فصل الحادي والثمانون قوله الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف
وما تناكر منها اختلف فوصفها بأنها جنود مجندة والجنود ذوات قائمة بنفسها ووصفها بالتعارف والتناكر ومحال أن تكون هذه الجنود أعراضا أو تكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا بعض لها ولا كل الثاني والثمانون قوله في حديث ابن مسعود رضي الله عنه على الأرواح تتلاقى وتتشامم كما تشام الخيل وقد تقدم الثالث والثمانون قوله في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يومين وما رأي أحدهما صاحبه الرابع والثمانون الآثار التي ذكرناها في خلق آدم وأن الروح لما دخل في رأسه عطس فقال الحمد لله فلما وصل الروح إلى عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما وصل إلى جوفه اشتهي الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه وأنها دخلت كارهة وتخرج كارهة وتخرج كارهة الخامس والثمانون الآثار التي فيها إخراج الرب تعالى النسم وتمييز شقيهم من سعيدهم وتفاوتهم حينئذ في الإشراق والظلمة وأرواح الأنبياء فيهم مثل السرج وقد تقدم السادس والثمانون حديث تميم الداري أن روح المؤمن إذا صعد بها إلى الله خر ساجدا بين يديه وأن الملائكة تتلقى الروح بالبشرى وأن الله تعالى يقول الملك الموت انطلق بروح عبدى فضعه في مكان كذا وكذا وقد تقدم السابع والثمانون الآثار التي ذكرناها في مستقر الأرواح بعد الموت واختلاف الناس في ذلك وفي ضمن ذلك الاختلاف إجماع السلف على أن للروح مستقرا بعد الموت وإن اختلف في تعيينه الثامن والثمانون ما قد علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وأخبر به الأمة أنه تنبت أجسادهم في القبور فإذا نفخ في الصور رجعت كل روح إلى جسدها فدخلت فيه فانشقت الأرض عنه فقام من قبره وفي حديث الصور أن إسرافيل عليه السلام يدعو الأرواح فتأتيه جميعا أرواح المسلمين نورا والأخرى مظلمة فيجمعها جميعا فيعلقها في الصور ثم ينفخ فيه فيقول الرب جل جلاله وعزتي ليرجعن كل روح إلى جسده فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين
السماء والأرض فيأتي كل روح إلى جسده فيدخل ويأمر الله الأرض فتنشق عنهم فيخرجون سراعا إلى ربهم ينسلون مهطعين إلى الداعي يسمعون المنادي من مكان قريب فإذا هم قيام ينظرون وهذا معلوم بالضرورة أن الرسول أخبر به وإن الله سبحانه لا ينشىء لهم أرواحا غير أرواحهم التي كانت في الدنيا بل هي الأرواح التي اكتسبت الخير والشر أنشأ أبدانها نشأة أخرى ثم ردها إليها التاسع والثمانون أن الروح والجسد يختصمان بين يدي الرب عز وجل يوم القيامة قال علي بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبى سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد فيقول الروح يا رب إنما كنت روحا منك جعلتني في هذا الجسد فلا ذنب لي ويقول الجسد يا رب كنت جسدا خلقتني ودخل في هذا الروح مثل النار فيه كنت أقوم وبه كنت أقعد وبه أذهب وبه أجىء لا ذنب لي قال فيقال أنا أقضي بينكما أخبراني عن أعمى ومقعد دخلا حائطا فقال المقعد للأعمى إني أرى ثمرا فلو كانت لي رجلان لتناولت فقال الأعمى أنا أحملك على رقبتي فحمله فتناول من الثمر فأكلا جميعا فعلى من الذنب قالا عليهما جميعا فقال قضيتما على أنفسكما التسعون الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر ونعيمه إلى يوم البعث فمعلوم أن