الداعية جنة الفردوس Admin
عدد المساهمات : 4517 جوهرة : 13406 تاريخ التسجيل : 03/01/2013
| موضوع: الفكر الاسلامي والديمقراطية الجمعة فبراير 15, 2013 8:23 pm | |
| الديمقراطية وطبيعة المشكلة
ما زال الفكر الإسلامي في وجهته العامة, يعاني اضطراباً في علاقته بمسألة الديمقراطية, ويواجه صعوبة في حسم موقفه منها, حيث تتعدد في منظومته وجهات النظر بطريقة متباينة, ومتصادمة أحياناً, تكشف عن تفاوت مستويات التطور والتراكم والانفتاح, الفكري والسياسي بين اتجاهات وخطابات الفكر الإسلامي المعاصر. فهناك من يحدد موقفه على أساس أن الديمقراطية هي جزء لا ينفك أو ينفصل, وطبيعة مكونات الخطاب الفكري والفلسفي الغربي, وهناك من يرى إمكانية الفصل والتفكيك بين الديمقراطية كطريقة في إدارة وتنظيم السلطة, وفي بناء وتكوين الاجتماع السياسي, وبين تلك الأبعاد الفكرية والفلسفية الخاصة. وهناك من يرى أن الشورى في الإسلام هي البديل عن الديمقراطية في الفكر الغربي, وبين من يرى أن هناك ديمقراطية في الإسلام ينبغي الكشف عنها والالتزام بها, وهكذا من يرى إمكانية الجمع بين الديمقراطية والشورى, وأن لا تعارض وتصادم بينهما, إلى جانب من يرى في الديمقراطية كفراً واستلاباً وإتباعا للأجنبي, وخروجاً على التشريع الإسلامي, وعصياناً على أمر الله سبحانه وتعالى. وإلى اليوم لم يتطور مستوى النقاش الفكري والسياسي في داخل الفكر الإسلامي بالقدر الكافي حول مسألة الديمقراطية, بالرغم من الاقتراب منها, وكونها أصبحت من المسائل المبتلى بها حسب التعبير الفقهي, ومع ارتفاع وتيرة الحديث عنها منذ العقد الأخير من القرن العشرين. وما لم يتطور ويتراكم مستوى هذا النقاش, فإن ذلك التضارب والتصادم سوف يبقى على حاله, معبراً عن حالة من الاضطراب في بنية وتكوينات الخطابات الإسلامية المعاصرة.
ولعل من أكثر ما كشفت عنه هذه المسألة, هي تلك الأزمة التي وصف بها الفكر السياسي الإسلامي, وذلك الضمور في النمو الفقهي والدستوري الذي ظل يعاني منه هذا الفكر. تلك الأزمة التي يحدد إطارها العام في طبيعة رؤية الفكر السياسي الإسلامي لمفهوم الدولة, والضعف الفقهي والدستوري الذي يمكن وصفه بالخطير, في القدرة على بناء رؤية جديدة لمفهوم الدولة الحديثة, المغايرة جذرياً لجميع الأنماط المتوارثة في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي, والتي وإن كانت تتعدد في تسمياتها, إلا أنها متحدة من حيث جوهرها, كالدولة العصبوية, أو الرعوية, أو السلطانية, أو إمارة الشوكة والتغلب والاستيلاء, إلى غير ذلك من التسميات التي تصور واقع الدولة في تاريخ المجتمعات الإسلامية من بعد العصر الراشدي. والسؤال كيف حصل هذا الاضطراب, أو كيف نفسره في علاقة الفكر الإسلامي المعاصر بمسألة الديمقراطية؟ لمعرفة الإجابة على هذا السؤال, يمكن الحديث عن ثلاثة سياقات تاريخية, لعلها تساهم في الكشف عن طبيعة العوامل والأرضيات والتطورات المفسرة لذلك الاضطراب. وتنتمي هذه السياقات التاريخية إلى ثلاثة أزمنة, متباعدة في بعضها, ومتقاربة في بعضها الآخر. فهناك السياق التاريخي الذي ينتمي إلى الزمن القديم, إلى ما بعد العصر الراشدي, وهناك السياق التاريخي الذي ينتمي إلى الزمن الحديث, زمن ما سمي بعصر الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي, وهناك السياق التاريخي الذي ينتمي إلى الزمن المعاصر, زمن ما بعد قيام الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين. وهذا يعني تطبيق ما يسميه المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل بالمدة الطويلة للتاريخ, وذلك حين تستدعي قضية البحث مثل هذه الضرورة, وكونها تتصل بجذور تاريخية ممتدة في القدم, لكنها ما زالت فاعلة ومؤثرة. وحين نشير إلى وجود مثل هذه السياقات التاريخية ليس بقصد التوسع, والتوغل في التاريخ, خصوصاً في التاريخ القديم, وإنما بقصد الإحاطة بالقضية ما أمكن, والقبض على عناصرها, وبناء تحليل متماسك.
