فصل وكذلك قوله تعالى
^ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ^ وقوله ^ ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ^ على أن هذه الآية أصرح في الدلالة على أن سياقها وإنما ينفي عقوبة العبد بعمل غيره وأخذه بجريرته فإن الله سبحانه قال ^ فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ^ فنفي أن يظلم بأن يزاد عليه في سيئاته أو ينقص من حسناته أو يعاقب بعمل غيره ولم ينف أن ينتفع بعمل غيره لا على وجه الجزاء فإن انتفاعه بما يهدى إليه ليس جزاء على عمله وإنما هو صدقة تصدق الله بها عليه وتفضل بها عليه من غير سعى منه بل وهبه ذلك على يد بعض عباده لا على وجه الجزاء
فصل وأما استدلالكم بقوله إذا مات العبد انقطع عمله فاستدلال ساقط
فانه لم يقل انقطع انتفاعه وإنما أخبر عن انقطاع عمله وأما عمل غيره فهو لعامله فان وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو فالمنقطع شيء والواصل إليه شيء آخر وكذلك الحديث الآخر وهو قوله إن مما يلحق الميت من حسناته وعمله فلا ينفي أن يلحقه غير ذلك من عمل غيره وحسناته
فصل وأما قولكم الإهداء حوالة والحوالة إنما تكون بحق لازم فهذه حوالة
المخلوق على المخلوق وأما حوالة المخلوق على الخالق فأمر آخر لا يصح قياسها على حوالة العبيد بعضهم على بعض وهل هذا إلا من أبطل القياس وأفسده والذي يبطله إجماع الأمة على انتفاعه بأداء دينه وما عليه من الحقوق وإبراء المستحق لذمته والصدقة والحج عنه بالنص الذي لا سبيل إلى رده ودفعه وكذلك الصوم وهذه الأقيسة الفاسدة لا تعارض نصوص الشرع وقواعده
فصل وأما قولكم الإيثار بسبب الثواب مكروه وهو مسالة الإيثار بالقرب
فكيف الإيثار الثواب بنفس الذي هو الغاية فقد أجيب عنه بأجوبة
الجواب الأول ان حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة لجواز إن يرتد الحي فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها وهذا قد أمن بالموت فإن قيل والمهدى إليه أيضا قد لا يكون مات على الإسلام باطنا فلا ينتفع بما يهدى إليه وهذا سؤال في غاية البطلان فإن الإهداء له من جنس الصلاة عليه والاستغفار له والدعاء له فإن كان أهلا وإلا انتفع به الداعي وحده الجواب الثاني أن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها والتأخر عن فعلها فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر بخلاف إبداء ثوابها فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به أو ينفع به أخاه المسلم فبينهما فرق ظاهر الجواب الثالث أن الله سبحانه وتعالى يحب المبادرة أو المسارعة إلى خدمته والتنافس فيها فإن ذلك ابلغ في العبودية فإن الملوك تحب المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها فالإيثار بذلك مناف لمقصود العبودية فإن الله سبحانه أمر عبده بهذه القربة أما إيجابا وأما استحبابا فإذا أثر بها ترك ما أمره وولاه غيره بخلاف ما إذا فعل ما أمر به طاعة وقربة ثم أرسل ثوابه إلى أخيه المسلم وقد قال تعالى ^ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ^ وقال فاستبقوا الخيرات ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق إليها والمسارعة وقد كان الصحابة يسابق بعضهم بعضا بالقرب ولا يؤثر الرجل منهم غيره بها قال عمر والله ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه حتى قال والله لا أسابقك إلى خير أبدا وقد قال تعالى ^ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ^ يقال نافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المباراة ومن هذا قولهم شيء نفيس أي هو أهل أن يتنافس فيه ويرغب فيه وهذا أنفس مالي أي أحبه إلى وأنفسني فلان في كذا أي أرغبني فيه وهذا كله ضد الإيثار به والرغبة عنه