الجسد تلاشى واضمحل وأن العذاب والنعيم المستمرين إلى يوم القيامة إنما هو على الروح الحادي والتسعون أخبار الصادق المصدوق في الحديث الصحيح عن الشهداء إنهم لما سئلوا ما تريدون قالوا نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فيك مرة أخرى فهذا سؤال وجواب من ذات حية عالمة ناطقة تقبل الرد إلى الدنيا والدخول في أجساد خرجت منها وهذه الأرواح سئلت وهي تسرح في الجنة والأجساد قد مزقها البلى الثاني والتسعون ما ثبت عن سلمان الفارسي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن أرواح المؤمنين في برزخ تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين وقد تقدم الثالث والتسعون رؤية النبي لأرواح الناس عن يمين آدم ويساره ليلة الإسراء فرآها متحيزة بمكان معين
الرابع والتسعون رؤيته أرواح الأنبياء في السموات وسلامهم عليه وترحيبهم به كما أخبر به وأما أبدانهم ففي الأرض الخامس والتسعون رؤيته أرواح الأطفال حول إبراهيم الخليل عليه السلام السادس والتسعون رؤيته أرواح المعذبين في البرزخ بأنواع العذاب في حديث سمرة الذي رواه البخاري في صحيحه وقد تلاشت أجسادهم واضمحلت وإنما كان الذي رآه أرواحهم ونسمهم يفعل بها ذلك السابع والتسعون أخباره سبحانه عن الذين قتلوا في سبيله أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم فرحون مستبشرين بإخوانهم وهذا للأرواح قطعا لأن الأبدان في التراب تنظر عود أرواحهم إليها يوم البعث الثامن والتسعون ما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ونحن نسوقه ليتبين كم فيه من دليل على بطلان قول الملاحدة وأهل البدع في الروح وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم قال بينما رسول الله ذات يوم قاعدا تلا هذه الآية ^ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ^ الآية ثم قال والذي نفس محمد بيده ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما يرى غيرهم وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم مع كل ملك منهم أكفان وحنوط فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله وجنته فقد أعد الله لك من الكرامة ما هو خير لك من الدنيا وما فيها فلا يزالون يبشرونه فهم ألطف به وأرأف من الوالدة بولدها ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل يموت الأول فالأول ويبرد كل عضو الأول فالأول ويهون عليهم وإن كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم فيبتدرونها كل ملك منهم أيهم يقبضها فيتولى قبضها ملك ثم تلا رسول الله ^ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ^ فيتلقاها بأكفان بيض ثم يحتضنها إليه فلهو أشد لزوما من المرأة لولدها ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك فيستنشقون ريحا طيبا ويتباشرون بها ويقولون مرحبا بالريح الطيبة والروح الطيب اللهم صل عليه روحا وصل على جسد خرجت منه قال فيصعدون بها فتفوح لهم ريح أطيب من المسك فيصلون عليها ويتباشرون بها وتفتح لهم أبواب السماء ويصلى عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم حتى تنتهي بين يدي الجبار جل جلاله فيقول الجبار عز وجل مرحبا بالنفس