2- الشورى بين النص والتجربة التاريخية
لقد اعتبرت الكتابات الإسلامية المعاصرة أن مفهوم الشورى يأتي في مقدمة المفاهيم الدستورية في النظام السياسي الإسلامي, فجمهور علماء الشريعة وفقهاء القانون الدستوري, كما يقول فريد عبد الخالق, يضعون الشورى ـ كفريضة إسلامية ومبدأ دستوري أصيل ـ على رأس المبادئ العامة, والأصول الثابتة, التي قررتها نصوص قرآنية وأحاديث شريفة. ويؤكد كلامه بما ذكره عبد الحميد متولي في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) الذي يعتبر أن الشورى هي ما اتفق العلماء على وضعها دائماً على رأس أهم المبادئ الدستورية, التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام.(1) وهذا ما يراه أيضاً الشيخ محمد مهدي شمس الدين, الذي يقول: (ينبغي أن يكون مبدأ الشورى في الشؤون العامة, أهم المبادئ الدستورية السياسية على الإطلاق عند جميع المسلمين. لأن مقتضى أدلة هذا المبدأ من الكتاب الكريم والسنة, أنه لا تستقيم شرعية أي حكم سياسي ـ لحاكم غير معصوم ـ ولا تستقيم شرعية أي تصرف في الشؤون العامة للمجتمع, من دون أن يكون قائماً على مبدأ الشورى)(2). كما أن الشورى عنده هي من أهم المبادئ المكوّنة لمفهوم الأمة, ومفهوم المجتمع السياسي في الإسلام. والكتابات الإسلامية المعاصرة مستفيضة في الحديث عن هذا المفهوم, وفي الإعلاء من شأنه وقيمته ومنزلته, وفي تفضيله وتقديمه على جميع المفاهيم التي تنتمي إلى منظومات فكرية أخرى, ومنها مفهوم الديمقراطية. وبالتأكيد ليس هناك إشكال أو اعتراض على هذا المفهوم من جهة النص, لكن السؤال ماذا عن تطبيقات هذا المفهوم في التجربة التاريخية لأنظمة الحكم في المجتمعات الإسلامية؟ لقد خصص ابن خلدون في مقدمته فصلاً أسماه (في انقلاب الخلافة إلى الملك) شرح فيه كيف تحولت الخلافة إلى ملك من بعد عصر الخلفاء الأربعة, وختم كلامه في هذا الفصل بقوله: (فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً, ثم التبست معانيهما واختلطت, ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبته من عصبية الخلافة)(3) وحين تتبع الدكتور رضوان السيد, ما طرأ على مفهوم الشورى من تغيرات وتحولات, في إطار حديثه عن الشورى بين النص والتجربة التاريخية للأمة, وجد أن هذا المفهوم بدأ يتقلص ويتضيق ويتحور ابتداء من القرن الأول, وفي النصف الثاني منه بالتحديد, ويدل على ذلك حسب رأيه, الحديث أو الأثر الذي انتشر في خمسينات أو ستينات القرن الأول, حيث تكون الخلافة ثلاثين عاماً, ثم يكون الملك عضوض. والشورى التي عنت مطلع القرن الثالث الهجري ـ كما يضيف الدكتور السيد ـ سلطة المجموع أو السواد الأعظم, بدأ يغلب عليها الطابع الأخلاقي على حساب الأبعاد الاجتماعية والسياسية, وفي هذا السياق أهملت الآية المكية الأولى (وأمرهم شورى بينهم) التي تجعل الشورى خصيصة تكوينية في الأمة, وجرى التركيز على الآية الثانية (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله), فقيل أن الشورى هنا ندب وليست فرضاً, وهي متعلقة بحالة عدم عزيمة الأمير أو الحاكم, فإذا عزم فلا مسؤولية عليه إلا أمام الله. وانتهى الدكتور السيد من تتبعه التاريخي, إلى أن الأبعاد السياسية لمفردة الشورى تضاءلت تدريجياً حتى غابت تماماً, وظهرت في كتب الأحكام السلطانية, صفات ومؤهلات أخرى للخليفة والسلطان, فما عاد السلطان يمدح بأن سلطته سلطة شورى, وانحصرت مؤهلات السلطة والسلطان في مسألتين اثنتين هما الكفاية والشوكة. أما الكفاية فتعني القدرة على قمع الفتنة الداخلية, وأما الشوكة فتعني القدرة على دفع العدوان الخارجي.(4) وعندما يتحدث مالك بن نبي عن الديمقراطية في الإسلام, وما بينهما من علاقة عضوية حسب رأيه, يرى بأنه لا حرج في اعتبار الديمقراطية في الإسلام, لا في الزمن الذي عجزت فيه التقاليد الإسلامية, وفقدت فيها إشعاعها, كما هو شأنها اليوم بصورة عامة, ولكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع, فما يتعارف عليه الناس, ويؤكده التاريخ, أن التقاليد الإسلامية نشأت في زمن الرسول (ص) وفي عهد الخلفاء الراشدين. فإذا اتفقنا ـ والكلام لابن نبي ـ على وجهة النظر هذه, وهي وجهة نظر فقهاء الإسلام, فالمشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام, قد اخذ طريقه للتحقيق نحو أربعين عاما تقريباً, ففي هذه المدة وضعت الأصول النفسية لتكوّن الأساس المعنوي للديمقراطية الإسلامية.