الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى اسلامي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-16-

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الداعية جنة الفردوس
Admin
Admin
الداعية جنة الفردوس


عدد المساهمات : 4517
جوهرة : 13406
تاريخ التسجيل : 03/01/2013

أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-16- Empty
مُساهمةموضوع: أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-16-   أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-16- I_icon_minitimeالأربعاء مايو 29, 2013 12:29 am


أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-16-
77 ـ قد يَثْبُتُ الشيءُ لغيرِهِ تَبَعْ***وإنْ يكنْ لوِ استَقَلَّ لامْتَنَعْ

قوله: (قد) : هنا يحتمل أن تكون للتحقيق، ويحتمل أن تكون للتقليل، والمراد الأول يعني: أن الشيء يثبت لغيره تبعاً، لكن بشرط أن تتحقق التبعية، فإذا تحققت التبعية تحقق الإتباع.

وقوله: (تبع) : حال من فاعل (يثبت) وسكَّنها، مع أنها منصوبة، لأجل القافية، وكذلك وفقاً للغة ربيعة الذين يقفون على المنصوب بالسكون.

وهذه القاعدة وهي أن الشيء قد يثبت تبعاً لغيره مع أنه لو استقل لكان حراماً قد نَصَّ عليها الفقهاء رحمهم الله، فقالوا: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وللقاعدة أمثلة كثيرة منها:

ـ اللبن: بيعه في الضرع حرام؛ للجهالة، ولعدم التمكن التام من استيفائه، فلا يحل بيعه. لكن لو باع شاة لبوناً، يعني فيها لبن، فإنه يجوز، فيكون صحة العقد على اللبن تبعاً.

ـ رجل باع شاة فيها لبن، بإناء كبير مملوء لبناً فهل يجوز بيع اللبن باللبن متفاضلاً؟ نقول: لا يجوز، ولكن هنا يجوز مع أن اللبن في الضرع أقل من اللبن الذي في هذا الإناء الكبير، لأن اللبن صار تبعاً.

ـ ومن ذلك تبعية الإنسان لأبويه في الدِّين، فإن الولد يثبت إسلامه تبعاً لوالديه وإن لم ينطق بالإسلام، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[(372)].

ـ ومثّل الناظم بقوله:

78 ـ كحاملٍ إنْ بِيعَ حملُها امْتَنَعْ***ولو تُباعُ حاملاً لم يَمْتَنِعْ

قوله: (حامل) : سواء كان حَمْلَ أمة أو بعير أو شاة أو بقرة أو غير ذلك، فلو أنه باع الحمل وحده لكان هذا حراماً، والبيع باطلاً لأن فيه غرراً، لكن لو باع الأم وفيها هذا الحمل، صار البيع صحيحاً لأن الحمل صار تبعاً لها أي حزءاً من أجزائها. ولهذا لو قال: بعتك هذه الشاة وحملها لم يصح البيع لأنه أفرده عن أمه حيث عطفه عليها والعطف يقتضي المغايرة، أي أن المعطوف غير المعطوف عليه والمغايرة تكون بالعين كقولك: جاء زيد وعمرو، وتكون بالصفة كقوله تعالى: {{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى }} [الأعلى: 1 ـ 4] .

قوله: (حاملاً) حال من نائب الفاعل المستتر في قوله: (ولو تباع) ، يعني: لو تباع حال كونها حاملاً لم يمتنع، ولا يصح المعنى لو جعلت (حاملاً) نائب الفاعل.

ـ ومثل ذلك ثمر النخل؛ فبيع ثمر النخل وحده لا يجوز، حتى يبدو صلاحه كأن يَحْمَر، أو يصفر، وبيع النخل وعليه الثمر ولو قبل بدو صلاحه جائز.

أما الأول، فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها»[(373)]، وهو بأن تحمر، أو تصفر.

