعة، بل تتجه إلى الإنتاج عن طريق المنتج، فلو أن صاحب رأس المال أسهم في شركات صناعية أو زراعية أو نحوها ابتداء، لكان في ذلك تقوية للإنتاج مباشرة بالاشتراك فيه، بدل أن يقرضه بفائدة يسيرة ثم يقرضه الآخر بفائدة أكبر وهكذا.
وإن الإسلام إذ منع الربا فقد حث على الإنتاج المباشر، فأمر بالاتجار في الأموال وإعمالها في كل الوسائل المنتجة، وحرم إهدار المال أو إفساده؛ فقد روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» [44]. وقد اعتبر الإسلام النقود أموالا نامية بالقوة لتؤخذ منها الزكاة، وليحمل صاحبها على الإنتاج بها؛ لكيلا تأكلها الزكاة المنتظمة كل عام، وفي ذلك حث لصاحب رأس المال على العمل المباشر بالإسهام في المصانع والمتاجر والمزارع، تنمية للإنتاج بطرق أكثر تنظيما وأعدل وأقوم.
وإن الربا بجوار مصلحته التي تتضاءل إذا قورنت بمنفعة الاستغلال المباشر فيه ضرر؛ لأن الربح من غير تحمل للخسارة قد يؤدي إلى ألا يأتي المقترض بكسب يعادل الفائدة، فتكون الأزمات، بينما لا يتصور هذا إذا أسهم صاحب رأس المال في الكسب والخسارة، ولقد قرر الاقتصاديون في العصر الحاضر أن الفائدة لا تؤدي إلى التوظيف الكامل للأموال؛ لأنه سيوجد من يتخذون الفائدة كسبا لذاتها من غير نظر إلى ما يشتمل عليه من إنتاج، ويحبسون أموالهم لهذا الغرض.
والادخار لا تبعث عليه الفائدة، بل تبعث عليه الرغبة في أن يكون للشخص رأس مال يدخر، أو ينتج به، ولقد قرر هذه النظرية اللورد "كينز" وخلاصتها: أن الأفراد لا يدخرون بقصد الدخول، ولكن بقصد تكوين رؤوس الأموال، وفي سبيل هذه الغاية تنشط المضاربات، بغض النظر عن مقدار سعر الفائدة؛ وسبب ذلك هو أن المغنم الذي يحصل عليه الأفراد من جراء ذلك أكبر من الاستثمار المضمون الذي قد يعود عليهم إذا استغلوا مدخراتهم، وعلى هذا يكون سعر الفائدة لا يثبته إلا مجرد التعارف عليه، وسيظل الادخار مستمرا ولو نزلت الفائدة إلى الصفر.
وإن اللورد "كينز" لا يكتفى ببيان أن الفائدة ليست هي الباعث النفسي على الادخار، بل يبين أن الفائدة إذا قررت تكون سريعة التغير، بينما النظام الاقتصادي متغير مستقل، وفي هذه الحال تكون الفائدة أكبر من الإنتاج، فتكون سببا لكساده لا لتشجيعه، وهذه عبارته كما ترجمت: "إن أي مستوى للفائدة يرتضيه الناس يمكن أن يظل في مجتمع متغير يخضع لمختلف التغيرات والعوامل... ".
ثم يقرر - كما ذكرنا - أنه إذا تعامل المجتمع بالأرباح التي لا تتكافأ مع سعر الفائدة يؤدي ذلك إلى كساد الإنتاج، فيقول: "السعر المرتفع يعمل على كساد السوق أو النشاط الصناعي، وبالتالي يؤثر سلبا على الدخول التي هي مصدر الإنتاج".
وبهذا يتبين أنه لا توجد مصلحة عامة في الفائدة، وليس من شأنها أن تنمى الاقتصاد، بل إنها تضعفه، وإذا كانت هناك مصلحة فهي مصلحة المقرض في كل الأحوال، ومصلحة المقترض في بعض الأحوال.
ومن المقررات الاجتماعية الشرعية أن المصلحة الخاصة لا يلتفت إليها بجوار المصلحة العامة، وأن العبرة هي في أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد، كما أنه من المقررات الشرعية، أن الضرر القليل يحتمل بجوار دفع الضرر الأكبر.