الطيبة ادخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم ثم اذهبوا بها إلى الأرض فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد وتقول أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه فيقولون إنا مأمورون بهذا فلا بد لك منه فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين الجسد وأكفانه فتأمل كم في الحديث من موضع يشهد ببطلان قول المبطلين في الروح التاسع والتسعون ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن ابن البيلماني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إذا توفي المؤمن بعث إليه ملكان بريحان من الجنة وخرقة تقبض فيها فتخرج كأطيب رائحة وجدها أحد قط بأنفه حتى يؤتى به الرحمن جل جلاله فتسجد الملائكة قبله ويسجد بعدهم ثم يدعى ميكائيل عليه السلام فيقال اذهب بهذه النفس فإجلعها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة وقد تظاهرت الآثار عن الصحابة أن روح المؤمن تسجد بين يدي العرش في وفاة النوم ووفاة الموت وأما حين قدومها على الله فأحسن تحيتها أن تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام وحدثني القاضي نور الدين بن الصائغ قال كانت لي خالة وكانت من الصالحات العابدات قال عدتها في مرض موتها فقالت لي الروح إذا قدمت على الله ووقفت بين يديه ما تكون تحيتها وقولها له قال فعظمت على مسألتها وفكرت فيها ثم قلت تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام قال فلما توفيت رأيتها في المنام فقالت لي جزاك الله خيرا لقد دهشت فما أدري ما أقوله ثم ذكرت تلك الكلمة التي قلت لي فقلتها
فصل المائة ما قد اشترك في العلم به عامة أهل الأرض من لقاء
أرواح الموتى وسؤالهم لهم وإخبارهم إياهم بأمور خفيت عليهم فرأوها عيانا وهذا أكثر من أن يتكلف إيراده وأعجب من هذا الوجه الحادي والمائة أن روح النائم يحصل لها في المنام آثار فتصبح يراها على البدن عيانا وهي من تأثير للروح في الروح كما ذكر القيراوني في كتاب البستان
قال كان لي جار يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان ذات يوم أكثر من شتمهما فتناولته وتناولي فأنصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين فنمت وتركت العشاء فرأيت رسول الله في المنام فقلت يا رسول الله فلان يسب أصحابك قال من أصحابي قلت أبو بكر وعمر فقال خذ هذه المدية فأذبحه بها فأخذتها فأضجعته وذبحته ورأيت كأن يدي أصابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض لأمسحها فأنتبهت وأنا أسمع الصراخ من نحو داره فقلت ما هذا الصراخ قالوا فلان مات فجأة فلما أصحنا جئت فنظرت إليه فإذا خط موضع الذبح وفي كتاب المنامات لابن أبي الدنيا عن شيخ من قريش قال رأيت رجلا بالشام قد أسود نصف وجهه وهو يغطيه فسألته عن ذلك فقال قد جعلت لله على أن لا يسألني أحد عن ذلك إلا أخبرته به كنت شديد الوقيعة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت في منامي فقال لي أنت صاحب الوقيعة في فضرب شق وجهي فأصبحت وشق وجهي أسود كما ترى وذكر مسعدة عن هشام بن حسان عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة قالت كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتتها امرأة مشتملة على يدها فجعل النساء يولعن بها فقالت ما أتيتك إلا من أجل يدي أن أبي كان رجلا سمحا وأني رأيت في المنام حياضا عليها رجال معهم آنية يسقون من أتاهم فرأيت أبي قلت أين أمي فقال انظري فنظرت فإذا أمي ليس عليها إلا قطعة خرقة فقال أنها لم تتصدق قط إلا بتلك الخرقة وحمة من