فصل وأما قولكم لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ إلى الحي فجوابه من وجهين
أحدهما أنه قد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم قال القاضي وكلام أحمد لا يقتضي التخصيص بالميت فانه قال يفعل الخير ويجعل نصفه لأبيه وأمه ولم يفرق واعترض عليه أبو الوفاء بن عقيل وقال هذا فيه بعد وهو تلاعب بالشرع وتصرف في أمانة الله واسجال على الله سبحانه بثواب على عمل يفعله إلى غيره وبعد الموت قد جعل لنا طريقا إلى إيصال النفع كالاستغفار والصلاة على الميت
ثم أورد على نفسه سؤالا وهو فإن قيل أليس قضاء الدين وتحمل الكل حال الحياة كقضائه بعد الموت فقد استوى ضمان الحياة وضمان الموت في أنهما يزيلان المطالبة عنه فإذا وصل قضاء الديون بعد الموت وحال الحياة فإجعلوا ثواب الإهداء واصلا حال الحياة وبعد الموت وأجاب عنه بأنه لو صح هذا وجب أن تكون الذنوب تكفر عن الحي بتوبة غيره عنه ويندفع عنه مآثم الآخرة بعمل غيره واستغفاره قلت وهذا لا يلزم بل طرد ذلك انتفاع الحي بدعاء غيره له واستغفاره له وتصدقه عنه وقضاء ديونه وهذا حق وقد أذن النبي في أداء فريضة الحج عن الحي المعضوب والعاجز وهما حيان وقد أجاب غيره من الأصحاب بأن حال الحياة لا نثق بسلامة العاقبة خوفا أن يرتد المهدى له فلا ينتفع بما يهدى إليه قال ابن عقيل وهذا عذر باطل بإهداء الحي فإنه لا يؤمن أن يرتد ويموت فيحبط عمله ومن جملته ثواب ما أهدى إلى الميت قلت هذا لا يلزمهم وموارد النص والإجماع تبطله وترده فان النبي أذن في الحج والصوم عن الميت وأجمع الناس على براءة ذمته من الدين إذا قضاه عنه الحي مع وجود ما ذكر من الاحتمال والجواب أن يقال ما أهداه من أعمال البر إلى الميت فقد صار ملكا له فلا يبطل بردة فاعله بعد خروجه عن ملكه كتصرفاته التي تصرفها قبل الردة من عتق وكفارة بل لو حج عن معضوب ثم ارتد بعد ذلك لم يلزم المعضوب أن يقيم غيره يحج عنه فإنه لا يؤمن في الثاني والثالث ذلك على أن الفرق بين الحي والميت أن الحي ليس بمحتاج كحاجة الميت إذ يمكنه أن يباشر ذلك العمل أو نظيره فعليه اكتساب الثواب بنفسه وسعيه بخلاف الميت وأيضا فإنه يفضي إلى اتكال بعض الأحياء على بعض وهذه مفسدة كبيرة فان أرباب الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا من يفعل ذلك عنهم فتصير الطاعات معاوضات وذلك يفضي إلى إسقاط العبادات والنوافل ويصير ما يتقرب به إلى الله يتقرب به إلى الآدميين فيخرج عن الإخلاص فلا يحصل الثواب لواحد منهما
ونحن نمنع من أخذ الأجرة على كل قربة ونحبط بأخذ الأجر عليها كالقضاء والفتيا وتعليم العلم والصلاة وقراءة القرآن وغيرها فلا يثيب الله عليها إلا لمخلص اخلص العمل لوجهه فإذا فعله للأجرة لم يثب عليه الفاعل ولا المستأجر فلا يليق بمحاسن الشرع أن يجعل العبادات الخالصة له معاملات تقصد بها المعاوضات والإكساب الدنيوية وفارق قضاء الديون وضمانها فإنها حقوق الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت
فصل وأما قولكم لو ساغ إهداء نصف الثواب وربعه إلى الميت فالجواب من
وجهين أحدهما منع الملازمة فإنكم لم تذكروا عليها دليلا إلا مجرد الدعوى الثاني التزام ذلك والقول به نص عليه الإمام احمد في رواية محمد بن يحيى الكحال ووجه هذا أن الثواب ملك له فله أن يهديه جميعه وله أن يهدى بعضه يوضحه أنه لو أهداه إلى أربعة مثلا يحصل لكل منهم ربعه فإذا أهدى الربع وأبقى لنفسه الباقي جاز كما لو أهداه إلى غيره
فصل وأما قولكم لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه وقد
