فصل قولكم في الثالث عشر أن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نقوش
مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها والنفوس البشرية بضد ذلك إلى آخره جوابه أن غاية هذا أن يكون قياسا ممتازا بغير جامع وذلك لا يفيد الظن فضلا عن اليقين فإن النقوش العقلية هي العلوم والإدراكات والنقوش الجسمانية هي الأشكال والصور ولا ريب أن العلوم مخالفة بحقائقها للصور والأشكال ولا يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما يخالف ذلك النوع
فصل قولكم في الرابع عشر لو كانت النفس جسما لكان بين تحريك المحرك
رجله وبين إرادته للحركة زمان إلى آخره جوابه أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال إما أن تكون لابسة لجميعه من خارج كالثوب أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ أو تكون سارية في جميع أجزاء الجسد وعلى كل تقدير من هذه التقادير فتحريكها لما تريد تحريكه يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقيه وإدراك السمع والشم والذوق وإذا قطع العضو لم ينقطع ما كان من جسم النفس متجللا لذلك العضو سواء كانت لابسة له من داخل أو من خارج بل تفارق العضو الذى بطل حسه في الوقت وتتقلص عنه بلا زمان ويكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء إذا ملىء ماء وأما إن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من البدن لم يلزم ان تبين مع العضو المقطوع وأما إن كانت لابسة للبدن من خارج لم يلزم أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفس التحريك زمان بل يكون فعلها حينئذ في تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه ثم نقول هذا الهذيان الذي شغلتم به الزمان وارد عليكم بعينه فإنها عندكم غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه فيلزمكم مثل ذلك
فصل قولكم في الخامس عشر لو كانت جسما لكانت منقسمة ولصح عليها أن
تعلم بعضها وتجهل بعضها فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر
جوابه أن هذه الشبهة مركبة من مقدمتين تلازميه واستثنائية والمنع واقع في كلا المقدمتين أو إحداهما فلا نسلم أنها لو كانت جسما لصح أن تعلم بعضها وتجهل بعضها فإن لنفس بسيطة غير مركبة من هذه العناصر ولا من الأجزاء المختلفة فمتى شعرت بذاتها شعرت بجهلها فهذا منع المقدمة التلازمية وأما الاستثنائية فلا نسلم أنها لا يصح أن تعلم بعضها حال غفلتها عن البعض الآخر ولم تذكروا على بطلان ذلك شبهة فضلا عن دليل ومن المعلوم أن الإنسان قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلها ويتفاوت الناس في ذلك فمنهم من يكون شعوره بنفسه أتم من غيره بدرجات كثيرة وقد قال تعالى ^ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ^ فهؤلاء نسوا نفوسهم لا من جميع الوجوه بل من الوجه الذي به مصالحها وكمالها وسعادتها وإن لم ينسوها من الوجه الذي منه شهوتها وحظها وإرادتها فأنساهم مصالح نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها وعيوبها ونقائصها أن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الذي خلقت له أن يعرفوه ويطلبوه فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجوه وإن كانوا عالمين بها من وجوه أخر
فصل قولكم في السادس عشر لو كانت النفس جسما لوجب ثقل البدن بدخولها
فيه لأن من شأن الجسم إذا زدت عليه جسما آخر أن يثقل به فهذه شبهة في غاية الثقلة والمحتج بها أثقل وليس كل جسم زيد عليه جسم آخر ثقله فهذه الخشبة تكون ثقيلة فإذا زيد عليها جسم النار خفت جدا وهذا الظرف يكون ثقيلا فإذا دخله جسم الهواء خف وهذا إنما يكون في الأجسام الثقال التي تطلب المركز والوسط بطبعها وهي تتحرك بالطبع إليه وأما الأجسام التي تتحرك بطبعها إلى العلو فلا يعرض لها ذلك بل الأمر فيها بالضد من تلك الأجسام الثقال بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفة وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فقال ثقلت زجاجات أتتنا فرغا % حتى إذا ملئت بصرف الراح خفت فكادت أن تطير بما حوت % وكذا الجسوم تخف بالأرواح
فصل قولكم في السابع عشر لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر
الأجسام التي لا تخلو منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والنعومة والخشونة