وأما الثاني، فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع»[(374)]؛ فمفهومه أن الثمرة قبل أن تؤبر تكون للمشتري، تبعاً لبيع أصلها، مع أنها لم يبدُ صلاحها بعد.

مسألة: هل يجوز بيع الثمرة لمالك الأصل قبل بُدُوِّ صلاحها؟

الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، ومثال ذلك أن يبيع الفلاح نصيبه من الثمرة على صاحب الشجرة، مثل أن يكون الفلاح قد عامل صاحب النخل بنصف الثمرة، ثم بدا للفلاح ألا يستمر في العمل، وباع نصيبه من الثمرة على صاحب الأصل، فمن العلماء من قال: إن هذا جائز، لأنه باع الثمر على صاحب الأصل، ومنهم من قال: إنه ليس بجائز، وهذا هو الحق، لأن نصيب العامل مستقل، ولم يملكه صاحب الأصل من جهته، بخلاف ما إذا اشترطه المشتري الذي اشترى الأصل، وهو عليه الثمر.

79 ـ وكلُّ شرطٍ مُفسدٍ للعقدِ***بذكرِهِ يُفسدُه بالقصدِ

وهذه أيضاً من القواعد المهمة.

كل شرط يُفْسِدُ العقدَ إذا ذكر فيه، فإنه يفسده أيضاً إذا نوي. يعني أن النية تقوم مقام النطق.

ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»[(375)].

مثال ذلك: التحليل: فالمطلّقة ثلاثاً، لا تحل لمطلقها حتى يتزوجها زوج آخر ويجامعها، لقوله تعالى: {{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}} [البقرة: 230] . تنكح بمعنى تجامع.

فلو أن امرأةً طُلَّقت ثلاثاً من زوجها، فقام أهلها بتزويجها، وشرطوا على الزوج الثاني أن يطلقها إذا فعل ما يحللها لزوجها الأول، فرضي بهذا الشرط، فهنا الشرط باطل ومفسد للعقد ولا تحل لزوجها الأول بهذا العقد، لأنها تزوجت بعقد فاسد، والفاسد لا حكم له في نفسه، فضلاً عن غيره.

ولو أن الزوج الثاني نوى التحليل بدون علم الزوجة وأهلها، فالعقد أيضاً فاسد[(376)]، وذلك لأنه نوى ما يفسد العقد. فكل ما يفسد العقد بالذكر يفسده بالقصد.

ـ ومن ذلك، على المذهب، لو أن إنساناً تزوج بِنِيَّة الطلاق بعد شهر، فالنكاح باطل[(377)]؛ لأنه لو شرط أن يكون النكاح مؤقتاً بالشهر لكان هذا الشرط مفسداً للعقد، فإذا كان هذا الشرط مفسداً للعقد، كانت نيته ـ أيضاً ـ مفسدة للعقد، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».

ـ ومن ذلك أيضاً: لو أن إنساناً اشترى سلاحاً، واشترط أن يقاتل به المسلمين، فهذا الشرط باطل ومفسد للعقد، لكن لو نواه بدون شرط، كان العقد فاسداً فيما بينه وبين الله، وإن كان في الظاهر لا يفسد، فيما لو تحاكموا عند القاضي، ولهذا قال الناظم ممثلاً لذلك:

80 ـ مثلُ نكاحِ قاصدِ التحليلِ***ومَنْ نَوَى الطلاقَ للرَّحِيلِ

قوله: (مثل نكاح قاصد التحليل) : وهو المُحَلِّل يعني الذي يتزوج امرأة طلقها زوجها ثلاثاً، بنية أنه متى فعل ما تحل به للأول طلقها، فبمجرد النية يبطل النكاح، وإن لم يشترط ذلك، ومثال آخر ذكره بقوله:

(ومن نوى الطلاق للرحيل) : أي عند رحيله. واللام تأتي بمعنى عند كما في قوله تعالى: {{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}} [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس على أحد الاحتمالات.