قلتم انه لا بد أن ينوى حال الفعل إهداءه إلى الميت وإلا لم يصل فالجواب ان هذه المسألة غير منصوصة عن أحمد ولا هذا الشرط في كلام المتقدمين من أصحابه وإنما ذكره المتأخرون كالقاضي وأتباعه قال ابن عقيل إذا فعل طاعة من صلاة وصيام وقراءة قرآن وأهداها بأن جعل ثوابها للميت المسلم فإنه يصل إليه ذلك وينفعه بشرط أن يتقدم نية الهدية على الطاعة أو تقارنها وقال أبو عبد الله بن حمدان في رعايته ومن تطوع بقربة من صدقة وصلاة وصيام وحج وعمرة وقراءة وعتق وغير ذلك من عبادة بدنية تدخلها النيابة وعبادة مالية وجعل جميع ثوابها أو بعضه لميت مسلم حتى النبي ودعا له أو استغفر له أو قضى ما عليه من حق شرعي أو واجب تدخله النيابة نفعه ذلك ووصل إليه أجره وقيل إن نواه حال فعله أو قبله وصل إليه وإلا فلا وسر المسالة أن أو ان شرط حصول الثواب أن يقع لمن أهدى له أولا ويجوز أن يقع للعامل ثم ينتقل عنه إلى غيره فمن شرط أن ينوى قبل الفعل أو الفراغ منه وصوله قال
لو لم ينوه وقع الثواب للعامل فلا يقبل انتقاله عنه إلى غيره فإن الثواب يترتب على العمل ترتب الأثر على مؤثره ولهذا لو أعتق عبدا عن نفسه كان ولاؤه له فلو نقل ولاؤه إلى غيره بعد العتق لم ينتقل بخلاف ما لو أعتقه عن الغير فإن ولاءه يكون للمعتق عنه وكذلك لو أدى دينا عن نفسه ثم أراد بعد الأداء ان يجعله عن غيره لم يكن له ذلك وكذلك لو حج أو صام أو صلى لنفسه ثم بعد ذلك أراد أن يجعل ذلك عن غيره لم يملك ذلك ويؤيد هذا أن الذين سألوا النبي عن ذلك لم يسألوه عن إهداء ثواب العمل بعده وإنما سألوه عما يفعلونه عن الميت كما قال سعد أينفعها أن أتصدق عنها ولم يقل أن أهدى لها ثواب ما تصدقت به عن نفسي وكذلك قول المرأة الأخرى أفأحج عنها وقول الرجل الآخر أفأحج عن أبى فأجابهم بالإذن في الفعل عن الميت لا بإهداء ثواب ما عملوه لأنفسهم إلى موتاهم فهذا لا يعرف أنه صلى سئل عنه قط ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه فعله وقال اللهم اجعل لفلان ثواب عملي المتقدم أو ثواب ما عملته لنفسي فهذا سر الاشتراط وهو افقه ومن لم يشترط ذلك يقول الثواب للعامل فإذا تبرع به وأهداه إلى غيره كان بمنزلة ما يهديه إليه من ماله
فصل وأما قولكم لو ساغ الإهداء لساغ إهداء ثواب الواجبات التي تجب على
الحي فالجواب أن هذا الإلزام محال على أصل من شرط في الوصول نية الفعل عن الميت فإن الواجب لا يصح أن يفعله عن الغير فإن هذا واجب على الفاعل يجب عليه أن ينوى به القربة إلى الله وأما من لم يشترط نية الفعل عن الغير فهل يسوغ عنده أن يجعل للميت ثواب فرض من فروضه فيه وجهان قال ابو عبد الله بن حمدان وقيل إن جعل له ثواب فرض من الصلاة أو صوم أو غيرهما جاز وأجزأ فاعله قلت وقد نقل عن جماعة أنهم جعلوا ثواب أعمالهم من فرض ونقل للمسلمين وقالوا نلقى الله بالفقر والإفلاس المجرد والشريعة لا تمنع من ذلك فالأجر ملك العامل فغن شاء أن يجعله لغيره فلا حجر عليه في ذلك والله أعلم
فصل وأما قولكم إن التكاليف امتحان وابتلاء لا تقبل البدل إذ المقصود
منها عين المكلف العامل إلى آخره
الجواب عنه أن ذلك لا يمنع إذن الشارع للمسلم أن ينفع أخاه بشيء من عمله بل هذا من تمام إحسان الرب ورحمته لعباده ومن كمال هذه الشريعة التي شرعها لهم التي مبناها على العدل والإحسان والتعارف والرب تعالى أقام ملائكته وحملة عرشه يدعون لعباده المؤمنين ويستغفرون لهم ويسألونه لهم أن يقيهم السيئات وأمر خاتم رسله أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وبقيمة يوم القيامة مقاما محمودا ليشفع في العصاة من أتباعه وأهل سنته وقد أمره تعالى أن يصلى على أصحابه في حياتهم وبعد مماتهم وكان يقوم على قبورهم فيدعو لهم ولقد استقرت الشريعة على أن المأثم الذي على الجميع بترك فروض للكفايات يسقط إذا فعله من يحصل المقصود بفعله ولو واحد وأسقط سبحانه الارتهان وحرارة الجلود في القبر بضمان الحي دين الميت وأدائه عنه وإن كان ذلك الوجوب امتحانا في حق المكلف وأذن النبي في