إلى آخره شبهة فاسدة وحجة داحضة فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في جميع الكيفيات والصفات وقد فاوت الله سبحانه بين صفاتها وكيفياتها وطبائعها منها ما يرى بالبصر ويلمس باليد ومنها ما لا يرى ولا يلمس ومنا ماله لون ومنها مالا لون له ومنها مالا يقل الحرارة والبرودة ومنها ما يقبله على أن للنفس من الكيفيات المختصة بها مالا يشاركها فيها البدن ولها خفة وثقل وحرارة وبرودة ويبس ولين يحسبها وأنت تجد الإنسان في غاية الثقالة وبدنه نحيل جدا وتجده في غاية الخفة وبدنه ثقيل وتجد نفسها لينة وادعة ونفسا يابسة قاسية ومن له حس سليم يشم رائحة بعض النفوس كالجيفة المنتنة ورائحة بعضها أطيب من ريح المسك وقد كان رسول الله إذا مر في طريق بقي أثر رائحته في الطريق ويعرف أنه مر بها وتلك رائحة نفسه وقلبه وكانت رائحة عرقه من أطيب شيء وذلك تابع لطيب نفسه وبدنه وأخبر وهو أصدق البشر أن الروح عند المفارقة يوجد ! لها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ولولا الزكام الغالب لشم الحاضرون ذلك على أن كثيرا من الناس يجد ذلك وقد أخبر به غير واحد ويكفي فيه خبر الصادق المصدوق وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقة وأرواح الكفار سود وبالجملة فكيفيات النفوس أظهر من أن ينكرها إلا من هو من أجهل الناس بها
فصل قولكم في الثامن عشر لو كانت النفس جسما لوجب أن تقع تحت
جميع الحواس أو تحت حاسة منها إلى آخره فجوابه منع اللزوم فإنكم لم تذكروا عليه شبهة فضلا عن دليل ومنع انتفاء اللازم فإن الروح تدرك بالحواس فتلمس وترى وتشم لها الرائحة الطيبة والخبيثة كما تقدم في النفوس المستفيضة ولكن لا نشاهد نحن ذلك وهذا الدليل لا يمكن ممن يصدق الرسل أن يحتج به فإن الملك جسم ولا يقع تحت حاسة من حواسنا وكذلك الجن والشياطين أجسام لطاف لا تقع تحت حاسة من حواسنا والأجسام متفاوتة في ذلك تفاوتا كثيرا فمنها ما يدرك أكثر ! الحواس ومنها مالا يدرك بأكثرها ومنا ما يدرك بحاسة واحدة ومنها مالا ندركه نحن في الغالب وإن أدرك في بعض الأحوال لكونه لم يخلق لنا إدراكه أو لمانع يمنع من إدراكه أو للطفه عن إدراك حواسنا فما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبصر كالهواء والنار في عنصرها وما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالنار والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن
وأيضا فالروح هي المدركة لمدارك هذه الحواس بواسطة آلاتها فالنفس هي الحاسة المدركة وإن لم تكن محسوسة فالأجسام والأعراض محسوسة والنفس محسة بها وهي القابلة لأعراضها المتعاقبة عليها من الفضائل والرذائل كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها وهي المتحركة بأختيارها المحركة للبدن قسرا وقهرا وهي مؤثرة في البدن متأثرة به تألم وتلذ وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتنعم وتبأس وتحب وتكره وتذكر وتنسى وتصعد وتنزل وتعرف وتنكر وآثارها من أدل الدلائل على وجودها كما أن آثار الخالق سبحانه دالة على وجوده وعلى كماله فإن دلالة الأثر على مؤثره ضرورية وتأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم ولا عقل مستقيم ولا سيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك ولا سيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية من العفة والشجاعة والعدل والسخاء وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها فإن تأثيرها في العالم يقوي جدا تأثيرا يعجز عنه البدن وأعراضه أن تنظر إلى حجر عظيم فتشقه أو حيوان كبير فتتلفه أو إلى نعمة فتزيلها وهذا أمر قد شاهدته الأمم على اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي سمى إصابة العين فيضيفون الأثر إلى العين وليس لها في الحقيقة وإنما هو النفس المتكيفة بكيفية ردية سمية وقد تكون بواسطة نظر العين وقد لا نكون بل يوصف له الشيء من بعيد فتتكيف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده وأنت ترى تأثير النفس في الأجسام صفرة وحمرة وارتعاشا بمجرد مقابلتها لها وقوتها وهذه وأضعافها آثار خارجة عن تأثير البدن وأعراضه فإن البدن لا يؤثر إلا فيما لاقاه وماسه تأثيرا مخصوصا ولم تزل الأمم تشهد تأثير الهمم الفعالة في العالم وتستعين بها وتحذر أثرها وقد أمر رسول الله أن يغسل العائن مغابنه ومواضع القذر منه ثم يصب ذلك الماء على المعين فإنه يزيل عنه تأثير نفسه فيه وذلك بسبب أمر طبعي اقتضته حكمة الله سبحانه فإن النفس الأمارة لها بهذه المواضع تعلق وألف والأرواح الخبيثة الخارجية تساعدها وتألف هذه المواضع غالبا للمناسبة بينها وبينها فإذا غسلت بالماء طفئت تلك النارية منها كما يطفأ الحديد المحمى بالماء فإذا صب ذلك الماء على المصاب طفأ عنه تلك النارية التي وصلت إليه من البعائن وقد وصف الأطباء الماء الذي يطفأ فيه الحديد لآلام وأوجاع معروفة وقد جرب الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض عند تجردها في المنام عجائب تفوت الحصر وقد نبهنا على بعضها فيما مضى فعالم الأرواح عالم آخر أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره
أعجب من آثار الأبدان بل كل ما في العالم من الآثار الإنسانية فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن فالنفوس والأبدان يتعاونان على التأثير تعاون المشتركين في الفعل وتنفره النفس بآثار لا يشاركها فيها البدن ولا يكون للبدن تأثير لا تشاركه فيه النفس
فصل قولكم في التاسع عشر لو كانت النفس جسما لكانت ذات طول وعرض
وعمق وشكل وسطح وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة إلى آخره جوابه أنا نقول قولكم هذه المقادير لا تقوم إلا بمادة قلنا وكان ماذا والنفس لها مادة خلقت منها وجعلت على شكل معين وصورة معينة قولكم مادتها إن كانت نفسا لزم اجتماع نفسين وإن كانت غير نفس كانت مركبة من بدن وصورة قلنا مادتها ليست نفسا كما أن مادة الإنسان ليست إنسانا ومادة الجن ليست جنا ومادة الحيوان ليست حيوانا قولكم يلزم كون النفس مركبة من بدن وصورة مقدمة كاذبة وإنما يلزم كون النفس مخلوقة من مادة ولها صورة معينة وهكذا نقول سواء ولم تذكروا على بطلان هذه شبهة فضلا عن حجة ظنية أو قطعية
فصل قولكم في الوجه العشرين أن خاصة الجسم أن يقبل التجزيء ! وأن الجزء
الصغير منه ليس كالكبير فلو قبلت التجزيء فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة وإن لم يكن نفسا لم يكن المجموع نفسا جوابه إن أردتم أن كل جسم يقبل التجزيء في الخارج فكذب ظاهر فإن الشمس والقمر والكواكب لا تقبل ذلك ولا يلزم أن كل جسم يصح عليه التجزيء والتبعيض في الخارج أما على قول نفاة الجوهر الفرد فظاهر وأما على قول متبنيه ! فإنه عندهم جوهر متحيز لا يصح عليه قبول الانقسام سلمنا أنها تقبل الانقسام فأي شيء يلزم من ذلك قولكم إن كان كل جزء من تلك الأجزاء نفسا لزم اجتماع نفوس كثيرة في الإنسان قلنا إنما يلزم ذلك لو انقسمت النفس بالفعل إلى نفوس كثيرة وهذا محال قولكم وإن لم يكن كل جزء نفسا لم يكن المجموع نفسا مقدمة كاذبة منتقضة فكم ماهية ثبت لها حكم عند اجتماع أجزائها فإن ذلك الحكم كماهية البيت والإنسان والعشرة وغيرها
فصل قولكم في الوجه الحادي والعشرين أن الجسم يحتاج في قوامه وبقائه
وحفظه إلى نفس أخرى ويلزم التسلسل جوابه أنه يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظه افتقار النفس إلى نفس تحفظها وهل ذلك إلا بمجرد دعوة كاذبة مستندة إلى قياس قد تبين بطلانه فإن كل جسما لا يصير إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار والتراب وأجسام سائر الجمادات فإن قلتم إن هذه ليست أحياء ناطقة بخلاف النفس فإنها حية ناطقة قلنا فحينئذ يبقى الدليل هكذا أي كل جسم حي ناطق يحتاج في حفظه وقيامه إلى نفس نقوم به وهذه دعوى مجردة وهي كاذبة فإن الجن والملائكة أحياء ناطقون وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أخر تقوم بهم فإن قلتم وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسام متحيزة قلنا الكلام مع من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأما من كفر بذلك فالكلام معه في النفس ضائع وقد كفر بفاطر النفس ومبدعها وملائكته وما جاءت به رسله وكان تاركا ما دل عليه العيان مع دليل الإيمان فإن الآثار المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارها وهي موجودة بنفسها ولا تقدر عليها القوى البشرية
فصل قولكم في الثاني والعشرين لو كانت جسما لكان اتصالها بالبدن إن
كان على سبيل المداخلة لزم تداخل الأجسام وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان للإنسان الواحد جسمان متلاصقان أحدهما يرى والآخر لا يرى جوابه من وجوه أحدها أن تتداخل الأجسام المحال أن يتداخل جسمان كثيفان أحدهما في الآخر بحيث يكون حيزهما واحدا وأما أن يدخل جسم لطيف في كثيف يسرى فيه فهذا ليس بمحال الثاني أن هذا باطل بصور كثيرة منها دخول الماء في العود والسحاب ودخول النار في الحديد ودخول الغذاء في جميع أجزاء البدن ودخول الجن في المصروع فالروح للطافتها لا يمتنع عليها مشابكة البدن والدخول في جميع أجزائه
الثالث أن حيز النفس البدن وحيزه مكانه المنفصل عنه وهذا ليس بتداخل ممتنع فإذا فارقته صار لها حيز آخر غير حيزه وحينئذ فلا يتداخلان بل يصير لكل منهما حيز يخصه وبالجملة فدخول الروح في البدن الطف من دخول الماء في الثرى والدهن في البدن فهذه الشبهة الفاسدة لا يعارض بها ما دل عليها نصوص الوحي والأدلة العقلية وبالله التوفيق
المسألة العشرون وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران
فأختلف الناس في ذلك فمن قائل أن مسماهما واحد وهم الجمهور ومن قائل أنهما متغايران ونحن نكشف سر المسألة بحول الله وقوته فنقول النفس تطلق على أمور أحدها الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش نجما سالما والنفس منه بشدقه % ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر أي بجفن سيف ومئزر والنفس والدم قال سألت نفسه وفي الحديث مالا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس الجسد قال الشاعر نبئت أن بني تميم أدخلوا % أبناءهم تامور نفس المنذر والتامور الدم والنفس العين يقال أصابت فلانا أي عين قلت ليس كما قال بل النفس ها هنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين توسع لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم قلت والنفس في القرآن تطلق على الذات بحملتها كقوله تعالى ^ فسلموا على أنفسكم ^ وقوله تعالى ^ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ^ وقوله تعالى ^ كل نفس بما كسبت رهينة ^ وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى ^ يا أيتها النفس المطمئنة ^ وقوله تعالى أخرجوا أنفسكم وقوله تعالى ^ ونهى النفس عن الهوى ^ وقوله تعالى ^ إن النفس لأمارة بالسوء ^ وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بإنفراده ولا مع النفس وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله قال تعالى ^ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ^ وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى ^ يلقى الروح من أمره على من ^
يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ! وقال تعالى ^ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فإتقون ^ وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم ! خير منها وأسلم عاقبة وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح قال الشاعر إذا ذهبت الأرواح من نحو أرضكم % وجدت لمسرها على كبدي بردا ومنها الروح والريحان والاستراحة فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا ومنه النفس بالتحريك فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وإن الحياة لا تتم إلا به كما لا تتم إلا بالنفس فلهذا قال تسيل على حد الظباة نفوسنا % وليست على غير الظباة تسيل ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن أفاض إذا دفع بإختياره وإرادته إذا اندفع قسرا وقهرا فالله سبحانه هو الذي يفيضها عند الموت فتفيض هي
فصل وقالت فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف الروح غير النفس
قال مقاتل بن سليمان للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد الله عز وجل أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجت وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى كيت وكيت
قال أبو عبد الله بن منده ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية وقال بعضهم الروح لاهوتية والنفس ناسوتية وأن الخلق بها ابتلى وقالت طائفة وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس والنفس غير الروح وقوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها وجعل الهوى تبعا للنفس والشيطان تبع النفس والهوى والملك مع العقل والروح والله تعالى يمدهما بالهامة وتوفيقه وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفى حقيقتها وعلمها على الخلق وقال بعضهم الأرواح نور من نور الله وحياة من حياة الله ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت فقالت طائفة الأرواح لا تموت ولا تبلى وقالت الجماعة الأرواح على صور الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان وقالت طائفة للمؤمن ثلاثة أرواح وللمنافق والكافر روح واحدة وقال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح وقال بعضهم الأرواح روحانية خلقت من الملكوت فإذا صفت رجعت إلى الملكوت قلت أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى ^ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ^ وكذلك الروح الذي أيد بها روحه المسح ابن مريم كما قال تعالى إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدك بروح القدس وكذلك الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن وأما القوى التي في البدن فإنها تسمى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر والروح السامع والروح الشام فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت الأبدان وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة
المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته وطاعته ولهذا يقول الناس فلان فيه روح وفلان ما فيه روح وهو بو وهو قصبة فارغة ونحو ذلك فللعلم روح وللإحسان روح وللإخلاص روح وللمحبة والإنابة روح وللتوكل والصدق روح والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا والله المستعان