بقرة ذبحوها فتلك الشحمة تذاب وتطرى بها وهي تقول وأعطشاه قالت فأخذت إناء من الآنية فسقيتها فنوديت من فوقي من سقاها أيبس الله يده فأصبحت يدي كما ترين وذكر الحارث بن أسد المحاسبي واصبغ وخلف بن القاسم وجماعة عن سعيد بن مسلمة قال بينما امرأة عند عائشة إذ قالت بايعت رسول الله على أن لا أشرك بالله شيئا ولا أسرق ولا أزني ولا أقتل ولدي ولا آتي ببهتان أفتريه من بين يدي ورجلي ولا أعصي في معروف فوفيت لربي ووفا لي ربي فوالله لا يعذبني الله فأتاها في المنام ملك فقال لها كلا إنك تتبرجين وزينتك تبدين وخيرك تكندين وجارك تؤذين وزوجك تعصين ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها وقال خمس بخمس ولو زدت زدناك فأصبحت وأثر الأصابع في وجهها
وقال عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك سمعت مالكا يقول إن يعقوب بن عبد الله بن الأشج كان من خيار هذه الأمة نام في اليوم الذي استشهد فيه فقال لأصحابه إني قد رأيت أمرا ولأخبرنه أني رأيت كأني أدخلت الجنة فسقيت لبنا فأستبقاء فقاء اللبن واستشهد بعد ذلك قال أبو القاسم وكان في غزوة في البحر بموضع لا لبن فيه وقد سمعت غير مالك يذكره ويذكر أنه معروف فقال أني رأيت كأني أدخل الجنة فسقيت فيها لبنا فقال له بعض القوم أقسمت عليك لما تقيأت فقاء لبنا يصلد أي يبرق وما في السفينة لبن ولا شاة قال ابن قتيبة قوله يصلد أي يبرق يقال صلد اللبن ومنه يصلد ومنه حديث عمر أن الطبيب سقاه لبنا فخرج من الطعنة أبيض يصلد وكان نافع القارىء إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسك فقيل له كلما قعدت تتطيب فقال ما أمس طيبا ولا أقربه ولكن رأيت النبي في المنام وهو يقرأ في فمي فمن ذلك الوقت يشم من في هذه الرائحة وذكر مسعدة في كتابه في الرؤيا عن ربيع بن الرقاشي قال أتاني رجلان فقعدا إلى فأغتابا رجلا فنهيتهما فأتاني أحدهما بعد فقال إني رأيت في المنام كأن زنجيا أتاني بطبق عليه جنب خنزير لم أر لحما قط اسمن منه فقال لي كل فقلت آكل لحم خنزير فتهددني فأكلت فأصبحت وقد تغير فمي فلم يزل يجد الريح في فمه شهرين وكان العلاء بن زياد له وقت يقوم فيه فقال لأهله تلك الليلة إني أجد فترة فإذا كان وقت كذا فأيقظوني فلم يفعلوا قال فأتاني آت في منامي فقال قم يا علاء بن زياد اذكر الله يذكرك وأخذ بشعرات في مقدم رأسي فقامت تلك الشعرات في مقدم رأسي فلم تزل قائمة حتى مات قال يحيى بن بسطام فلقد غسلناه يوم مات وإنهن لقيام في رأسه وذكر ابن أبي الدنيا عن أبي حاتم الرازي عن محمد بن علي قال كنا بمكة في المسجد الحرام قعودا فقام رجل نصف وجهه أسود ونصفه أبيض فقال يا أيها الناس اعتبروا بي فإني كنت أتناول الشيخين وأشتمهما فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت فرفع يده فلطم وجهي وقال لي يا عدو الله يا فاسق ألست تسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فأصبحت وأنا على هذه الحالة وقال محمد بن عبد الله المهلبي رأيت في المنام كأني في رحبة بني فلان وإذا النبي جالس على أكمة ومعه أبو بكر وعمر واقف قدامه فقال له عمر