الحج والصيام عن الميت وإن كان الوجوب امتحانا في حقه وأسقط عن المأموم سجود السهو بصحة صلاة الإمام وخلوها من السهو وقراءة الفاتحة بتحمل الإمام لها فهو يتحمل عن المأموم سهوه وقراءته وسترته لقراءة الإمام وسترته قراءة لمن خلفه وسترة له وهل الإحسان إلى المكلف بإهداء الثواب إليه إلا تأس بإحسان الرب تعالى والله يحب المحسنين والخلق عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله وإذ كان سبحانه يحب من ينفع عياله بشربة ماء ومذاقة لبن وكسرة خبز فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم وفقرهم وانقطاع أعمالهم وحاجتهم إلى شيء يهدى إليهم أحوج ما كانونا اليه فأحب الخلق إلى الله من ينفع عياله في هذه الحال ولهذا جاء أثر عن بعض السلف أنه من قال كل يوم سبعين مرة رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات حصل له من الأجر بعدد كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ولا تستبعد هذا فإنه إذا استغفر لإخوانه فقد أحسن إليهم والله لا يضيع أجر المحسنين
فصل وأما قولكم انه لو نفعه عمل غيره لنفعه توبته عنه وإسلامه عنه
فهذه الشبهة تورد على صورتين صورة تلازم يدعى فيها اللزوم بين الأمرين ثم يبين انتفاء اللازم فينتفي ملزومه وصورتها هكذا لو نفعه علم الغير عنه لنفعه إسلامه وتوبته عنه لكن لا ينفعه ذلك فلا ينفعه عمل الغير
والصورة الثانية إن يقال لا ينتفع بإسلام الغير وتوبته عنه فلا ينتفع بصلاته وصيامه وقراءته عنه ومعلوم أن هذا التلازم والإقران باطل قطعا أما أولا فلانه قياس مصادم لما تظاهرت به النصوص واجتمعت عليه الأمة وأما ثانيا فلأنه جمع بين ما فرق الله بينه فإن الله سبحانه فرق بين إسلام المرء عن غيره وبين صدقته وحجه وعتقه عنه فالقياس المسوى بينهما من جنس قياس الذين قاسوا الميتة على المذكى والربا على البيع وأما ثالثا فإن الله سبحانه جعل الإسلام سببا لنفع المسلمين بعضهم بعضا في الحياة وبعد الموت فإذا لم يأت بسبب انتفاعه بعمل المسلمين لم يحصل له ذلك النفع كما قال النبي لعمرو إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك وهذا كما جعل سبحانه الإسلام سببا لانتفاع العبد مما عمل من خير فإذا فاته هذا السبب لم ينفعه خير عمله ولم يقبل منه كما جعل الإخلاص والمتابعة سببا لقبول الأعمال فإذا فقد لم تقبل الأعمال وكما جعل الوضوء وسائر شروط الصلاة سببا لصحتها فإذا فقدت فقدت الصحة وهذا شأن سائر الأسباب مع مسبباتها الشرعية والعقلية والحسية فمن سوى بني حالين وجود السبب وعدمه فهو مبطل ونظير هذا الهوس أن يقال لو قبلت الشفاعة في العصاة لقبلت في المشركين ولو خرج أهل الكبائر من الموحدين من النار لخرج الكفار منها وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي من نجاسات معد أصحابها ورجيع أفواههم وبالجملة فالأولى بأهل العلم الأعراض عن الاشتغال بدفع هذه الهذيانات لولا أنهم قد سودوا بها صحف الأعمال والصحف التي بين الناس
فصل وأما قولكم العبادات نوعان نوع تدخله النيابة فيصل ثواب إهدائه
إلى الميت ونوع لا تدخله فلا يصل ثوابه فهذا هو نفس المذهب والدعوى فكيف تحتجون به ومن أين لكم هذا الفرق فأي كتاب أم أي سنة أم أي اعتبار دل عليه حتى يجب المصير إليه