المسألة الحادية والعشرون وهي هل النفس واحدة أم ثلاث فقد وقع في
كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث انفس نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه الأخرى ويحتجون على ذلك بقوله تعالى ^ يا أيتها النفس المطمئنة ^ وبقوله تعالى ^ لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ^ وبقوله تعالى ^ إن النفس لأمارة بالسوء ^ والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى بإعتبار كل صفة بأسم فتسمى مطمئنة بإعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به فتسرى تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى الله ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله ونذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى ^ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ^ فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه وهذا لا يتأتى بشيء سوى الله تعالى وذكره البتة وأما ما عداه فالطمأنينة إليه غرور والثقة به عجز قضى الله سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق
والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان بل لو اطمأن العبد إلى علمه وحاله وعمله سبله وزايله وقد جعل سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كما له إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان وانشراح الصدر له وفرح القلب به فإنه معرف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله فلا يزل القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش فيطمئن إليه ويسكن إليه ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم وقال إذا استوحش من الغربة قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينة شيئا فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي قام عليه بناؤه ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال ^ وبالآخرة هم يوقنون ^ فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها طمأنينته ! إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة أصبحت مؤمنا فقال رسول الله إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها فقال عبد نور الله قلبه
فصل والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان طمأنينة إلى
الإيمان بها وإثباتها واعتقادها وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من آثار العبودية مثاله الطمأنينة إلى القدر وإثباته والإيمان به يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها فيسلم
لها ويرضى بها ولا يسخط ولا يشكو ولا يضطرب إيمانه فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أتاه لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم قال تعالى ^ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه ^ قال غير واحد من السلف هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم وهى قدر زائد على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها وكذلك سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها كالسمع والبصر والرضا والغضب والمحبة فهذه طمأنينة الإيمان وأما طمأنينة الإحسان فهي الطمأنينة إلى أمره امتثالا وإخلاصا ونصحا فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدا فلا يساكن شبهة تعارض خبره ولا شهوة تعارض أمره بل إذا مرت به أنزلها منزلة الوساوس التي لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها فهذا كما النبي صريح الإيمان وعلامة هذه الطمأنينة أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها ويسهل عليه ذلك بأن يعلم أن اللذة والحلاوة والفرحة في الظفر بالتوبة وهذا أمر لا يعرفه إلا من ذاق الأمرين وباشر قلبه آثارهما فللتوبة طمأنينة تقابل ما في المعصية من الانزعاج والقلق ولو فتش العاصي عن قلبه لوجده حشوة المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب وإنما يوارى عنه شهود ذلك سكر الغفلة والشهوة فإن لكل شهوة سكرا يزيد على سكر الخمر وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل مالا يفعله شارب الخمر وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وتعلق الروح بحبه ومعرفته فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدا ولو أنصفت نفسها لرأتها إذا فقدت ذلك في غاية الانزعاج والقلق والاضطراب ولكن يواريها السكر فإذا كشف الغطاء تبين له حقيقة ما كان فيه
