في علم اللاهوت كان متخصصًا لا يجارى، وفي منظار الناسوت كان ابن الكنيسة الإنجيلية الأمريكية يتيه خيلاء، ولأسباب القوة والمنعة والحماية المتوفرة ما كان يقيم لعلماء الأزهر وزنًا أو احترامًا!
ولكن شاء الملك جلَّ في علاه شيئًا آخر.. فانتفاضة الزيف لم تلبث إلا أن خبتت فجأة، وضلالات التحريف الإنجيلي والتخريف التوراتي تصدعت على غير ميعاد، وتساقطت إذ ذاك غشاوة الوهم، وتفتحت بصيرة الفطرة.. فكان المولد الجديد.
إنه إبراهيم خليل فلوبوس أستاذ اللاهوت بأسيوط، والذي كان يعمل راعيًا للكنيسة الإنجيلية، وأستاذًا للعقائد واللاهوت بكلية اللاهوت بأسيوط حتى عام 1953م، ثم سكرتيرًا عامًّا للإرسالية الألمانية السويسرية بأسوان، ومبشرًا (أي ينشر المسيحية) بين المسلمين في محافظات مصر من أسيوط إلى أسوان حتى عام 1955م.
نشأته:
ولد في مدينة الإسكندرية في الثالث عشر من يناير عام 1919م في بيت نصراني، ودرس في مدارس الإرسالية الأمريكية، وتصادف وصوله مرحلة (الثقافة) المدرسية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتعرض مدينة الإسكندرية لأهوال قصف الطائرات.. فاضطر للهجرة إلى أسيوط حيث استأنف في كليتها التعليم الداخلي وحصل على الدبلوم عام 1941م- 1942م، وسرعان ما تفتحت أمامه سبل العمل فالتحق بالقوات الأمريكية من عام 42 وحتى عام 1944م، حيث كان للقوات الأمريكية وقتذاك معامل كيماوية لتحليل فلزات المعادن التي تشكل هياكل الطائرات التي تسقط من أجل معرفة تراكيبها ونوعياتها.
وبحكم ثقافته وتمكنه من اللغة الإنجليزية في كلية أسيوط، ولأن الأمريكان كانوا يهتمون اهتمامًا بالغًا بالخريجين ويستوعبونهم في شركاتهم، فقد أمضى في هذا العمل سنتين.. لكن أخبار الحرب والنكبات دفعته لأن ينظر إلى العالم نظرة أعمق قادته للاتجاه إلى الدعوة من خلال الكنيسة التي كانت ترصد رغباته وتؤجج توجهاته، فالتحق بكلية اللاهوت سنة 1945م، وأمضى بها ثلاث سنين.
وكانت دراسته تعتمد على دراسة مقدمات العهد القديم والجديد، والتفاسير والشروحات وتاريخ الكنيسة، ثم تاريخ الحركة التنصيرية وعلاقتها بالمسلمين، ومن ثَم دراسة القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والتركيز على الفرق التي خرجت عن الإسلام، أمثال الإسماعيلية، والعلوية، والقاديانية، والبهائية.
وكان الهدف من ذلك كله هو زيادة المعرفة والخبرات لمحاربة القرآن بالقرآن، والإسلام بالنقاط السوداء في تاريخ المسلمين!
ويقول عن نفسه: كنا نحاور الأزهريين وأبناء الإسلام بالقرآن لنفتنهم، فنستخدم الآيات مبتورة تبتعد عن سياق النص، ونخدم بهذه المغالطة أهدافنا، وهناك كتب لدينا في هذا الموضوع أهمها كتاب (الهداية) من 4 أجزاء، وكتاب (مصدر الإسلام)، إضافة إلى استعانتنا واستفادتنا من كتابات عملاء الاستشراق أمثال طه حسين، الذي استفادت الكنيسة من كتابه (الشعر الجاهلي) مائة في المائة، وكان طلاب كلية اللاهوت يعتبرونه من الكتب الأساسية لتدريس مادة الإسلام!
وعلى هذا المنهج كانت رسالتي في الماجستير تحت عنوان "كيف ندمر الإسلام بالمسلمين؟".