(5) وقد ظل ابن نبي يصف هذه الفترة بعهد التخلق الديمقراطي, ومن بعدها بدأ التقهقر والإنحداد حسب تصوره. ما نريد أن نلفت إليه النظر في هذا السياق التاريخي, هو أمران: الأول: ويتصل بالجانب الزمني, وكيف أن الفترة الزمنية لتجربة الشورى في الاجتماع الإسلامي كانت فترة قصيرة للغاية, ومن بعدها ورثنا عهداً طويلاً أقل ما يقال عنه أنه لم تكن الشورى متجلية فيه بتخلق وشفافية, وبكلام أكثر وضوحاً فقد ورثنا عهداً طويلاً من الاستبداد, أطيح فيه بمفهوم الشورى, وأزيح عن الحياة السياسية, بعد أن حلت إمارة التغلب والشوكة والاستيلاء, وأصبح الاستبداد من مكونات طبيعة الدولة السلطانية في الاجتماع السياسي الإسلامي. الثاني: ويتصل بالجانب الكيفي, حيث توقف مفهوم الشورى, عن النمو والتطور السياسي والقانوني, وعن الإسهام في البناء المؤسساتي وصياغة وتكوين الدولة والاجتماع السياسي الإسلامي, وذلك بعد أن تراجع العمل بمفهوم الشورى. لهذا فقد بقي مفهوم الشورى مفهوماً عاماً ومختلفاً عليه, وظلت الأبعاد الأخلاقية فيه, أوضح من الأبعاد السياسية والقانونية, فلم يساهم مفهوم الشورى في التاريخ السياسي الإسلامي في تطوير مفهوم دولة الأمة, الدولة التي تكون فيها الأمة هي مصدر السلطات ومنبع الشرعية. بمعنى آخر لم يساهم مفهوم الشورى في تطوير وترسيخ المشاركة السياسية للأمة, وفي صياغة وتكوين الدولة, حيث حلت الدولة السلطانية, وهيمنت وسادت لعهود طويلة في تاريخ الاجتماع السياسي الإسلامي, وهي الدولة التي يكون فيها السلطان هو كل شيء, ولا مكان فيها لمفهوم الأمة. لهذا فإن مفهوم الشورى وصل إلينا وهو مفرغ من المحتوى السياسي والقانوني, ويفتقد إلى التطبيقات والتجريبات الشفافة والخلاقة, ولم يتطور بطريقة مؤسساتية تتحدد فيه الآليات والطرائق العملية, وتتكشف فيه المضامين والأبعاد السياسية والقانونية والأخلاقية. لذلك لم يبق لدينا إلا أن ننشغل فيما انشغلنا فيه منذ زمن طويل, وبطريقة جدلية ضحلة في أن الشورى هل هي ملزمة أم معلمة؟ وكأننا لم نتعرف على فكرة الشورى إلا اليوم. ولا أدري هل يجوز وصف هذا الانشغال, بالانشغال العقيم أم لا؟ لأنه انشغال لا يقدم ولا يؤخر, ولأننا بقينا على هذا الحال لزمن طويل نتجادل ونتخاصم ونتنازع حول المفهوم, بدون أن يكون له أي أثر على الأرض, وفي حياتنا السياسية.
3 - عصر الإصلاح الإسلامي والديمقراطية
لقد ساهم انفتاح نخبة من المصلحين المسلمين في القرن التاسع عشر, والعقود الأولى من القرن العشرين الميلادي, على التجربة السياسية والدستورية الأوروبية, في الالتفات إلى أمرين مهمين ومؤثرين, أحدهما له طبيعة نظرية, والآخر له طبيعة موضوعية. وكلاهما يتصلان بمجال المقارنة, تارة المقارنة في نطاق المفاهيم, حيث اتيحت الفرصة لتجديد النظر في المفاهيم السياسية الإسلامية, كمفهوم الشورى والحرية والإجماع, وهكذا مفاهيم الدولة والسلطة والدستور. وتارة المقارنة في نطاق الوقائع, حيث أتيح الإطلاع على ما وصلت إليه أوروبا من تطور سياسي ودستوري على مستوى أنظمة الحكم وإدارة السلطة وبناء الدولة, وتقييد الحكم بالدستور, وتشكيل المجالس النيابية التي تتيح مجال المشاركة السياسية للأمة, والتخلص من الحكم الفردي الاستبدادي, هذا الإطلاع أتاح مجال المقارنة بين ما نحن عليه سياسياً ودستورياً, وبين ما وصلت إليه أنظمة الحكم في أوروبا. وقد أفصح بعض هؤلاء المصلحين المسلمين كيف أنهم تنبهوا من جديد إلى مفاهيم الشورى والإجماع بعد أن اطلعوا على تجارب الأوروبيين. وفي هذا النطاق يأتي النص الذي اشتهر كثيراً عن الشيخ محمد رشيد رضا, في رده على قارئ بعث برسالة إلى المنار, يتحدث فيها عن حصر الإصلاح بالإسلام, فأجابه رشيد رضا عام 1907م بقوله (لا تقل أيها المسلم أن هذا الحكم ـ المقيد بالشورى ـ هو أصل من أصول الدين, ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين, ومن سيرة الخلفاء الراشدين, لا من معاشرة الأوروبيين, والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس, لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام... إنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا ذلك.. ومع هذا كله أقول إننا لولا اختلاطنا بالأوروبيين لما تنبهنا من حيث نحن أمة, أو أمم إلى هذا الأمر العظيم, وإن كان صريحاً جلياً في القرآن الكريم.)(6) ويماثل هذا الرأي, ما ذهب إليه الفقيه الإمامي الشيخ محمد حسين النائيني في دفاعه عن نظام الحكم المقيد بالدستور, في كتابه الشهير (تنبيه الأمة وتنزيه الملة), إذ يقول (ما أشد جهلنا عبدة الظالمين, وحاملي شعبة الاستبداد الديني, بمداليل الكتاب والسنة وأحكام الشريعة وسير النبي المطهر والإمام المكرم... وترانا عوضا من أن نقول في حق الشوروية العمومية, هذه بضاعتنا ردت إلينا, نعدها مخالفة للقانون الإسلامي, فكأننا لم نقرأ تلك الآيات الواضحة الدلالة ولم نحصل على مفادها). وفي مكان آخر يقول (أما اليوم وقد حصلنا بعد اللتيا والتي على شيء من التنبه والشعور, وقمنا نأخذ مقتضيات ديننا من الأجانب مع تمام الخجل, قائلين هذه بضاعتنا ردت إلينا).