(ومن نوى الطلاق للرحيل) يعني من تزوج في سفره ونوى أنه إذا رحل عن هذا البلد طلق، فيكون نكاحه بالنية، أنه متى رحل طلق؛ فهو في الواقع نكاح مؤقت، لكن لا بالشرط، بل بالنية، فيكون النكاح فاسداً، كما لو شرط عند العقد أن يطلقها إذا رجع لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات».

وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يحل به فرج المرأة، ولا يقع التوارث فيه، ولا يلحقه النسب، إذا كان الرجل عالماً بفساده.

وفي المسألة خلاف؛ فمن العلماء من قال: إذا تزوج الغريب بنيَّة الطلاق فلا حرج، وفَرَّق بينه وبين نكاح المتعة، بأن نكاح المتعة قد شرط فيه الفراق بعد انتهاء الأجل، فينفسخ النكاح بانتهائه، رضي أم لم يرض، وأما هذا فلم يشترط فيه الفراق، وربما يرغب في المرأة ويبقيها معه حتى بعد أن يسافر.

ولكن يقال: نعم، هذا فرق مؤثر إلا أنه فيه علة تمنعه، وهي الغش للزوجة وأهلها، لأن أهلها لو كانوا يعلمون أنه لا يريد أن يتزوجها إلا إلى مدة مكثه في بلدهم لم يزوجوه، فعلى هذا يكون هذا من باب المكر والغش والخداع، ولو أخبرهم أنه سيطلق عند رحيله وزوجوه على ذلك صار نكاح متعة.

ثم إنه يجب سد الباب في هذه المسألة سداً منيعاً، لأنه وجد من السفهاء الذين لا يبالون بممارسة الفاحشة، عياذاً بالله، من يذهب لبلاد الخارج ليتزوج بهذه النية، وليس له غرض إطلاقاً إلا أنه يتزوج بنية الطلاق إذا عاد، ولهذا يتزوجون عدة مرات في خلال ثلاثة شهور.

فهذه المسألة حتى لو قلنا بجوازها مع ما فيها من غش وخداع، فإنه يجب سد الباب، لئلا يكون ذريعة إلى السفر للزنى، نسأل الله العافية.

بل إن هذه المسألة لا تدخل تحت الخلاف الذي فرضه أهل العلم قطعاً، لأن المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد، والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوج، إنما سافر لحاجةٍ: طلب علم، أو مال، أو غير ذلك، واحتاج إلى النكاح فتزوج. أما هؤلاء فقد قصدوا من الأصل أن يذهبوا إلى البلد ليتزوجوا بنية الطلاق.

81 ـ لكنَّ مَنْ يجهلُ قصدَ صاحِبِهْ***فالعقدُ غيرُ فاسدٍ مِنْ جانبِهْ

هذا استثناء جيد، يعني من لا يعلم نية صاحبه فالعقد في جانبه صحيح، لأنه ليس له إلا الظاهر.

فإذا جاء إنسان يتزوج امرأة مطلقة ثلاثاً، وزوجه أبوها وهو لا يدري أنه محلِّل فليس عليه إثم، والنكاح في حقها صحيح، ولو مات هذا المحلِّل ورثته زوجته واعتدت له، لأن النكاح في حقها، حيث كانت جاهلة، صحيح.

ولو طلقها هذا المحلِّل وبقيت على عدم علمها بالتحليل، حلت للزوج الأول.

وكذلك لو أن شخصاً باع على رجل آخر سلاحاً، وكان المشتري يريد أن يقتل به نفساً مُحَرَّمة، فالعقد في حق المشتري محرم وباطل، لكنه في حق البائع الذي لايدري، حلال وصحيح.

وكذلك أيضاً يقال: فيمن تحيل على الربا وقصد الربا عن طريق الحيلة، وصاحبه الذي عامله لم يعلم بذلك، فإنه يكون حراماً في حق من تحيل، غير حرام في حق من لم يعلم. وعلى هذا فقس.