وقد يقول قائل: إن بعض دور الإنتاج قد تحتاج إلى قروض لتقوية إنتاجها، فتصدر سندات محدودة الربح وهي فائدة، وأن هذه بلا شك تقوي إنتاج هذه الشركات.
ونحن نقول: لماذا لا تصدر أسهما بدل أن تصدر سندات؟ إن ذلك ليس إلا احتكارا لرأس مال الشركات لمؤسسيها، وأن الاحتكار[45] بكل أنواعه ضار لا يجوز، فمنع المشاركة مع الاحتياج إلى تنمية رأس المال ليس إلا ضربا من الأثرة التي تضر ولا تنفع.
إذا كانت الحكومات في العصر الحاضر تحارب الإقطاع بكل أنواعه، فإن العدول عن زيادة الأسهم إلى إصدار سندات، ليس إلا من قبيل الإقطاع لرأس المال في الشركة، ومنع الغير من الاشتراك تجب محاربته.
على أن التجارب أثبتت - بالوقائع المادية - أن ذلك أدى إلى تعرض هذه الشركات للإفلاس إذا كان الكساد؛ إذ هي حينئذ تعجز عن سداد أرباح السندات، وإذا حل استيفاؤها عجزت عن سدادها، كما حدث هذا في أمريكا سنة 1933م، ولم يكن من سبيل منع هذه الفوائد بطريق تضخيم النقد، كما أشرنا من قبل.
وفي الحق أن العالم الاقتصادي الحديث يتضجر من الفائدة، ويعتبرها عبئا على الاقتصاد لا يتفق مع العصر وتطوراته، ولذلك بين اللورد "بويد أور" أن الفائدة سبب أصيل من أسباب الاضطراب الاقتصادي الراهن، سواء أخذ هذا شكل أزمات دورية، أم أخذ شكل التفاوت الظالم في توزيع الدخول الأهلية، أم أخذ شكل عقبات في سبيل السير نحو التوظيف الكامل، وأن الذي يشجع نظام الفائدة هو عدم الوصول إلى حل عملي للتغلب على هذه المشكلة التي تمس الاقتصاد في الصميم.
ومهما يكن فالاتجاه الحديث هو البحث عن نظام اقتصادي خال من الفائدة، ومن الدول من اتجه إلى تأميم[46] وسائل الإنتاج، ومنها من يحاول إخضاع الإنتاج إلى رقابة الدولة من غير تأميم، ومنهم من يحاول جعل الإنتاج بطريق الائتمان التعاوني، وكل هذه الصور فيها تخلص من نظام الفائدة المقيت.
وبهذا الكلام اتجه الاقتصاديون إلى الأديان التي حرمت الفائدة، ما قل منها وما كثر، وقررت أنه ليس للدائن إلا رأس المال، وأن على المستغل أن يكتفي بما يقدر عليه، وإن أراد أن يضيف إلى رأس ماله من غيره، أشركه في الكسب والخسارة لتكون تجارة أو كسبا حلالا.
ونحن لم نسق هذا الكلام لكي نثبت صدق ما جاءت به الأديان السماوية وخصوصا الإسلام؛ لأنها لا تحتاج إلى أدلة على صدقها، وهي حاكمة على الأزمان، وليست بمحكومة لأحوالهم الحاضرة بزخرفها، وظنوها خيرا لا شر فيه، إنها تجارب إنسانية منها ما يثبت صلاحه، ومنها ما لا يثبت صلاحه، ومنها ما يؤدي إلى أوخم العواقب، ومنها ما هو سليم النتائج، وإن الأديان خير كلها وصلاح كلها.
وسقنا هذا الكلام - أيضا - ليتنبه أولئك الذين يتجهون إلى تأويل النصوص الدينية إلى غير ما تدل عليه، لا في ظاهرها ولا في سياقها، إنهم يخطئون كل الخطأ في هذا الاتجاه؛ إذ يؤولون النصوص؛ لتتفق مع نظم ربوية مضطربة غير صالحة للبقاء، فإذا قرر الاقتصاد تحريم الفائدة، فماذا يصنعون؟ أيؤولونها مرة أخرى، وهكذا يجعلون النصوص هزوا ولعبا [47].
| |
|