وقد شرع النبي الصوم عن الميت مع أن الصوم لا تدخله النيابة وشرع للأمة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء فرض الكفاية فإذا فعله واحد ناب عن الباقين في فعله وسقط عنهم المأثم وشرع لقيم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك وحكم له بالأجر بفعل نائبه وقد قال أبو حنيفة رحمه الله يحرم الرفقة عن المغمى عليه فجعلوا إحرام رفقته بمنزلة إحرامه وجعل الشارع إسلام الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما وكذلك إسلام السابي والمالك على القول المنصوص فقد رأيت كيف عدت هذه الشريعة الكاملة أفعال البر من فاعلها إلى غيرهم فكيف يليق بها أن تحجر على العبد أن ينفع والديه ورحمه وإخوانه من المسلمين في أعظم أوقات حاجاتهم بشيء من الخير عليه الشارع في ثواب عمله أن يصرف منه ما شاء إلى من شاء من المسلمين والذي أوصل ثواب الحج والصدقة والعتق هو بعينه الذي يوصل ثواب الصيام والصلاة والقراءة والاعتكاف وهو إسلام المهدى وتبرع المهدى وإحسانه وعدم حجر الشارع عليه في الإحسان بل ندبه إلى الإحسان بكل طريق وقد تواطأت رؤيا المؤمنين وتواترت أعظم تواتر على أخبار الأموات لهم بوصول ما يهدونه إليهم من قراءة وصلاة وصدقة وحج وغيره ولو ذكرنا ما حكى لنا من أهل عصرنا وما بلغنا عمن قبلنا من ذلك لطال جدا وقد قال النبي أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر فأعتبر تواطؤ رؤيا المؤمنين وهذا كما يعتبر تواطؤ روايتهم لما شاهدوه فهم لا يكذبون في روايتهم ولا في رؤياهم إذا تواطأت
فصل وأما رد حديث رسول الله وهو قوله من مات وعليه صيام
صام عنه وليه بتلك الوجوه التي ذكرتموها فنحن ننتصر لحديث رسول الله ونبين موافقته للصحيح من تلك الوجوه وأما الباطل فيكفينا بطلانه من معارضته للحديث الصحيح الصريح ! الذي لا تغمز قناته ولا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة والإذعان والقبول وليس لنا بعده الخيرة بل الخيرة وكل الخيرة في التسليم له والقول به ولو خالفه من بين المشرق والمغرب فأما قولكم نرده بقول مالك في موطئه لا يصوم أحد عن أحد فمنازعوكم يقولون بل نرد قول مالك هذا بقول النبي فأي الفريقين أحق بالصواب وأحسن ردا
وأما قوله وهو أمر مجمع عليه عندنا لا خلاف فيه فمالك رحمه الله لم يحك إجماع الأمة من شرق الأرض وغربها وإنما حكى قول أهل المدينة فيما بلغه ولم يبلغه خلاف بينهم وعدم اطلاعه رحمه الله على الخلاف في ذلك لا يكون مسقطا لحديث رسول الله بل لو أجمع عليه أهل المدينة كلهم لكان الأخذ بحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة الذين لم تضمن لنا العصمة في قولهم دون الأمة ولم يجعل الله ورسوله أقوالهم حجة يجب الرد عند التنازع إليها بل قال الله تعالى ^ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ^ وان كان مالك وأهل المدينة قد قالوا لا يصوم أحد عن أحد فقد روى الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان يطعم عنه وفي النذر يصام عنه وهذا مذهب الإمام أحمد وكثير من أهل الحديث وقول أبى عبيد وقال أبو ثور يصام عنه النذر وغيره وقال الحسن بن صالح في النذر يصوم عنه وليه
فصل أما قولكم ابن عباس هو راوي حديث الصوم عن الميت وقد قال
لا يصوم أحد عن أحد فغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه وهذا لا يقدح في روايته فإن روايته معصومة وفتواه غير معصومة ويجوز أن يكون نسى الحديث أو تأوله أو اعتقد له معارضا راجحا في ظنه أو لغير ذلك من الأسباب على أن فتوى ابن عباس غير معارضة للحديث فإنه أفتى في رمضان أنه لا يصوم أحد عن أحد وأفتى في النذر أنه يصام عنه وليس هذا بمخالف لروايته بل حمل الحديث على النذر ثم إن حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه هو ثابت من رواية عائشة رضى الله عنها فهب أن ابن عباس خالفه فكان ماذا فخلاف ابن عباس لا يقدح في رواية أم المؤمنين بل رد قول ابن عباس برواية عائشة رضى الله عنها أولى من رد روايتها بقوله وأيضا فإن ابن عباس رضى الله عنهما قد اختلف عنه في ذلك وعنه روايتان فليس إسقاط الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى بالحديث
فصل وأما قولكم انه حديث اختلف في إسناده فكلام مجازف لا يقبل قوله
فالحديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح ولم يختلف في إسناده
قال ابن البر ثبت عن النبي أنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه وصححه الإمام أحمد وذهب إليه وعلق الشافعي القول به على صحته فقال وقد روى عن النبي في الصوم عن الميت شيء فإن كان ثابتا صيم عنه كما يحج عنه وقد ثبت بلا شك فهو مذهب الشافعي كذلك قال غير واحد من أئمة أصحابه قال البيهقى بعد حكايته هذا اللفظ عن الشافعي قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعن عكرمة عن ابن عباس وفي رواية أكثرهم إن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد وفي رواية بعضهم صومي عن أمك وسيأتي تقرير ذلك عند الجواب عن كلامه رحمه الله وقولكم أنه معارض بنص القرآن وهو قوله ^ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ^ إساءة أدب في اللفظ وخطأ عظيم في المعنى وقد أعاذ الله رسوله أن تعارض سنته لنصوص القرآن بل تعاضدها وتؤيدها ويالله ما يصنع التعصب ونصرة التقليد وقد تقدم من الكلام على الآية ما فيه كفاية وبينا أنها لا تعارض بينها وبين سنة رسول الله بوجه وإنما يظن التعارض من سوء الفهم وهذه طريقة وخيمة ذميمة وهي رد السنن الثابتة بما يفهم من ظاهر القرآن والعلم كل العلم تنزيل السنن على القرآن فإنها مشتقة منه ومأخوذة عمن جاء به وهي بيان له لا أنها مناقضة له وقولكم أنه معارض بما رواه النسائي عن النبي انه قال لا يصلى أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه كل يوم مد من حنطة فخطأ قبيح فإن النسائي رواه هكذا أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حجاج الأحول حدثنا أيوب بن موسى عن عطاء بن أبى رباح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا يصلى أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من حنطة هكذا رواه قول ابن عباس لا قول رسول الله فكيف يعارض قول رسول الله بقول ابن عباس ثم يقدم عليه مع ثبوت الخلاف عن ابن عباس رضى الله عنهما ورسول الله لم يقل هذا الكلام قط وكيف يقوله وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه وكيف يقوله وقد قال في حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه أن امرأة قالت له إن أمى ماتت وعليها صوم شهر قال صومي عن أمك وأما قولكم انه معارض بحديث ابن عمر رضى الله عنهما من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه فمن هذا النمط فإنه حديث باطل على رسول الله
قال البيهقى حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي من مات وعليه صوم رمضان يطعم عنه لا يصح ومحمد بن عبد الرحمن كثير الوهم وإنما رواه أصحاب نافع عنه نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما من قوله وأما قولكم أنه معارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة فإن أحدا لا يفعلها عن أحد فلعمر الله انه لقياس جلى البطلان والفساد لرد سنة رسول الله الصحيحة الصريحة له وشهادتها ببطلانه وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته وبين انتفاع المسلم بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب صيام أو صدقة أو صلاة ولعمر الله إن الفرق بينهما أوضح من أن يخفي وهل في القياس أفسد من قياس انتفاع المسلم بعد موته بما يهديه إليه أخوه المسلم من ثواب عمله على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته أو قبول التوبة عن المجرم بعد موته
فصل وأما كلام الشافعي رحمه الله في تغليط راوي حديث ابن عباس رضى