فصل وها هنا سر لطيف يجب التنبيه عليه والتنبه له والتوفيق له بيد
من أزمة التوفيق بيده وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالا إن لم يحصل له فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جعل له مثالا كمال العين بالأبصار وكمال الأذن بالسمع وكمال اللسان بالنطق فإذا عدمت هذه الأعضاء القوى التي بها كمالها حصل الألم والنقص بحسب فوات ذلك وجعل كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه وإرادته ومحبته والإنابة
إليه والإقبال عليه والشوق إليه والأنس به فإذا عدم القلب ذلك كان أشد عذابا واضطرابا من العين التي فقدت النور والباصر من اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال إلا بان يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبه وإن يكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك فحقيقة الأمر أنه لا طمأنينه له بدون التحقق بإياك نعبد وإياك نستعين وأقوال المفسرين في الطمأنينة ترجع إلى ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما المطمئنة المصدقة وقال قتادة هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله وقال الحسن المصدقة بما قال الله تعالى وقال مجاهد هي النفس التي أيقنت بأن الله ربها المسلمة لأمر فيما هو فاعل بها وروى منصور عنه قال النفس التي أيقنت أن الله ربها وضربت جاشا لأمره وطاعته وقال ابن أبي نجيح عنه النفس المطمئنة المختة ! إلى الله وقال أيضا هي التي أيقنت بلقاء الله فكلام السلف في المطمئنة يدور على هذين الأصلين طمأنينة العلم والإيمان وطمأنينة الإرادة والعمل
فصل فإذا اطمأنت من الشك إلى اليقين ومن الجهل إلى العلم ومن الغفلة
إلى الذكر ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرثاء إلى الإخلاص ومن الكذب إلى الصدق ومن العجز إلى الكيس ومن صولة العجب إلى ذلة الاخبات ومن التيه إلى التواضع ومن الفتور إلى العمل فقد بإشرت روح الطمأنينة وأصل ذلك كله ومنشؤه من اليقظة فهي أول مفاتيح الخير فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالا منه فإن العاقل يعلم وعد الله ووعيده وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويقعده عن الاستدراك سنة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات فإشتد إخلاده وركوده وانغمس في غمار الشهوات واستولت عليه العادات ومخالطة أهل البطالات ورضي بالتشبه بأهل إضاعة الأوقات فهو في رقاده مع النائمين وفي سكرته مع المخمورين فمتى انكشف عن قلبه سنة هذه الغفلة بزجرة من زواجر الحق في قلبه استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن أو همة عليه أثارها معول الفكر في المحل القابل فضرب بمعول فكره وكبر تكبيرة أضاءت له منها قصور الجنة فقال ألا يا نفس ويحك ساعديني % يسعى منك في ظلم الليالي لعلك في القيامة أن تفوزي % بطيب العيش في تلك العلالي
فأثارت تلك الفكرة نورا رأى في ضوئه ما خلق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار ورأى سرعة انقضاء الدنيا وعدم وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أنواع المثلات فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلا ^ يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ^ فإستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركا بها ما فات محييا بها ما أمات مستقبلا بها ما نقدم له من العثرات منتهزا فرصة إلا مكان التي إن فأتت فأته جميع الخيرات ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفور ! نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلب فيها ظاهرا وباطنا ليلا ونهارا ويقظة ومناما سرا وعلانية فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر ويكفي أن أدناها نعمة النفس ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما ظنك بغيرها ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها عاجز عن أداء حقها وإن المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمة واحدة منها فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البر لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بحلال وجهه وعظم سلطانه وهذا لو كانت أعماله منه فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه حيث يسرها له وأعانه وهيأه لها وشاءها منه وكونها ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها فحينئذ لا يرى أعماله منه وإن الله سبحانه لن يقبل عملا يراه صاحبه من نفسه حتى يرى عين توفيق الله له وفضله عليه ومنته وأنه من الله لا من نفسه وأنه ليس له من نفسه إلا الشر وأسبابه وما به من نعمة فمن الله