قصة إسلامه:
يتحدث "إبراهيم خليل أحمد" عن قصة دخوله الإسلام فيقول: "في إحدى الأمسيات من عام 1955م سمعت القرآن مذاعًا بالمذياع، وسمعت قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2]. فكانت هاتان الآيتان بمنزلة الشعلة المقدسة التي أضاءت ذهني وقلبي للبحث عن الحقيقة.
في تلك الأمسية عكفت على قراءة القرآن حتى أشرقت شمس النهار، وكأن آيات القرآن نورٌ يتلألأ، وكأنني أعيش في هالة من النور، ثم قرأت مرة ثانية، فثالثة، فرابعة حتى وجدت قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
من هذه الآية قررت أن أقوم بدراسة متحررة للكتاب المقدس، وقررت الاستقالة من عملي كقسيس، وسكرتير عام للإرساليات الأمريكية بأسوان.
ولما نفذت قراري.. تآمر عليَّ مجموعة أطباء، وأشاعوا أنني مختل العقل، فصبرت وصمدت بكل ثقة في الله. فسافرت إلى القاهرة حيث عملت بشركة للمبيعات "استاندرد ستاشينري"، وفي أثناء عملي بها طلب مني مدير الشركة طبع تفسير جزء عمّ باللغة الإنجليزية، فتعهدت له بإنجاز هذا العمل، وكان يظنني مسلمًا، وحمدت الله أنه لم يفطن لمسيحيتي، فكانت بالنسبة لي دراسة إسلامية متحررة من ثياب الدبلوماسية، حتى شرح الله صدري للإسلام، ووجدت أنه لا بد من الاستقالة من العمل كخطوة لإعلان إسلامي.
وفعلاً قدمت استقالتي في عام 1959م، وأنشأت مكتبًا تجاريًّا، ونجحت في عملي الجديد.
وفي 25 ديسمبر عام 1959م أرسلت برقية للإرسالية الأمريكية بمصر الجديدة بأنني آمنت بالله الواحد الأحد، وبمحمد نبيًّا ورسولاً، ثم قدمت طلبًا إلى المحافظة للسير في الإجراءات الرسمية.. وتم تغيير اسمي من "إبراهيم خليل فلوبوس" إلى "إبراهيم خليل أحمد"، وتضمن القرار تغيير أسماء أولادي على النحو التالي: إسحاق إلى أسامة، وصموئيل إلى جمال، وماجدة إلى نجوى.
ثم يضيف قائلاً: إن الإيمان لا بد أن ينبع من القلب أولاً، والواقع أن إيماني بالإسلام تسلل إلى قلبي خلال فترات طويلة. كنت دائمًا أقرأ فيها القرآن الكريم، وأقرأ تاريخ الرسول الكريم، وأحاول أن أجد أساسًا واحدًا يمكن أن يقنعني أن محمدًا هذا الإنسان الأمي الفقير البسيط، يستطيع وحده أن يحدث كل تلك الثورة التي غيّرت تاريخ العالم ولا تزال.
وقد استوقفني كثيرًا نظام التوحيد في الإسلام، وهو من أبرز معالم الإسلام {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2].
نعم.. التوحيد يجعلني عبدًا لله وحده، ولست عبدًا لأي إنسان.. التوحيد هنا يحرر الإنسان، ويجعله غير خاضع لأي إنسان، وتلك هي الحرية الحقيقية؛ فلا عبودية إلا لله وحده.. عظيم جدًّا نظام الغفران في الإسلام؛ فالقاعدة الأساسية للإيمان تقوم على الصلة المباشرة بين العبد وربه؛ فالإنسان في الإسلام يتوب إلى الله وحده، لا وجود لوسطاء، ولا لصكوك الغفران أو كراس الاعتراف؛ لأن العلاقة مباشرة بين الإنسان وربه.
ثم يختتم كلامه بقوله: كم شعرت براحة نفسية عميقة وأنا أقرأ القرآن الكريم، فكنت أقف طويلاً عند قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
كذا الآية الكريمة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82، 83].