الله عنهما أن نذر أم سعد كان صوما فقد أجاب عنه أنصر الناس له هو البيهقى ونحن نذكر كلامه بلفظه قال في كتاب المعرفة بعد أن حكى كلامه قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد ابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما وفي رواية أكثرهم أن امرأة سألت فأشبه أن تكون غير قصة أم سعد وفي رواية بعضهم صومي عن أمك قال وتشهد له بالصحة رواية عبد الله بن عطاء المدني قال حدثني عبد الله بن بريدة الأسلمى عن أبيه قال كنت عند النبي فأتته امرأة فقالت يا رسول الله إني كنت تصدقت بوليدة على أمي فماتت وبقيت الوليدة قال قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث قالت فإنها ماتت وعليها صوم شهر قال صومي عن أمك قالت وإنها ماتت ولم تحج قال فحجى عن أمك رواه مسلم في صحيحه من أوجه عن عبد الله بن عطاء انتهي قلت وقد روى أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها فقال النبي لو كان عليها دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى
ورواه أبو خيثمة حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الأعمش فذكره ورواه النسائي عن قتيبة بن سعيد حدثنا عبثر عن الأعمش فذكره فهذا غير حديث أم سعد إسنادا ومتنا فان قصة أم سعد رواها مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضى الله عنهما أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله فقال إن أمي ماتت وعليها نذر فقال النبي اقضه عنها هكذا أخرجاه في الصحيحين فهب أن هذا هو المحفوظ في هذا الحديث أنه نذر مطلق لم يسم فهل يكون هذا في حديث الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير على أن ترك استفصال النبي لسعد في النذر هل كان صلاة أو صدقة أو صياما مع أن الناذر قد ينذر هذا وهذا يدل على أنه لا فرق بين قضاء نذر الصيام والصلاة وإلا لقال له ما هو النذر فان النذر إذا انقسم إلى قسمين نذر يقبل القضاء عن الميت ونذر لا يقبله لم يكن من الاستفصال
فصل ونحن نذكر أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت لئلا يتوهم أن
في المسألة إجماعا بخلافه قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما يصام عنه في النذر ويطعم عنه في قضاء رمضان وهذا مذهب الإمام أحمد وقال أبو ثور يصام عنه النذر والفرض وكذلك قال داود بن على وأصحابه يصام عنه نذرا كان أو فرضا وقال الأوزاعى يجعل وليه مكان الصوم صدقة فان لم يجد صام عنه وهذا قول سفيان الثوري في إحدى الروايتين عنه وقال أبو عبيد القاسم بن سلام يصام عنه النذر ويطعم عنه في الفرض وقال الحسن إذا كان عليه صيام شهر فصام عنه ثلاثون رجلا يوما واحدا جاز
فصل وأما قولكم أنه يصل إليه في الحج ثواب النفقة دون أفعال المناسك
فدعوى مجردة بلا برهان والسنة تردها فان النبي قال حج عن أبيك وقال للمرأة حجى عن أمك فأخبر أن الحج نفسه عن الميت ولم يقل إن الإنفاق هو الذي يقع عنه
وكذلك قال للذي سمعه يلبى عن شبرمة حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ولما سألته المرأة عن الطفل الذي معها فقالت ألهذا حج قال نعم ولم يقل إنما له ثواب الإنفاق بل أخبر أن له حجا مع أنه لم يفعل شيئا بل وليه ينوب عنه في أفعال المناسك ثم إن النائب عن الميت قد لا ينفق شيئا في حجته غير نفقة مقامه فما الذي يجعل نفقة ثواب نفقة مقامه للمحجوج عنه وهو لم ينفقها على الحج بل تلك نفقته أقام أم سافر فهذا القول ترده السنة والقياس والله أعلم
فصل فإن قيل فهل تشترطون في وصول الثواب ان يهديه ! بلفظه أم يكفي