(7) ومن بيئة ثالثة هي الهند, يشير إلى مثل هذا الرأي محمد إقبال, في حديثه عن عدم تحول مفهوم الإجماع في الشريعة الإسلامية إلى نظام تشريعي ثابت في السابق, لأنه حسب رأيه كان يتعارض مع المصالح السياسية للحكم المطلق الذي نشأ في التاريخ الإسلامي بعد عصر الخليفة الرابع مباشرة. وعن هذه الإمكانية في الفترة التي عاصرها إقبال, يقول (أنه مما يبعث على الارتياح التام, أن نجد أن ضغط العوامل العالمية الجديدة, وتجارب الشعوب الأوروبية في السياسة, قد جعلت تفكير المسلمين في العصر الحديث, يتأثر بما لفكرة الإجماع من قيمة وما تنطوي عليه من إمكانيات. إن نمو الروح الجمهورية في البلاد الإسلامية, وقيام جمعيات تشريعية فيها بالتدرج خطوة عظيمة في سبيل التقدم.)( وعلى الصعيد العملي, عرف عن المصلحين المسلمين في ذلك العصر, الدعوة والمطالبة بالحكم الدستوري تقييداً للحكم الفردي المطلق, والمطالبة بالنظام النيابي تحقيقاً لفكرة الشورى, وتأكيداً لمشاركة الأمة السياسية. وهذا ما سعى إليه السيد جمال الدين الأفغاني وتيار ما عرف بحركة الجامعة الإسلامية. فقد ظل الأفغاني ينصح حكام الشرق, وخصوصاً حكام إيران ومصر بضرورة تقييد حكمهم بالدستور, والعمل على تأسيس مجالس نيابية للأمة, وفي هذا الشأن يذكر المؤرخون أن الأفغاني أعد مسودة دستور قدمه في وقته لشاه إيران ناصر الدين القاجاري, لجعل إيران دولة دستورية, يخضع فيها الشاه إلى الدستور, ويعطي مجلس الشورى حق إصدار القوانين, فلما طالعه الشاه وجد أن صلاحياته قد تقلصت, وحصلت الأمة بموجبه على سلطات أقوى عبر المجلس النيابي, فرفضه معترضاً على مساواته بالفلاح والعامل. فأجابه الأفغاني: أيها الملك, لتعلم أن تاجك وعرشك وأوامرك وأركان سلطانك ستكون أقوى بمعية الدستور. إن العالم والعامل والفنان أكثر فائدة للبلاد من مقامك وعظمتك. اسمع مني قبل فوات الأوان, ولا تفرط بهذه الفرصة الثمينة, بأن تكون في إيران حكومة دستورية, لتهدم حكومة الاستبداد.(9) وفي مصر عرض الأفغاني على الخديوي توفيق, ضرورة الحاجة لتبني إصلاحات سياسية في حكومته, عن طريق صياغة دستور جديد, وتأسيس نظام نيابي يتمثل بمجلس الشورى. ويذكر أن الأفغاني قال للخديوي توفيق (وإذا قبلتم نصحي وأسرعتم لإشراك الأمة في حكم البلاد, فتأمرون بإجراء انتخاب نواب عن الأمة, تسن القوانين.. فإن ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم)(10) فاستشعر الخديوي توفيق, الخوف من الأفغاني فأمر بإخراجه من مصر, وتسفيره على ظهر باخرة كانت متوجهة إلى الهند. فقد كان الأفغاني يعتقد أن بالامكان التأثير على الملوك والسلاطين, وتغيير نظام الحكم المطلق, عن طريق توجيه النصح لهم, ونقل عنه قوله (أما تغيير شكل الحكم المطلق, بالشكل النيابي الشوري, فهو أيسر مطلباً, وأقرب منالاً, إذ يكفي فيه أحياناًُ, إرشاد الملك ونصحه من عقلاء مقربيه ـ فيفعله ـ ويشرك معه أمته, ورعيته. ويرى بعد التجربة راحة, وتضامنا على سلامة ملكه, وعزة بالتفاف طبقات الرعية حول عرشه, بقلوب خالصة مخلصة, وحب صميمي, فيكون للملك الدستوري عظمة الملك.)(11) واستمر هذا النهج الإصلاحي الداعي للحكم النيابي من بعد الأفغاني في تيار حركة الجامعة الإسلامية, ولعل أوضح من عبر عنه من بعد الأفغاني, اثنان من المصلحين هما: عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد), والشيخ محمد حسين النائيني في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) وكلاهما يشتركان في أن معالجة الاستبداد السياسي, ونظام الحكم المطلق, إنما يكون بالحكم المقيد بنظام الشورى والدستور. ولهذا يمكن القول أن المفاهيم السياسية الإسلامية في هذا العصر, كانت أوضح عند الفكر الإسلامي أكثر من أي عصر آخر, قبله وبعده, ليس في نطاقها النظري والمفاهيمي فحسب, وإنما حتى في محدداتها العملية, وأبعادها الموضوعية. لذلك فإن هذا العصر يشكل لنا أهم المنابع وأنضجها على مستوى الفكر الإسلامي, في الحديث عن تلك المفاهيم السياسية الإسلامية, كما يشكل لنا أيضا, أهم المحطات التاريخية في مراحل تطور الفكر الإسلامي, فقد مثلت تلك المفاهيم محور حركته الإصلاحية, التي ملئت سمع العالم بقوة زخمها, وعظمة رجالها, وتفوق خطابها.