ولهذا نقول: إن هذا الاستثناء لا بد منه، وأن من يجهل قصد صاحبه، فالعقد غير فاسد من جانبه.

دليله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أقضي بنحو ما أسمع»[(378)] وما لا يسمعه الإنسان ليس مكلفاً به، ونحن عللنا بتعليل آخر وهو:

82 ـ لأنه لا يَعلمُ الذي أَسَرّ***فأُجْرِيَ العقدُ على ما قد ظَهَرْ

قوله: (لأنه) : أي الطرف الثاني.

(لا يعلم الذي أسر) : يعني الطرف الأول، أي لا يعلم أنه أسر التحيل وهي النية المبطلة للعقد.

(فأجري العقد على ما قد ظهر) : يعني أجري العقد على الظاهر، وظاهر العقد صحيح.

مثاله رجل خطب امرأة وتزوجها، وتم العقد والدخول. فظاهر العقد أنه صحيح، لأنه لا يعلم السر إلا عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى. فالأحكام في الدنيا تجرى على ظاهرها، ما لم يتبين خلاف ذلك، فإن تبين خلاف ذلك عمل بما يقتضيه ذلك التبين. أما في الآخرة فتجرى على البواطن لقوله تعالى: {{أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ *وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ *}} [العاديات: 9، 10] ولقوله تعالى: { {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ *}{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ *}} [الطارق: 8، 9] .

مسألة: من نوت تحليل نفسها لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثاً، بأن تزوجت آخر، فنكدت عليه ليطلقها، هل يصح نكاحها هذا؟

والجواب أن نقول: فيه خلاف بين العلماء، منهم من قال: مَنْ لا فُرْقَةَ بيده لا أثر لنيته، والمرأة لا فرقة بيدها فلا أثر لنيتها، وكونها تنكد عليه يمكن للزوج أن يقول لها: أنت ناشز، فينكد عليها، ويقول: امكثي في بيت أهلك حتى ترجعي إليّ فَيُفَوت عليها المقصود.

لكن بعض العلماء قال: لو توصلت إلى إيذائه حتى طلقها، فإنها لا تحل لزوجها الأول، من باب معاقبتها بنقيض قصدها.

وهذا من باب السياسة الشرعية، والسياسة الشرعية ليس لها حدود، ما لم تخالف الشرع، لأن المقصود بها الإصلاح، حتى إن عمر رضي الله عنه منع الزوج من حق الرجعة ردعاً للتمادي في المحرّم، حيث كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما الطلاق الثلاث واحدة[(379)]، يعني قول الرجل لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، يكون الطلاق واحدة. وهو محرّم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لما بلغه أن ناساً فعلوا ذلك قام خطيباً وقال: «أَيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم»[(380)] حتى استأذن أحد المسلمين أن يقتل هذا المطلِّق.

فلما كثر هذا في الناس في زمن عمر، رأى بحكمته وسياسته أن يلزم الرجل بما قال، وهو تعجل البينونة، فأمضى الطلاق الثلاث عليه.

وهذا من السياسة الحكيمة، وقيّض الله جمهور الأمة للقول بما قضى به عمر، وهذا مما يدل على صواب هذا الاجتهاد، ولكنه على سبيل العقوبة؛ إن احتيج إليها نفذت، وإلا رجعنا إلى الأصل وهو أن الطلاق الثلاث واحدة.

83 ـ والشرطُ والصلحُ إذا ما حَلَّلا***مُحَرَّماً أو عكسُه لنْ يُقْبَلا

(ما) : زائدة، كما قال الراجز:

يا طالباً خذ فائده***ما بعد إذا زائده

ومن ذلك قوله تعالى: {{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}} [الشورى: 37] . أي: وإذا غضبوا، وقوله تعالى: {{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}} [فصلت: 20] . أي: حتى إذا جاؤوها.

وقوله: (لن يقبلا) : خبر قوله: (والشرط والصلح) : وجواب (إذا) محذوف، دل عليه ما ذكر في قوله: (لن يقبلا): وقيل: إن الشرط في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب.