يا رسول الله إن هذا يشتمني ويشتم أبا بكر فقال جيء به يا أبا حفص فأتى برجل فإذا هو العماني وكان مشهورا بسبهما فقال له النبي أضجعه فأضجعه ثم قال اذبحه فذبحه قال فما نبهني إلا صياحه فقلت مالي لا أخبره عسى أن يتوب فلما تقربت من منزله سمعت بكاء شديدا فقلت ما هذا البكاء فقالوا العماني ذبح البارحة على سريره قال فدنوت من عنقه فإذا من أذنه إلى أذنه طريقة حمراء كالدم المحصور وقال القيرواني أخبرني شيخ لنا من أهل الفضل قال أخبرني أبو الحسن المطلبي أمام مسجد النبي قال رأيت بالمدينة عجبا كان رجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فبينا نحن يوما من الأيام بعد صلاة الصبح إذ أقبل رجل وقد خرجت عيناه وسالتا على خديه فسألناه ما قصتك فقال رأيت البارحة رسول الله وعلى بين يديه ومعه أبو بكر وعمر فقالا يا رسول الله هذا الذي يؤذينا ويسبنا فقال لي رسول الله من أمرك بهذا يا أبا قيس فقلت له على وأشرت عليه فأقبل علي بوجهه ويده وقد ضم أصابعه وبسط السبابة والوسطى وقصد بها إلى عيني فقلت إن كنت كذبت ففقأ الله عينيك وادخل أصبعيه في عيني فانتهت من نومي وأنا على هذه الحال فكان يبكي يخبر الناس وأعلن بالتوبة قال القيرواني وأخبرني شيخ من أهل الفضل قال أخبرني فقيه قال كان عندنا رجل يكثر الصوم ويسرده ولكنه كان يؤخر الفطر فرأي في المنام كأن أسودين آخذين بضبعيه وثيابه إلى تنور محمى ليلقياه قال فقلت لهما على ماذا فقالا على خلافك لسنة رسول الله فإنه أمر بتعجيل الفطر وأنت تؤخره قال فأصح وجهه قد اسود من وهج النار فكان يمشي متبرقعا في الناس وأعجب من هذا الرجل يرى في المنام وهو شديد العطش والجوع والألم أن غيره قد سقاه وأطعمه أو داواه بدواء فيستيقظ وقد زال عنه ذلك كله وقد رأي الناس من هذا عجائب وقد ذكر مالك عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة أن جارية لها سحرتها وأن سنديا دخل عليها وهي مريضة فقال إنك سحرت قالت ومن سحرني قال جارية في حجرها صبي قد بال عليها فدعت جاريتها فقالت حتى أغسل بولا في ثوبي فقالت لها أسحرتني قالت نعم قالت وما دعاك إلى ذلك قالت أردت تعجيل العتق فأمرت أخاها أن يبيعها من الأعراب ممن يسئ ملكها فباعها ثم إن عائشة رأت في منامها أن اغتسلي من ثلاثة آبار يمد بعضها بعضا فأستسقى لها فأغتسلت فبرأت
وكان سماك بن حرب قد ذهب بصره فرأي إبراهيم الخليل في المنام فمسح على عينيه وقال اذهب إلى الفرات فتنغمس فيه ثلاثا ففعل فأبصر وكان إسماعيل بن بلال الحضرمي قد عمى فأتى في المنام فقيل له قل يا قريب يا مجيب يا سميع الدعاء يا لطيف بمن يشاء رد على بصري فقال الليث بن سعد أنا رأيته قد عمى ثم أبصر وقال عبيد الله بن أبي جعفر اشتكيت شكوى فجهدت منها فكنت أقرأ آية الكرسي فنمت فإذا رجلان قائمان بين يدي فقال أحدهما لصاحبه أن يقرأ آية فيها ثلاثمائة وستون رحمة أفلا يصيب هذا المسكين فيها رحمة واحدة فأستيقظت فوجدت خفة قال ابن أبي الدنيا اعتلت امرأة من أهل الخير والصلاح بوجع المعده فرأت في المنام قائلا يقول لا إله إلا الله المغلي وشراب الورد فشربته فأذهب الله عنها ما كانت تجد قال وقالت أيضا رأيت في المنام كأني أقول السناء والعسل وماء الحمص الأسود شفاء لوجع الأوراك فلما استيقظت أتتني امرأة تشكو وجعا بوركها فوصفت لها ذلك فأستنفعت به وقال جالينوس السبب الذي دعاني إلى فصد العروق الضوارب أني أمرت به في منامي مرتين قال كنت إذ ذاك غلاما قال وأعرف إنسانا شفاه الله من وجع كان به في جنبه بفصد العرق الضارب لرؤيا رآها في منامه وقال ابن الخراز كنت أعالج رجلا ممعودا فغاب عني ثم لقيته فسألته عن حاله فقال رأيت في المنام إنسانا في زي ناسك