قصة أصحاب الأيكة:
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}،
إشارة سريعة إلى قصة أخرى، قصة أصحاب الأيكة...
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ * وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
إرسال شعيب إلى أصحاب الأيْكَة:
ذكرت السورة قصَّة أخرى بإيجاز، قصَّة أصحاب الأْيكة: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}، إشارةٌ سريعة إلى قصَّة أخرى، قصَّة أصحاب الأيكة، والأيكة: هي الموضع الذي يكثر فيه الشَّجَر المُلْتفّ، وهؤلاء هم الذين أرسل إليهم شُعيب عليه السلام، شُعَيبٌ أُرسل إلى مَدْيَنَ وهي مدينةٌ على ساحل البحر تُحاذي تبوك، وأرسل إلى أصحاب الأيكة، ولكنه كان من مَدْيَنَ، ولذلك جاء في القرآن: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، ولكنه لم يكن من أصحاب الأْيَكة، ولذلك لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب في سورة الشعراء، بل قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 177]، ولم يقل لهم: يا قوم أوفوا الكيل، وقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ} [الشعراء: 181] من غير يا قوم.
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}
الانتقام من أصحاب الأيكة:
الظلم الأول: ظلم الشرك، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
الظلم الثاني: ظلم الناس، كانوا يُطفِّفون في المكيال والميزان، وكانوا يبخسون الناس أشياءهم، ويعثون في الأرض مفسدين، كان أصحاب الأيكة ظالمين، فانتقم الله منهم: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} عاقبناهم على ظلمهم بان أهلكناهم بشدة الحر، {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ} طريق، وإنما سمِّي الطريق إمامًا لأن الإنسان يؤتم به حتى يبلغ الموضع الذي يريده {مُبِينٍ}.
ما المراد بقوله سبحانه: {وَإِنَّهُمَا} ؟
هل هما أصحاب الأيكة ومَدْيَن الذين أرسل إليهما شعيب، أم هم أصحاب الأيكة وقوم لوط، لأنهم قريبون بعضهم من بعض في المكان وفي الزمان؟ ولذلك قال شُعيب حينما أنذر قومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89].
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُو}
أصحاب الحِجْر قوم صالح:
قصَّة ثالثهٌ يذكرها الله تعالى بعد أن نبَّأ عباده أنه هو الغفور الرحيم، وأنَّ عذابه هو العذاب الأليم، وهي قصَّة أصحاب الحِجْر، حِجْر ثمود قوم سيدنا صالح عليه السلام، وهؤلاء من العرب، الذين يُسمُّونهم العرب البائدة، الذين بَادوا ودَرَسَتْ آثارهم، ولم يَبْقَ منهم شيء: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51]، لم يبق منهم أحد، عاد وثمود من العرب البائدة.
تكذيب أصحاب الحجر المرسلين:
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}، هم كذَّبوا صالحًا وجحدوا ما جاء به وأنكروه، وإنما قال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}، لأنَّ من كذَّب نبيًا فكأنما كَذَّب الأنبياء جميعًا، لأنَّ من يفتري على هذا يفتري على ذاك، ولذلك قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، فهم كذَّبوا نوحًا وكذَّبوا بتكذيبه كلَّ رُسُل الله عزَّ وجل: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}.
مكان حِجْر ثمود:
حِجْر ثمود هذا في الطريق، من خيبر إلي تبوك، وتعرف باسم (وادي القُرى)، وفيها بقايا آثار (ثمود) ويطلق عليها الآن: (مدائن صالح). مرَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى غزوة تبوك، وحينما وَصَل إلى ديار القوم، غَطَّى وَجْهَهُ وأسرع بدابَّته، وقال: لا تدخلوا ديار الظالمين إلا وأنتم باكون خشية أن يصيبكم ما أصابهم.
ففي الصحيح عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا مرَّ بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلاَّ أنْ تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تَقنََّع بردائه وهو على الرَّحْل".