4- الفكر الإسلامي ومرحلته المعاصرة, والديمقراطية
مشكلة الفكر الإسلامي في مرحلته المعاصرة, أنه لم يتابع تراكمات ما أنجزه المصلحون المسلمون في القرن التاسع عشر الميلادي, من إصلاحات وتجديدات في المجال الفكري والديني, حيث ظهر بينهما التباين والاختلاف في الاتجاهات والمسلكيات, التباين الذي فسره البعض بالقطيعة المعرفية, حيث اختلفت نوعية وطبيعة الاهتمامات والاولويات الفكرية والعملية. وعدت هذه القطيعة سببا مهما في التراجع الفكري الذي أصاب الفكر الإسلامي في مرحلته المعاصرة, والممتدة تحديدا من الخمسينيات إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وتكرس هذا التراجع مع قيام الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين, التي دخلت في خصومات وتصادمات مع الخطابات الإسلامية آنذاك, وذلك حين تبنت هذه الدولة خيارات فكرية وتشريعية من خارج المنظومة الإسلامية, وفتحت المجال من جهة أخرى, أمام انبعاث وتنامي الإيديولوجيات غير الإسلامية, والتي دخلت بدورها أيضا, في صدام يمكن وصفه بالعنيف مع الفكر الإسلامي بكل خطاباته واتجاهاته. لهذا أصبح الفكر الإسلامي في ظل هذه الوضعيات مسكونا بهاجس الخوف على الهوية, وأنه بات معرضا للغزو الفكري والاختراق الثقافي, لذلك لم يعد بامكانه تطوير معرفته بالديمقراطية التي زج بها في معترك الصراع الإيديولوجي, حين حاولت هذه الإيديولوجيات انتساب الديمقراطية لها, واعتبرتها من مقولاتها العظمى, التي تبالغ في تبجيلها والتفاخر بها. الوضع الذي خلق حاجزا نفسيا يمنع ويعرقل اقتراب الفكر الإسلامي من فكرة الديمقراطية, خصوصا بعد أن كانت تصور هذه الفكرة بتلازمها الذي لا ينفك مع العلمانية تارة, وانتسابها مرجعيا إلى الفلسفة الليبرالية تارة أخرى. التلازم والانتساب الذي وضع هذه المرة حواجز فكرية وثقافية وقيمية أمام الفكر الإسلامي من الاقتراب والتفاعل مع فكرة الديمقراطية. فأصحاب هذه الإيديولوجيات ساهموا في دفع الفكر الإسلامي, لتكوين صورة ملتبسة وغير ناضجة عن الديمقراطية. لهذا فقد غلب على الفكر الإسلامي في هذه المرحلة النظر إلى الديمقراطية, من وجهتها المذهبية والفلسفية, الكلية والعامة, والتي تعارض من هذه الجهة الإسلام والنظام الإسلامي. وهذا ما تحدث عنه شارحا له الدكتور محمد المبارك عام 1968م, في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث ومواجهة الأفكار الغربية), فالديمقراطية كما يقول باعتبارها (نظاما سياسيا في أوروبا, اقترنت بأفكار ومفاهيم عن الإنسان والمجتمع, وانبثقت عن فلسفة لا يقبلها الإسلام, وقد تتعارض مع فلسفته ونظرته في كثير من نقاطها. فالديمقراطية مبنية على فكرة أساسية هي أن الفرد هو الأصل في الدولة, وهي إنما خلقت لمصلحته, وله حرية مطلقة في تصرفاته, سواء في فعاليته الاقتصادية أو الخلقية أو الفكرية, والدولة مهمتها مقصورة على تنسيق حريات الأفراد حتى لا تتصادم. إن هذه الفلسفة تختلف عن نظرية الإسلام اختلافا كبيرا, فهي تؤدي إلى المساواة بين الإيمان والإلحاد في مجال الفكر, وبين الإباحية والتقيد في مجال السلوك الخلقي, وبين الرأسمالية المترفة الطاغية, والتقييد لمصلحة الجماعة. والإسلام لا يقبل التسوية بين هذه الاتجاهات, ولا يمنح الحرية المطلقة التي تؤدي إلى الباطل والرذيلة والظلم... وخلاصة القول إننا إذا اعتبرنا الديمقراطية مذهبا اجتماعيا قائما بذاته, فليس لنا أن نقول إنها من الإسلام, أو أن الإسلام يقبلها. إذ هما مذهبان مختلفان في أصولهما وجذورهما وفلسفتهما, ونتائج تطبيقهما)(12) وأخذ بهذا الموقف الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه (نظرية الإسلام وهديه), ومحمد قطب في كتابه (مذاهب فكرية معاصرة), والسيد كاظم الحائري في كتابه (أساس الحكومة الإسلامية), وأكثر من يعبرون عنه اليوم هم من يسمون بالجماعات السلفية. وبصورة عامة يمكن القول أن الفكر الإسلامي في هذه المرحلة كان محكوما بذهنية الصراعات الإيديولوجية, لذلك أصبح مهموما ومشغولا بمنهج المقاربات والمقارنات العامة والكلية, التي تهدف إلى تأكيد وإثبات, تمايز وتفاضل وتعارض الإسلام والفكر الإسلامي مع باقي الإيديولوجيات الأخرى, التي وصلتنا من أوروبا غربا وشرقا. وفي هذا النطاق أنجز الفكر الإسلامي تراكما مهما على مستوى المؤلفات والكتابات التي تتباين