متوكئا على عصا وقف علي وقال أنت رجل ممعود فقلت نعم فقال عليك بالكباء والجلنجبين فأصبحت فسألت عنهما فقيل لي الكباء المصطكي والجلنجبين الورد المربي بالعسل فأستعملتهما أياما فبرأت فقلت له ذلك جالينوس والوقائع في هذا الباب أكثر من أن تذكر قال بعض الناس إن أصل الطب من المنامات ولا ريب أن كثيرا من أصوله مستند إلى الرؤيا كما أن بعضها عن التجارب وبعضها عن القياس وبعضها عن الهام ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في تاريخ الأطباء وفي كتاب البستان للقيرواني وغير ذلك
فصل الوجه الثاني بعد المائة قوله تعالى
إن الذين كسبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء وهذا دليل على أن المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء وهذا التفتيح هو تفتيحها لأرواحهم
عند الموت كما تقدم في الأحاديث المستفيضة أن السماء تفتح لروح المؤمن حتى ينتهي بها إلى بين يدي الرب تعالى وأما الكافر فلا تفتح لروحه أبواب السماء ولا تفتح لجسده أبواب الجنة
فصل الوجه الثالث بعد المائة قول النبي يا بلال ما دخلت الجنة
إلا سمعت خشخشتك بين يدي فبم ذاك قال ما أحدثت في ليل أو نهار إلا توضأت وصليت ركعتين قال بهما ومعلوم أي الذي سمع خشخشته بين يديه هو روح بلال وإلا فجسده لم ينقل إلى الجنة الوجه الرابع بعد المائة الأحاديث والآثار التي في زيارة القبور والسلام على أهلها ومخاطبتهم والأخبار عن معرفتهم بزوارهم وردهم عليهم السلام وقد تقدمت الإشارة إليها الوجه الخامس بعد المائة شكاية كثير من أرواح الموتى إلى أقاربهم وغيرهم أمورا مؤذية فيجدونها كما شكوه فيزيلونها الوجه السادس بعد المائة لو كانت الروح عبارة عن عرض من أعراض البدن أو جوهر مجرد ليس بجسم ولا حال فيه لكان قول القائل خرجت وذهبت وقمت وجئت وقعدت وتحركت ودخلت ورجعت ونحو ذلك كله أقوالا باطلة لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الأعراض والمجردات وكل عاقل يعلم صدق قوله وقول غيره ذلك فالقدح ذلك قدح في أظهر المعلومات من باب السفسطة لا يقال حاصل هذا الدليل التمسك بألفاظ الناس وإطلاقاتهم وهي تحتمل الحقيقة والمجاز فلعل مرادهم دخل جسمي وخرج لأنا إنما استدللنا بشهادة العقل والفطرة بمعاني هذه الألفاظ فكل أحد يشهد عقله وحسه بأنه هو الذي دخل وخرج وانتقل لا مجرد بدنه فشهادة الحس والعقل بمعاني هذه الألفاظ وإضافتها إلى الروح أصلا وإلى البدن تبعا من أصدق الشهادات والاعتماد على ذلك مجرد الإطلاق اللفظي الوجه السابع بعد المائة أن البدن مركب ومحل لتصرف النفس فكان دخول البدن وخروجه وانتقاله جاريا مجرى دخول مركبه من فرسه ودابته فلو كانت النفس غير قابله للدخول والخروج والانتقال والحركة والسكون لكان ذلك بمنزلة دخول مركب الإنسان إلى الدار وخروجه منها دون دخوله هو وهذا معلوم البطلان بالضرورة وكل أحد يعلم أن نفسه
وروحه هي التي دخلت وخرجت وانتقلت وصرفت البدن وجعلته تبعا لها في الدخول والخروج فهو لها بالأصل وللبدن بالتبع كلنه للبدن بالمشاهدة وللروح بالعلم والعقل الوجه الثامن بعد المائة أن النفس لو كانت كما يقوله أنها عرض لكان الإنسان كل وقت قد يبدل مائة ألف نفس أو أكثر والإنسان إنما هو إنسان بروحه ونفسه لا ببدنه وكان الإنسان الذي هو الإنسان غير الذي قبله بلحظة وبعده بلحظة وهذا من نوع الهوس ولو كانت الروح مجردة وتعلقها بالبدن بالتدبير