هلاك أصحاب الحضارات القديمة:
كان قومُ صالح هؤلاء، ونُسَمِّيهم الآن أصحاب حضارة. وقد ذكر الله في سورة الفجر أصحاب حضارات قديمة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6-14]،
كلهم أصحاب حضارات مدنيَّة، عاد قوم هود: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:128، 129].
وهؤلاء ثمود، قوم صالح: {كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ} [الحجر: 82]، أو {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَال ِبُيُوتًافَارِهِينَ} [الشعراء:149]، يشقُّون الصَّخر وينحتون الصَّخر، ويجعلون منه مساكن لهم، وبيوتًا لهم آمنين، مُقدِّرين الأمن، إنَّ الأمن مستمرٌّ لهم إلى الأبد، كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين، فبعث الله إليهم صالحًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]، وظلَّ سيِّدنا صالح يدعوهم إلى طاعة الله، وإلى عدم طاعة المفسدين في الأرض من الجبابرة والمُسْرفين، قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ* قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء، 150- 154]، فآتاه الله آيةً عظيمة، هي الناقة، أخرج له من الصَّخرة ناقةً بدعاء سيِّدنا صالح: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، يعني تشربون يومًا، وتشرب الناقة في اليوم التالي، وهكذا، واليوم المُخَصَصَّ لشرب الناقة تشربون من لبنها.
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}
إعراض قوم صالح عن الآيات:
أعظم هذه الآيات: النَّاقة، بل هي آية تتضمَّن آيات بالحقيقة، ومع هذا تمرَّدوا على هذه الآية التي طلبوها، وأمهلهم، قال لهم: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف:73]، فقام أشقاهم وَعَقَر الناقة، ذبحها، انتهى الإمهال لهم: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]، ثم جاءتهم الصَّيحة: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}
وهذه البيوت المَنْحُوتة في الصَّخر لم تُغْنِ عنهم شيئًا، حينما يجيءُ عذاب الله لا يَحُول دونه حائل، فَتَحَصَّنَ ما شئت أن تَتَحََصّن بالصخر بالجبال، فابنُ نوح حينما جاء الطُّوفان قال لأبيه: {قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43].
هؤلاء ظنُّوا أنَّ بيوتَهُم المُحَصَّنة في الجبال تمنعهم وتَحميهم إذا جاء عذابُ الله، ولن تغنيَ عنهم بيوتهم شيئًا، ظنُّوا أنَّ بيوتهم مانعتهم من الله عزَّ وجل، فأتاهُم الله من حيث لم يحتسبوا.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}
هلاك قوم صالح بالصيحة:
{مُصْبِحِينَ}، أي: وقت الصَّباح، كما أخذت الصيحةُ قومَ لوط مشرقين، عند شروق الشمس، هؤلاء أخذتهم مُصْبحين.
{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
ماعملوا وما جمعوا وما بنوا وما حصَّنوا وما نَحَتوا في الجبال، لن يُغْنيَ عنهم حين جاء عذاب الله شيئًا، هذا شأن الله دائمًا.
هناك قومٌ ذكرهم القرآن: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 83-85]، حينما يأتي بأس الله لا يَرُدُّه رَادّ, إنَّ قضاء الله نافذ، وحُكْمُه جاري على كلِّ من قضى الله عز وجل بهلاكه.
قصص سورة الحجر:
هذه هي القصص الثلاثة التي تضمَّنتها هذه السُّورة بعد قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}، فإذا ضَمَمْنا إليها قصَّه الإنسان الأول: قصَّة آدم وإبليس تكون السورة قد تضمَّنت أربع قصص، وإذا فصَّلنا وقلنا: قصَّة إبراهيم وقصَّة لوط، تكون قد تضمَّنت خمس قصص، وفيها عبرةٌ للمؤمنين، وآيةٌ للمؤمنين، وآياتٌ للمتوسِّمين.
نسأل الله عز وجل أن يُفقِّهنا في كتابه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، أولئك الذين هَداهُم الله، وأُولئك هم أولو الألباب، وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.