وحده صدقة تصدق بها عليه وفضلا منه ساقه إليه من غير أن يستحقه بسبب ويستأهله بوسيلة فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلا لكل خير ويرى نفسه أهلا لكل شر وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة والظاهرة والباطنة وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين ثم يبرق له في نور اليقظة بارقة أخرى يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى أن حق المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يبق له حسنة واحدة يرفع بها رأسه فيطمئن قلبه وانكسرت نفسه وخشعت جوارحه وسار إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله قائلا أبوء لك بنعمتك على وأبوء لك بذنبي فأغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فلا يرى لنفسه حسنة ولا يراها أهلا لخير فيوجب له أمرين عظيمين
أحدها استكثار ما من الله عليه والثاني استقلال ما منه من الطاعة كائنة ما كانت ثم تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزة وقته وخطره وشرفه وأنه رأس مال سعادته فيبخل به أن يضيعه فما يقربه إلى ربه فإن في إضاعته الخسران والحسرة والندامة وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة فيشح بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده
فصل ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سنة غفلته
من التوبة والمحاسبة والمراقبة والغيرة لربه أن يؤثر عليه غيره وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته ببيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال وعلى نفسه أن يملك رقها لمعشوق أو فكر في منتهى حسنه ورأى آخره بعين بصيره لأنف لها من محبته فهذا كله من آثار اليقظة وموجباتها وهي أول منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة
فصل وأما النفس اللوامة وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله
^ ولا أقسم بالنفس اللوامة ^ فاختلف فيها فقالت طائفة هي التي لا تثبت على حال واحدة اخذوا اللفظة من التلوم ! وهو التردد فهي كثيرة التقلب والتلون وهي من أعظم آيات الله فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلا عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة فتذكر وتغفل وتقبل وتعرض وتلطف وتكشف وتنيب وتجفو وتحب وتبغض وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتطع وتنقى وتفجر إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها فهي تتلون كل وقت ألوانا كثيرة فهذا قول وقالت طائفة اللفظة مأخوذة من اللوم ثم اختلفوا فقالت فرقة هي نفس المؤمن وهذا من صفاتها المجردة قال الحسن البصري أن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائما يقول ما أردت بهذا لم فعلت هذا كان غير هذا أولى أو نحو هذا من الكلام وقال غيره هي نفس المؤمن توقعه في الذنب ثم تلومه عليه فهذا اللوم من الإيمان بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه على ذنب بل يلومها وتلومه على فواته وقالت طائفة بل هذا اللوم للنوعين فإن كل أحد يلوم نفسه برا كان أو فاجرا فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها
وقالت فرقة أخرى هذا اللوم يوم القيامة فإن كل أحد يلوم نفسه إن كان مسيئا على إساءته وإن كان محسنا على تقصيره وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها فإن النفس موصوفة بهذا كله وبإعتباره سميت لوامة ولكن اللوامة نوعان لوامة ملومة وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته ولوامة غير ملومة وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده فهذه غير ملومة وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله واحتملت ملام اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها ولم تحتمل في الله ملام اللوام فهي التي يلومها الله عز وجل
فصل وأما النفس الأمارة فهي المذمومة فإنها التي تأمر بكل سوء وهذا من
طبيعتها إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له كما قال تعالى حاكيا عن امرأة العزيز وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه ^ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ^ وكان النبي يعلمهم خطبة الحاجة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له فالشر كامن في لنفس وهو يوجب سيئات الأعمال فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وقد امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين الأمارة واللوامة كما أكرمه بالمطمئنة فهي نفس واحدة تكون أمارة ثم لوامة مطمئنة وهي غاية كمالها وصلاحها وأيد المطمئنة بجنود عديدة فجعل الملك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها ويقذف فيها الحق ويرغبها فيه ويريها حسن صورته ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه ويريها قبح صورته وأمدها بما علمها من القرآن والأذكار وأعمال البر وجعل وفود الخيرات ومداد التوفيق تنتابها وتصل إليها من كل ناحية وكلما تلقتها بالقبول والشكر والحمد لله ورؤية أوليته في ذلك كله ازداد مددها فتقوى على محاربة الإمارة فمن جندها وهو سلطان عساكرها وملكها الإيمان واليقين