من حيث خبرتها المنهجية وكفاءتها العلمية. وفي هذا الإطار كذلك, تحدد الفهم والموقف من الديمقراطية, حيث توجه النظر إليها من جهة المقارنة بينها, وبين الإسلام بصور متعددة, بين من يغلب المشتركات, وبين من يغلب الافتراقات, وبين من يغلب التصادمات. وخلاصة الأمر أن الفكر الإسلامي في هذه المرحلة تراجع موقفه من الديمقراطية, ولم يتقدم باتجاه تطوير المعرفة بها, وانقطع عن ما أنجزه المصلحون المسلمون في عصر الإصلاح الإسلامي, ولم يبني أو يستعين بتراكماته ومنجزاته, وظل موقفه في العموم الأغلب مربكا ومتوترا وسجاليا تجاه الديمقراطية.5- المنحى الجديد في الفكر الإسلامي, والديمقراطية مع حقبة تسعينيات القرن العشرين بدأت ملامح التغير والتجديد في رؤية الفكر الإسلامي لمسألة الديمقراطية, وأخذ هذا التغير والتجديد يتنامى ويتراكم, وما زال يحافظ على هذه الوتيرة المتصاعدة بعض الشيء. والدافع إلى هذا التغير مجموعة عوامل متداخلة ومتشابكة, ذاتية وموضوعية, فكرية وسياسية, محلية ودولية. فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه أنه بحاجة إلى التجديد الذاتي, والمراجعة النقدية لتطوير خطابه الفكري, ومسلكياته الثقافية, وفي هذا الإطار حصل الاقتراب من فكرة الديمقراطية, كما أن تجربة الإسلاميين في الحكم ساهمت في تأكيد الحاجة إلى هذا المنحى الديمقراطي, وتعزز هذا المنحى مع انبعاث ما سمي في داخل الفكر الإسلامي بالتيار الإصلاحي أو الوسطي أو المعتدل, إلى جانب قبول بعض التيارات الإسلامية الانخراط في المشاركة السياسية على قاعدة الالتزام بقواعد الديمقراطية, بالإضافة إلى ما شهده العالم من صحوة ديمقراطية أطاحت بالمعسكر الشرقي في أوروبا, ودفعت برياح الديمقراطية التي هبت على أرجاء واسعة في العالم. هذه لعلها من أبرز العوامل والأرضيات والمناخات التي دفعت الفكر الإسلامي نحو الاقتراب من فكرة الديمقراطية, وتجديد النظر في أبعادها ومكوناتها. لذلك أخذ هذا المنحى في الفكر الإسلامي يعبر بوضوح عن رؤيته وموقفه من الديمقراطية, ويدافع عن هذا الموقف ويجاهر به. ومن أبرز أقطاب هذا المنحى, الشيخ محمد الغزالي, والشيخ يوسف القرضاوي من المدرسة الإسلامية السنية, والشيخ محمد مهدي شمس الدين, والسيد محمد خاتمي من المدرسة الإسلامية الشيعية. وهؤلاء كما هو معروف, أنهم من أصحاب المنحى التجديدي والإصلاحي في الفكر الإسلامي المعاصر, ومن المؤثرين في اتجاهاته ومسلكياته المعاصرة. فالشيخ محمد الغزالي, ظل يلفت النظر للديمقراطية منذ كتابه (الإسلام والاستبداد السياسي) الصادر عام 1949م, الذي اعتبر فيه أن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان, وكيف يغيب عن إدراك العاملين في الحقل الإسلامي حسب رأيه, وهم حين يدعون إلى الإسلام ينسون ما أفاده العالم من تجارب في صراعه مع الحكام الظلمة, أساؤوا إليه, وعلموه أن يحدد علائقه بهم في دساتير مضبوطة وقوانين محكمة.(13) إلى كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) الصادر عام 1980م, الذي توقف فيه مناقشا ومعترضا, ما أشار إليه محمد قطب في الجزء الثاني من كتابه (منهج التربية الإسلامية) حين وضع الإسلام في قبال الديمقراطية, فوجد الشيخ الغزالي أن هذا الرأي بحاجة إلى ضوابط, فالديمقراطية ليست دينا يوضع في صف الإسلام, إنها تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم, ننظر إليه لنطالع كيف توفرت الكرامة الفردية للمؤيد والمعارض على سواء, وكيف شيدت أسوارا قانونية لمنع الفرد أن يطغى, ولتشجيع المخالف أن يقول بملء فمه لا)(14) وصولا إلى كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) الصادر عام 1989م, الذي قال فيه (يؤسفنا أن الشورى أينعت ثمارها في أقطار واسعة وراء دار الإسلام) ورأى أن (من خصائص الديمقراطية الحديثة أنها اعتبرت المعارضة جزءا من النظام العام للدولة, وأن للمعارضة زعيما يعترف به ويتفاهم معه دون حرج, ذلك أن مالك السلطة بشر له من يؤيده وله من ينقده, وليس أحدهما أحق بالاحترام من الآخر. والواقع أن هذه النظرة تقترب كثيرا من تعاليم الخلافة الراشدة)(15) أما الشيخ يوسف القرضاوي, فله موقف واضح من الديمقراطية, أنزله منزلة الفتوى, وضمنه كتابه (فتاوى معاصرة) الجزء الثاني, وذلك حين أجاب على سؤال: هل صحيح أن الإسلام عدو الديمقراطية؟ وأن الديمقراطية ضرب من الكفر أو المنكر كما زعم من زعم؟ أم أن هذا تقول على الإسلام, وهو منه برىء؟ فأجاب الشيخ القرضاوي على هذا السؤال متقصدا التفصيل والإسهاب, بأدلة من الكتاب والسنة, ومن أبرز ما جاء في إجابته: (الغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح, أو كفر بواح, وهو لم يعرفها معرفة جيدة, تنفذ إلى جوهرها, وتخلص إلى لبابها, بغض النظر عن الصورة والعنوان... فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم, والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب, والتي وصلت إليها بعض الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة, والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي, وتقليم أظافر التسلط السياسي, الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة, هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين؟ إن جوهر الديمقراطية ـ بعيدا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية ـ تعني أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم, وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه, أو نظام يكرهونه, وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ, وحق عزله إذا انحرف, وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها. هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقي التي وجدت البشرية لها صيغا وأساليب عملية, مثل الانتخاب والاستفتاء العام, وترجيح حكم الأكثرية, وتعدد الأحزاب السياسية, وحق الأقلية في المعارضة, وحرية الصحافة, واستقلال القضاء.. الخ فهل الديمقراطية تنافي الإسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى؟ الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام, فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه, ولا يرضون عنه, وإذا كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة؟ وقبل أن يختم الشيخ القرضاوي كلامه, اعتبر نفسه أنه من المطالبين بالديمقراطية, وحسب قوله: (وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة والمنضبطة, لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة) والنتيجة التي خرج بها الشيخ القرضاوي, وختم بها كلامه في الأسطر الأخيرة منه (وبهذا تقترب الشورى الإسلامية من روح الديمقراطية, وإن شئت قلت يقترب جوهر الديمقراطية من روح الشورى الإسلامية)(16) وبالنسبة للشيخ محمد مهدي شمس الدين, فقد دعا إلى الديمقراطية القائمة على مبدأ الشورى, واعتبر أن للديمقراطية ثلاث سمات هي: أولا: سمة الخلفية الفلسفية الليبرالية. ثانيا: كونها آلية تشريعية لإدارة السلطة, وتداول السلطة. ثالثا: كونها آلية تشريعية لسن القوانين من خلال مؤسساتها التمثيلية. وعن السمة الأولى يقول: نحن لسنا ملزمين بها كنظرية وضعية, أو كاعتقاد فلسفي, إذا رؤي أن تعتبر كصيغة ولاية الأمة على نفسها فليكن ذلك, لكن ولاية الأمة على نفسها من زاوية فهمنا الإسلامي, ليست شيئا ذاتيا بالأمة, الله أعطى الأمة ولاية على نفسها. هذه الخلفية الاعتقادية الدينية لا بد منها. وبالنسبة لكونها آلية لإدارة المجتمع, وتداول السلطة وانتقالها, لا يوجد عندنا في الشرع أي نص شرعي على الإطلاق, لا في الكتاب ولا في السنة, ولا في الفقه العام ما يمنع من اعتماد الديمقراطية وأساليبها ومؤسساتها في هذا الحقل. أما في الحقل التشريعي, فالتشريع كما نعلم ينقسم إلى قسمين كبيرين, الفقه الخاص, وهذا ليس من شأن المجتمع, أنه فقه الأفراد ويمكن أن يمارس في حالة وجود دولة ونظام إسلامي, وفي حالة عدم وجودهما. والفقه العام الذي يتصل بتنظيم المجتمع, وفيه ما هو منصوص عليه ويدخل في ثوابت الشريعة, وهذه لا يمكن للبشر أن يشرعوا فيها. كما أن فيه مساحات ما يمكن أن نسميه مساحات الفراغ, وتشمل هذه كل الجانب التنظيمي والإداري والعلاقات الخارجية, ومعظم الجانب الاقتصادي. وكل هذه الحقول لا تدخل في باب الأحكام الشرعية إلا بمقدار مراعاتها للمبادئ العليا في الشريعة, من قبيل قاعدة عدم العدوان, وقاعدة العدل والإنصاف وغيرها, وما عدا ذلك هو تدبير وتدبر لأمور تنظيمية يرى الناس فيها ما يصلح. وحين يريد الشيخ شمس الدين أن يحدد اختياره, وخلاصة القول عنده يقول: (إننا نختار الشورى كفلسفة حكم, ونختار