والمعنى أن الشرط بين المتعاقدين جائز ونافذ ومقبول، أي شرط كان إلا ما أحلّ حراماً أو حرم حلالاً، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] والأمر بالوفاء بالعقد، يشمل الوفاء بأصله ووصفه، ووصفه هي الشروط التي تشترط فيه فيجب الوفاء بها، وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً وحرم حلالاً».

ـ فإذا باع شخص عبداً على إنسان، وقال: أشترط عليك أن لا تنقل ملكه لأحد، لا ببيع ولا هبة، ووافق، فهل يلزم الشرط أو لا يلزم؟

نقول: يصح الشرط، وليس فيه محذور، لأن البائع قد يكون له غرض في هذا الشرط، وذلك أن العبد عنده غالٍ في نفسه ويحبه، ولولا أن المشتري صاحب له وغالٍ عليه ما باعه عليه، فيقول له: أشترط عليك ألا تنقل ملكه لا ببيع ولا هبة، فإذا قال: نعم، لزم الشرط، وحرم على المشتري أن ينقل ملكه إلى غيره، لأنه التزم به.

ـ وإذا باعه داره واشترط عليه أن يسكنها لمدة سنة جاز، لأن هذا الشرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وللمتعاقدين فيه مصلحة؛ حيث إن البائع انتفع بسُكنى الدار سنة، والمشتري انتفع بنزول الثمن، لأن البائع إذا اشترط أن يسكنها سنة لا بد أن تنقص القيمة، فيكون كل منهما انتفع وليس فيه محذور.

وقد جاءت السنة بمثل هذا الشرط، فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما باع على النبي صلّى الله عليه وسلّم جملاً له في أثناء السفر، واشترط على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحمله أي يحمل الجمل جابراً إلى المدينة، فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك الشرط[(381)]، والتزم به، وهذا شرط استبقاء منفعة في المبيع للبائع إلى أمد معلوم.

ـ كذلك لو اشترط البائع على المشتري الذي لم ينقد الثمن، أن يرهنه بيته، قال: أنا أبيع عليك هذه السيارة بثلاثين ألفاً بشرط أن ترهنني بيتك، فلا حرج، لأن الأصل في المعاملات الحل، ويجب الوفاء بهذا الشرط، لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه اشترى من يهودي طعاماً لأهله، وهو في المدينة، ورهنه درعه»[(382)].

ومثل ذلك: أن يبيع شيئاً على شخص بثمن، واشترط المشتري أن يكون مؤجلاً إلى سنة، سواء كان يحل دفعة واحدة، أو على دفعات، فهذا جائز، ولازم، وهو داخل في قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}} [البقرة: 282] .

والخلاصة: أن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما خالف الشرع.

مثال ما خالف الشرع:

ـ لو أن رجلاً باع أَمَةً واشترط الاستمتاع بها لمدة سنة، فهل يجوز هذا؟ نقول: لا، لأنه أحلّ حراماً، والحرام هنا أن هذه الأَمَة لما انتقل ملكها، صار الذي يستمتع بها سيدها الثاني، لقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *}} [المؤمنون: 5 ـ 7] .

ـ رجل باع عبداً واشترط على المشتري أنه إذا أعتقه فولاؤه له؛ أي للبائع فهل يصح أو لا؟

نقول: لا يصح، لأنه أحلّ حراماً، وعطّل حقاً ثابتاً: «فإنما الولاء لمن أَعْتَق»[(383)]؛ كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أراد أن يجعل الولاء لغير المُعْتِق، فيكون هذا الشرط قد أحل حراماً، وأسقط حكماً ثابتاً، فلا يكون مقبولاً.

ـ كذلك المصالحة بين الطرفين الأصل فيها الحل، وأنهما إذا اتفقا على أي شيء في الصلح فهو جارٍ ولازم، إلاّ إذا أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً.