لذلك كله اتخذت قراري بإشهار إسلامي، بل عليَّ القيام بالدعوة للدين الإسلامي الذي كنت من أشد أعدائه، يكفي أنني لم أدرس الإسلام في البداية إلا لكي أعرف كيف أطعنه وأحاربه، ولكن النتيجة كانت عكسية؛ فبدأ موقفي يهتز، وبدأت أشعر بصراع داخلي بيني وبين نفسي، واكتشفت أن ما كنت أبشر به وأقوله للناس كله زيف وكذب".
متاعب وصعوبات:
يقول عن المتاعب التي تعرض لها: "فارقتني زوجتي بعد أن استنكرت عليَّ وعلى أولادي الإسلام، كما قررت البيوتات الأجنبية التي تتعامل في الأدوات المكتبية ومهمات المكاتب عدم التعامل معي، ومن ثم أغلقت مكتبي التجاري، واشتغلت كاتبًا بشركة بـ 15 جنيهًا شهريًّا بعد أن كان دخلي 80 جنيهًا.
وفي هذه الأثناء درست السيرة النبوية، وكانت دراستها لي عزاء ورحمة، ولكن حتى هذه الوظيفة المتواضعة لم أستمر فيها، فقد استطاع العملاء الأمريكان أن يوغروا الشركة ضدي حتى فصلتني، وظللت بعدها ثلاثة أشهر بلا عمل حتى عينت في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وذلك إثر محاضرة قد ألقيتها، وكان عنوانها "لماذا أسلمت؟".
ثم يضيف قائلاً: "لقد تولت الكنيسة إثارة الجهات المسئولة ضدي، حتى إن وزارتي الأوقاف والداخلية طلبتا مني أن أكف عن إلقاء المحاضرات، وإلا تعرضت لتطبيق قانون الوحدة الوطنية، متهمًا بالشغب وإثارة الفتن، وذلك بعد أن قمت بإلقاء العديد من المحاضرات في علم الأديان المقارن بالمساجد في الإسكندرية والمحلة الكبرى وأسيوط وأسوان وغيرها من المحافظات؛ فقد اهتزت الكنيسة لهذه المحاضرات بعد أن علمت أن كثيرًا من الشباب النصراني قد اعتنق الإسلام".
ثم يعاود الحديث في أسى: "هذا الاختناق دفعني دفعًا إلى أن أقرر الهجرة إلى المملكة العربية السعودية؛ حيث أضع كل خبراتي في خدمة كلية الدعوة وأصول الدين".
مؤلفاته في الإسلام:
كتب العديد من المؤلفات أبرزها "محمد في التوراة والإنجيل والقرآن"، "المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي"، و"تاريخ بني إسرائيل".
بعض فقرات من كتبه:
يقول في كتابه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن) ص47:
"هذه هي حقيقة يثبتها التاريخ.. فبينما كان العالم الشرقي والعالم الغربي بفلسفاتهما العقيمة، يعيشان في دياجير ظلام الفكر وفساد العبادة، بزغ من مكة المكرمة في شخص محمد رسول الله نور وضّاء أضاء على العالم، فهداه إلى الإسلام".
يقول في كتابه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن) ص98:
"إن سيدنا عيسى تنبأ عن الرسول الكريم محمد بقوله: (وأما متى جاء ذلك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية) إنجيل يوحنا 16: 12 و13".
يقول في كتابه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن) ص105:
"يقول برنابا: (سيأتي مسيا -أي الرسول- المرسل من الله لكل العالم؛ وحينئذ يُسجد لله في كل العالم وتنال الرحمة) إنجيل برنابا 82: 16-18".
يقول في كتابه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن) ص114:
"كلمة إنجيل كلمة يونانية تعني بشارة أو بشرى، ولعل هذا الذي نستفيده من سيرة سيدنا عيسى ، أنه كان بشرى من الله للرحمة، وبشرى بتبشيره عن المسيا الذي سيأتي للعالمين هدى ورحمة، ألا وهو الرسول الكريم سيدنا محمد ".
يقول في كتابه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن) ص141:
"يقول عيسى في إنجيل برنابا: (لأن الله سيصعدني من الأرض، وسيغيّر منظر الخائن حتى يظنه كل أحد إياي، ومع ذلك فإنه حين يموت شرّ ميتة أمكث أنا في ذلك العار زمنًا طويلاً في العالم، ومتى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة)
منقول لتعم الفائدة
الداعية جنة الفردوس