فالجيوش الإسلامية كلها تحت لوائه ناظرة إليه إن ثبت ثبتت وإن انهزم ولت على أدبارها ثم أمراء هذا الجيش ومقدمو عساكره شعب الإيمان المتعلقة بالجوارح على اختلاف أنواعها كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصيحة الخلق والإحسان إليهم بأنواع الإحسان وشعبه الباطنة المتعلقة بالقلب كالإخلاص والتوكل والإنابة والتوبة والمراقبة والصبر والحلم والتواضع والمسكنة وامتلاء القلب من محبة الله ورسوله وتعظيم أوامر الله وحقوقه والغيرة لله وفي الله والشجاعة والعفة والصدق والشفقة والرحمة وملاك ذلك كله الإخلاص والصدق فلا يتعب الصادق المخلص فقد أقيم على الصراط المستقيم فيسار به وهو راقد ولا يتعب من حرم الصدق والإخلاص فقد قطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران فإن شاء فليعمل وإن شاء فليترك فلا يزيده عمله من الله إلا بعدا وبالجملة فما كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها فهو يعدها ويمنيها ويقذف فيها الباطل ويأمرها بالسوء ويزينه لها ويطيل في الأمل ويريها الباطل في صورة تقلبها وتستحسنها ويمدها بأنواع الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة ويستعين عليها بهواها وإرادتها فمنه يدخل عليها كل مكروه فما استعان على النفوس بشيء هو أبلغ من هواها وإرادتها إليه وقد علم ذلك إخوانه من شياطين الإنس فلا يستعينون على الصور الممنوعة منهم بشيء أبلغ من هواهم وإرادتهم فإذا أعيتهم صورة طلبوا بجهدهم ما تحبه وتهواه ثم طلبوا بجهدهم تحصيله فاصطادوا تلك الصورة فإذا فتحت لهم النفس باب الهوى دخلوا منه فجلسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وسبوا وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا نحكم فيها فهدموا معالم الإيمان والقرآن والذكر والصلاة وخربوا المساجد وعمروا البيع والكنائس والحانات والمواخير وقصدوا إلى الملك فأسروا وسلبوه ملكه ونقلوه من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان ومن عز الطاعة إلى ذل المعصية ومن السماع الرحماني إلى السماع الشيطاني ومن الاستعداد للقاء رب العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين فبينا هو يراعى حقوق الله وما أمره به إذ صار يرعى الخنازير وبينا هو منتصب لخدمة العزيز الرحيم إذ صار منتصبا لخدمة كل شيطان رجيم والمقصود أن الملك قرين النفس المطمئنة والشيطان قرين الأمارة وقد روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد الله قال قال رسول الله
أن للشيطان لمة بأبن آدم وللملك لمة فأما الشيطان فيعاد ! بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله وليحمد الله ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم الفحشاء وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب وزاد فيه عمرو قال سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله وليسأله من فضله وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان
فصل فالنفس المطمئنة والملك وجنده من الإيمان يقتضيان من النفس
المطمئنة التوحيد والإحسان والبر والتقوى والصبر والتوكل والتوبة والإنابة والإقبال على الله وقصر الأمل والاستعداد للموت وما بعده والشيطان وجنده من الكفر يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك وقد سلط الله سبحانه الشيطان على كل ما ليس له ولم يرد به وجهه ولا هو طاعة له وجعل ذلك إقطاعه فهو يستنيب النفس الأمارة على هذا العمل والإقطاع ويتقاضى أن تأخذ الأعمال من النفس المطمئنة فتجعلها قوة لها فهي أحرص شيء على تخليص الأعمال كلها وأن تصير من حظوظها فأصعب شيء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة لله فلو وصل منها عمل واحد كما ينبغي لنجابه العبد ولكن أبت الأمارة والشيطان ان يدعا لها عملا واحدا يصل إلى الله كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه والله لو اعلم أن لي عملا واحدا وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله وقال عبد الله بن عمر لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلى من الموت ^ إنما يتقبل الله من المتقين ^