مصطفى لطفى المنفلوطي
===================
في أيِّ جوٍّ من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم كرجالكم أيُّها القوم؟ أفي جوِّ المتعلمين، وفيهم من إذا سُئِل لـِمَ لَـمْ تتزوَّج؟ أجاب: نساء الأمة جميعًا نسائي. أم في جوِّ الطلبة، وفيهم من إذا عاد من أوربا يحمل في محفظته أقلَّ من عشر صور لصديقاته، ومائة كتاب غرام- يتوارى بها عن أعين أصدقائه حياء وخجلًا. أم في جوِّ الرَّعاع والغوغاء، وكثير منهم يدخل البيت خادمًا ذليلًا، ويخرج منه صهرًا كريمًا...؟
وبعد: فما هذا الولع بقصة المرأة، والتمنطق بحديثها، والقيام والقعود بأمرها، وأمر حجابها وسفورها وحريتها وأسرها؟!
كأنما قد قمتم بكل حقٍّ واجب للأمة عليكم في أنفسكم، فلم يبقَ إلا أن تفيضوا من تلك النِّعم على غيركم، هذِّبوا رجالكم قبل أن تهذِّبوا نساءكم. عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز.
أبواب الفخر أمامكم كثيرة، فاطرقوا أيَّها شئتم، ودعوا هذا الباب موصدًا، فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلًا عظيمًا، وشقاء طويلًا.
أروني رجلًا واحدًا منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنَّه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها، فأُصدِّق أنَّ امرأة تستطيع أن تمتلك هواها بين يدي رجل ترضاه.
ما تمضُّغكم في ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها (المرأة)، في حين أنها لا تشكو إلا فضولكم، وإسفافكم، ولصوقكم بها، ووقوفكم في وجهها حيثما سارت، إنَّكم لا تَرْثون لها، بل تَرْثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها، بل على أيام قضيتموها في ديار يندفع سيل جوِّها تبرُّجًا وسفورًا، ويتدفق حرية واستهتارًا .
لقد كنَّا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوءة، فما زلتم تثقبون في جوانبه كلَّ يوم ثقبًا، والعفة تتسلل منه قطرة قطرة، حتى تقبض وتضاءل، ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلُّوا وكاءه، حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة.
عاشت المرأة حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها، راضية عن نفسها، وعن عيشها، ترى السعادة كلَّ السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتها، وترى الشرف كلَّ الشرف في خضوعها لأبيها، وائتمارها بأمر زوجها، ونزولها عند رضاهما، وكانت تفهم معنى الحبِّ، وتجهل معنى الغرام، فتحبُّ زوجها كما تحبُّ ولدها؛ لأنَّه ولدها، فإن رأى النساء أنَّ الحبَّ أساس الزواج رأت أنَّ الزواج أساس الحبِّ، فقلتم لها: إنَّ هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأكبر منك عقلًا، ولا أفضل رأيًا، فلا حقَّ لهم في السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك. فازدرت أباها، وتمرَّدت على زوجها، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرسًا من الأعراس الضاحكة، مناحة لا تهدأ نارها.
وقلتم لها: إنَّ الحبَّ أساس الزواج. فما زالت تقلِّب عينيها في وجوه الرجال، صاعدة متحدرة، حتى شغلها الحبُّ عن الزواج.
وقلتم لها: إنَّ سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها. وما كانت تعرف إلَّا أنَّ الزوج غير العشيق، فأصبحت تطلب في كلِّ يوم زوجًا جديدًا، يُحيي من لوعة الحبِّ ما أمات القديم، فلا قديمًا استبقت، ولا جديدًا أفادت.
يا قوم إنَّا نضرع إليكم أن تتركوا البقية الباقية في نساء الأمة آمنات مطمئنات في بيوتهن، ولا تزعجوهن بأحلامكم وآمالكم، كما أزعجتم من قبلهن، فكلُّ جرح من جروح الأمة له دواء، إلا جرح الشرف فلا دواء له.