فقط لا بالمساكنة والمداخلة لم يمتنع أن ينقطع تعلقها بهذا البدن وتتعلق بغيره كما يجوز انقطاع تدبير المدبر لبيت أو مدينة عنها ويتعلق بتدبير غيرها وعلى هذا التدبير فنصير شاكين في أن هذه النفس التي لزيد هي النفس الأولى أو غيرها وهل زيد هو ذلك الرجل أم غيره وعاقل لا يجوز ذلك فلو كانت الروح عرضا أو أمرا مجردا لحصل الشك المذكور الوجه التاسع بعد المائة أن كل أحد يقطع أن نفسه موصوفة بالعلم والفكر والحب والبغض والرضا والسخط وغيرها من الأحوال النفسانية ويعلم أن الموصوف ليس بذلك عرضا من أعراض بدنه ولا جوهرا مجردا منفصلا عن بدنه غير مجاور له ويقطع ضرورة بأن هذه الإدراكات لأمر داخل في بدنه كما يقطع بأنه إذا سمع وأبصر وشم وذاق ولمس وتحرك وسكن فتلك أمور قائمة به مضافة إلى نفسه وأن جوهر النفس هو الذي قام به ذلك كله لم يقم بمجرد ولا بعرض بل قام بمتحيز داخل العالم منتقل من مكان إلى مكان يتحرك ويسكن ويخرج ويدخل وليس إلا هذا البدن والجسم الساري فيه المشابك له الذي لولاه لكان بمنزلة الجماد الوجه العاشر بعد المائة إن النفس لو كانت مجردة وتعلقها بالبدن تعلق التدبير فقط كتعلق الملاح بالسفينة والجمال بحمله لأمكنها ترك تدبير هذا البدن واشتغالها بتدبير بدن آخر كما يمكن الملاح والجمال ذلك وفي ذلك تجويز نقل النفوس من أبدان إلى أبدان ولا يقال أن النفس اتحدت ببدنها فامتنع عليها الانتقال أو أنها لها عشق طبيعي وشوق ذاتي إلى تدبير هذا البدن فلهذا السبب امتنع انتقالها لأنا نقول الاتحاد ما لا يتحيز بالمتحيز محال ولأنها لو اتحدت به لبطلت ببطلانه ولأنها بعد الاتحاد إن بقيا فهما اثنان لا واحد وإن عدما معا وحدث ثالث فليس من الاتحاد في شيء وإن بقي أحدهما وعد الآخر فليس باتحاد أيضا وأما عشق النفس الطبيعي للبدن فالنفس إنما تعشقه لأنها تتناول اللذات بواسطته وإذا كانت الأبدان متساوية في حصول مطلوبها كانت نسبتها إليها على السواء فقولكم أن النفس
المعينة عاشقة للبدن المعين باطل ومثال ذلك العطشان إذا صادف آنية متساوية كل مها يحصل غرضه امتنع عليه أن يعشق واحدا منها بعينه دون سائرها الوجه الحادي عشر بعد المائة أن نفس الإنسان لو كانت جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة عنه ولا مباينة ولا مجانبة لكان يعلم بالضرورة أنه موجود بهذه الصفة لأن علم الإنسان بنفسه وصفاتها أظهر من كل معلوم وأن علمه بما عداه تابع لعلمه بنفسه ومعلوم قطعا أن ذلك باطل فإن جماهير أهل الأرض يعلمون أن إثبات هذا الوجود محال في العقول شاهدا وغائبا فمن قال ذلك في نفسه وربه فلا نفسه عرف ولا ربه عرف الوجه الثاني عشر بعد المائة أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس وإدراكاتها الكلية والجزئية ومحل للقردة على الحركات الإرادية فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن وما سكن فيه أما أن يكون محلها جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه فباطل بالضرورة الوجه الثالث عشر بعد المائة أن النفس لو كانت مجردة عن الجسمية والتحيز لامتنع أن يتوقف فعلها على مماسة محل الفعل لأن ما لا يكون متحيزا يمتنع أن يصير مماسا للمتحيز ولو كان الأمر كذلك لكان فعلها على سبيل الاختراع من غير حاجة إلى حصول مماسة وملاقاة بين الفاعل وبين محل الفعل فكان الواحد منا يقدر على تحريك الأجسام من غير أن يماسها أو يماس