في وصوله مجرد نيه العامل أن يهديها إلى الغير قيل السنة لم تشترط التلفظ بالإهداء في حديث واحد بل أطلق الفعل عن الغير كالصوم والحج والصدقة ولم يقل لفاعل ذلك وقل اللهم هذا عن فلان ابن فلان والله سبحانه يعلم نية العبد وقصده بعمله فان ذكره جاز وإن ترك ذكره واكتفي بالنية والقصد وصل إليه ولا يحتاج أن يقول اللهم إني صائم غدا عن فلان ابن فلان ولهذا والله أعلم اشترط من اشترط نية الفعل عن الغير قبله ليكون واقعا بالقصد عن الميت فأما إذا فعله لنفسه ثم نوى أن يجعل ثوابه للغير لم يصر الغير بمجرد النية كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق لم يحصل ذلك بمجرد النية وبما يوضح ذلك أنه لو بنى مكانا بنية أن يجعله مسجدا أو مدرسة أو ساقية ونحو ذلك صار وقفا بفعله مع النية ولم يحتج إلى تلفظ وكذلك لو أعطى الفقير مالا بنية الزكاة سقطت عنه الزكاة وإن لم يتلفظ بها وكذلك لو أدى عن غيره دينا حيا كان أو ميتا سقط من ذمته وإن لم يقل هذا عن فلان فإن قيل فهل يتعين عليه تعليق الإهداء بأن يقول اللهم إن كنت قبلت هذا العمل وأثبتنى عليه فاجعل ثوابه لفلان أم لا قيل لا يتعين ذلك لفظا ولا قصدا بل لا فائدة في هذا الشرط فان الله سبحانه إنما يفعل هذا سواء شرطه أو لم يشرطه فلو كان سبحانه يفعل غير هذا بدون الشرط كان في الشرط فائدة وأما قوله اللهم إن كنت اثبتنى على هذا فاجعل ثوابه لفلان فهو بناء على ان الثواب ! يقع للعامل ثم ينتقل منه إلى من أهدى له وليس كذلك بل إذا نوى حال الفعل
انه عن فلان وقع الثواب أولا عن المعمول له كما لو أعتق عبده عن غيره لا نقول ان الولاء يقع للمعتق ثم ينتقل عنه إلى المعتق عنه فهكذا هذا وبالله التوفيق فإن قيل فما الأفضل انه يهدى إلى الميت قيل الأفضل ما كان أنفع في نفسه فالعتق عنه والصدقة أفضل من الصيام عنه وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة مستمرة ومنه قول النبي افضل الصدقة سقى الماء وهذا في موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش وإلا فسقى الماء على الأنهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان بصدق من الداعي وإخلاص وتضرع فهو في موضعه افضل من الصدقة عنه كالصلاة على الجنازة والوقوف للدعاء على قبره وبالجملة فأفضل ما يهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج فإن قيل فهذا لم يكن معروفا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه فالجواب أن مورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار قيل له ما هذه الخاصية التي منعت بوصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات وان لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع وأما السبب الذي لأجله يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدى إلى الموتى ولا كانوا يعرفون ذلك البتة ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم
ثم يقال لهذا القائل لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم فإن قيل فرسول الله أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة قيل هو يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميته فإذن له وهذا سأله عن الصيام عنه فإذن له وهذا سأله عن الصدقة فإذن له ولم يمنعهم مما سوى ذلك وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك بين وصول ثواب القراءة والذكر والقائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل مالا علم له به فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعمله فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم وسر المسألة أن الثواب ملك العامل فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه وهذا عمل سائر الناس حتى المنكرين في سائر الإعصار والأمصار من غير نكير من العلماء فإن قيل فما تقولون في الإهداء إلى رسول الله قيل من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم من لم يستحبه ورآه بدعة فان الصحابة لم يكونوا يفعلونه وأن النبي له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء وكل هدى وعلم فإنما نالته أمته على يده فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أول لم يهده والله أعلم