آليات الديمقراطية كأدوات وأجهزة ومؤسسات. إن الديمقراطية هي أحسن القول الغربي من الناحية التنظيمية للمجتمع, ومن ناحية إدارة عملية تداول السلطة وانتقالها. والخلاصة: إذا شئت أن تقول أنا أتبع الديمقراطية على أساس مبدأ الشورى فأنت مصيب, وإن شئت أن تقول أنا أتبع الشورى واستخدم فيها تقنيات الديمقراطية فأنت مصيب)(17) أما بالنسبة للسيد محمد خاتمي فان الحديث عن رؤيته في هذا المجال, تختلف بطبيعة الحال عن صورة الحديث في هذا الموضوع عند الآخرين, بما في ذلك الأسماء التي اشرنا إليها, ويكتسب هذا الحديث أهمية وقيمة وموثوقية, باعتبار أن له تجربة حية ومؤثرة مع الديمقراطية, التي أوصلته إلى موقع رئاسة الدولة مرتين في بلده إيران, الأولى عام 1997م, والثانية عام 2002م. وهي التجربة التي دشن بها عهدا جديدا عرف في الأدبيات السياسية الإيرانية بعهد الخاتمية نسبة إليه. وتتأكد قيمة هذه الرؤية عند السيد خاتمي بوصفه مطلعا ودارسا لمسار الفكر السياسي الغربي, ومسار الفكر السياسي الإسلامي. وله في هذا الشأن كتابات منشورة مثل كتاب (مدينة السياسة.. فصول من تطور الفكر السياسي في الغرب), وهو في الأصل محاضرات ألقاها على طلاب دورة متخصصة عالية في قسم الفلسفة بجامعة العلامة الطباطبائي, في النصف الثاني من العام الدراسي (1992ـ1993م). وفي عام 1996م أشار إلى أنه يعمل على تأليف كتاب بعنوان (مسار الفكر السياسي في الإسلام), ولا اعلم فيما إذا كان هذا الكتاب قد صدر فعلا أم لا. وفي هذا السياق أيضا صدر له عام 2003م كتابا بعنوان (الديمقراطية وحاكمية الأمة), شرح فيه رؤيته للمصالحة بين الدين والحرية, ودعا فيه إلى مفهوم الديمقراطية الدينية. ومن الممكن تحديد رؤية السيد خاتمي للديمقراطية وعلاقتها بالدين, في النقاط التالية: أولا: أن لا تلازم بين الديمقراطية وبين العلمانية والليبرالية. وهي الإشكالية التي نشأت بسبب التزامن التاريخي بين القول بالديمقراطية وولادة الليبرالية والعلمانية, فتداخلت المعاني بينهما. والديمقراطية في أدق دلالاتها عنده, هي طريق وسبيل الوصول إلى نظام سياسي, وأن إدارة الناس هي التي تحدد أسلوب الحكم, وشكل الحكومة. وهذا قد أدى في الغرب إلى العلمانية والليبرالية, ولابد أن يؤدي في المجتمع الإسلامي إلى شكل يساير فكر الناس الإسلامي. ثانيا: ليس هناك بديل عن الديمقراطية إلا الاستبداد والديكتاتورية. والذين يرفضون الديمقراطية سبيلا فإنهم يدعون إلى الديكتاتورية والقهر, وهو ما ابتليت به المجتمعات الإنسانية على مدى اثني عشر قرنا. وإذا لم نحترم ونرغب في سبيل الديمقراطية, فلن يكون أمامنا سوى التمسك بالحكم عن طريق القوة والتسلط. ثالثا: أن الديمقراطية كإنتاج بشري وأسلوب بشري تنتقد بكثرة, وفيها نقاط ضعف, وكل أمر بشري يكون هدفا للنقد. وإذا كان للديمقراطية سلبيات لكن سلبياتها تبدو اقل ضررا من سلبيات الأنظمة الديكتاتورية, ويمكن للديمقراطية أن تحل مشكلاتها وتحسن من صورتها عن طريق التجربة وملاحظة الأخطاء. رابعا: أن الديمقراطية تنسجم مع الدين, ولا تتنافى طريقا أو سبيلا مع الإسلام ولا تتعارض معه, ولا نعرف بديلا إنسانيا عن الديمقراطية. وذلك بعد ملاحظة دواعي الواقعية, ورعاية المصالح, وفهمنا العام للإسلام, وإذا لم نكن متحجرين ومتعصبين, وكنا نعيش في زماننا, ونعي أن الفكر قد تطور وتحول, وأنه لا يمكن حبس الأفكار في سجن من حديد, لهذا كله لن نجد عنئد طريقا سوى الديمقراطية.(18) هذه بعض التصورات التي تكشف عن المنحى الجديد الذي أخذ يسلكه الفكر الإسلامي في أحد أهم خطاباته تنورا واعتدالا, وقد بات هذا المنحى يستقطب نخبة كبيرة ومميزة من المثقفين والمفكرين والأكاديميين العرب والمسلمين. ويعد هذا المنحى أفضل من قدم رؤية جديدة للديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر, وأفضل من يمكن الرجوع إليه في تكوين المعرفة بهذه المسألة المعقدة والملتبسة في النطاق الإسلامي. ويمكن القول أن هذا المنحى في الفكر الإسلامي هو أقرب لروح الفكر الإسلامي في عصر حركة الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي. كما أنه هو الأقدر أيضا على مواكبة العصر, والتواصل مع العالم, والأقدر كذلك على إنجاز مهمة التجديد في الفكر الإسلامي, وهذا الاقتراب من الديمقراطية ليس هو نهاية التجديد, بل هي بدايته
| |
|