شيئا يماسها فإن النفس عندكم كما كانت قادرة على تحريك البدن من غير أن يكون بينها وبينه مماسة كذلك لا تمنع قدرتها على تحريك جسم غيره من غير مماسة له ولا لما يماسه وذلك باطل بالضرورة فعلم أن النفس لا تقوى على التحريك إلا بشرط أن تماس محل الحركة أو تماس ما يماسه وكل ما كان مماسه للجسم أو لما يماسه فهو جسم فإن قيل يجوز أن يكون تأثير النفس في تحريك بدنها الخاص غير مشروط بالمماسة وتأثيرها في تحريك غيره موقوف على حصول المماسة بين بدنها وبين ذلك الجسم فالجواب أنه لما كان قبول البدن لتصرفات النفس لا يتوقف على حصول المماسة بين النفس وبين البدن وجب أن تكون الحال كذلك في غيره من الأجسام لأن الأجسام متساوية في قبول الحركة ونسبة النفس إلى جميعها سواء لأنها إذا كانت مجردة عن الحجمية وعلائق الحجمية كانت نسبة ذاتها إلى الكل بالسوية ومتى كانت ذات الفاعل نسبتها إلى الكل بالسوية والقوابل نسبتها إلى ذلك الفاعل بالسوية كان التأثير بالنسبة إلى الكل على السواء فإذا استغنى الفاعل عن مماسة محل الفعل في حق البعض وجب أن يستغني في حق الجميع وإن افتقر إلى المماسة في البعض
وجب افتقاره في الجميع فإن قيل النفس عاشقة لهذا البدن دون غيره فكان تأثيرها فيه أقوى من تأثيرها في غيره قيل هذا العشق الشديد يقتضي أن يكون تعلقها بالبدن أكثر وتصرفها فيه أقوى فأما أن يتغير مقتضى ذاتها بالنسبة إلى هذه الأجسام فذلك محال وهذا دليل في غاية القوة الوجه الرابع عشر بعد المائة أن العقلاء كلهم متفقون على أن الإنسان هو هذا الحي الناطق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة وهذه الصفات نوعان صفات لبدنه وصفات لروحه ونفسه الناطقة فلو كانت الروح جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه لكان الإنسان لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه أو كان بعضه في العالم وبعضه لا داخل العالم ولا خارجه وكل عاقل يعلم بالضرورة بطلان ذلك وأن الإنسان بجملته داخل العالم بدنه وروحه وهذا في البطلان يضاهي قول من قال أن نفسه قديمة غير مخلوقة فجعلوا نصف الإنسان مخلوقا ونصفه غير مخلوق فإن قيل نحن نسلم أن الإنسان كما ذكرتم إلا أنا نثبت جوهرا مجردا يدبر الإنسان الموصوف بهذه الصفات قلنا فذلك الجوهر الذي أثبتموه مغاير للإنسان أو هو حقيقة الإنسان ولا بد لكم من أحد الأمرين فإن قلتم هو غير الإنسان رجع كلامكم إلى أنكم أثبتم للإنسان مدبرا غيره سميتموه نفسها وكلامنا الآن إنما هو في حقيقة الإنسان لا في مدبره فإن مدبر الإنسان وجميع العالم العلوي والسفلي هو الله الواحد القهار الوجه الخامس عشر بعد المائة أن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان فإنه يشير إلى هذه البنية وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يقبل شكا ولا تشكيكا الوجه السادس عشر بعد المائة أن عقول العالمين قاضيه بأن الخطاب متوجه إلى هذه البنية وما قام بها وساكها وكذلك المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب ولو أن رجلا قال المأمور والمنهي والممدوح والمذموم والمخاطب والعاقل جوهر مجرد ليس في العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه لأضحك العقلاء على عقله ولأطبقوا على تكذيبه وكل ما شهدت بدائه العقول وصرائحها ببطلانه كان الاستدلال على ثبوته استدلالا على صحة وجود المحال وبالله التوفيق