كما لو تنازع رجلان في عين، فقال أحدهما: هذه لي، وقال الآخر: بل هي لي، ثم اصطلحا على أن تكون بينهما نصفين، فإن الصلح يصح، إلا إذا كان أحدهما يعلم أنه مبطل في دعواه، فالصلح في حقه باطل، لأنه به أحلَّ حراماً، مثل أن يكون المدعي يعلم أنها ليست له، ولكن يعلم أن هذا الرجل خجول حيي ولا يريد أن يطالب أحداً، ويعلم أنه إذا ادَّعى عليه أنها له، فإنه سوف يخضع للمصالحة، فهذا حرام على المدعي لأنه انتهك بهذا الصلح حرمة المسلم، واستحل ماله، فلا يصح.

ـ لو أن رجلاً استدان من آخر مائة ألف فاصطلح المدين مع الدائن على أن يمهله مدة مقابل زيادة في الدين، فلا يحل هذا الصلح لأنه صلح على ربا.

ـ امرأة لها زوج وخافت أن يطلقها، فاصطلحت معه على أن تسقط النفقة عنه، فهل يصح؟

نقول: نعم، يصح، لأن هذا لم يحلّ حراماً ولم يحرم حلالاً، النفقة لها، فإذا رضيت بإسقاطها على أن تبقى مع زوجها فالحق لها.

ـ رجل له امرأتان اصطلح مع إحداهما أن تبقى عنده بدون قَسْم ـ أي: لا يبيت عندها ـ، فهل يصح؟

نقول: نعم، يصح، لأن الحق لها، وقد أسقطته. فهذا الصلح لم يحلّ حراماً ولم يحرم حلالاً فيصح.

ـ ومن ذلك على القول الراجح لو كان لإنسان دين على آخر، مقداره عشرة آلاف يَحِلّ بعد سنة، فقال المطلوب لصاحب الدين: أصالحك على نصف المبلغ، وأنقده لك الآن، فوافق على ذلك، فلا حرج، لدخوله في عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»[(384)]. وهذا الحديث وإن كان قد تُكُلِّم فيه، فإنه ربما يؤخذ من عموم قول الله تبارك وتعالى في الزوجين: {{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}} [النساء: 128] وليس فيه محذور ربا، لأن غاية ما فيه إسقاط وإبراء باختيار، فمحذور الربا فيه بعيد، بل ليس فيه محذور أصلاً، وأما من منعه بحجة أنه ربا، أو وسيلة إلى الربا أو شبيه بالربا صورة فقوله ضعيف.

فالقاعدة: أن جميع الشروط التي تشترط في العقود وجميع المصالحات الأصل فيها الحل والصحة واللزوم، ما لم تناف الشرع، فإن شككنا في ذلك فالأصل الصحة حتى يقوم دليل على أن هذا الشرط أو أن هذا الصلح مخالف للشرع.

فإذا حصلت المنافاة للشرع فإنها لا تصح؛ والدليل على عدم الصحة عند المنافاة للشرع، قوله تعالى: {{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}} [آل عمران: 85] فنفى الله قبول دين من ابتغى غير الإسلام ديناً، كذلك من ابتغى شرطاً غير شرط الإسلام أو صلحاً غير صلح الإسلام فإنه لا يقبل منه، ويرد.

وفي السنة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(385)] وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»[(386)].

والمعنى يقتضي ذلك؛ إذ كيف نصحح ما نهى الله عنه، لأن تصحيحنا لما نهى الله عنه، إقرار للمنهي عنه. وهذا محادة ومضادة لله ورسوله.

مسألة: امرأة تقول: زوجي كان قد طلقني طلقة واحدة بالكلام دون ورق، فقال لي في عصبية جنونية: أنت طالق طالق طالق، هل يقع الطلاق نهائياً أم تعتبر طلقة واحدة؟

والجواب أن نقول: إذا كان غضبه شديداً، فإن الطلاق لا يقع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق في إغلاق»[(387)]. والغضب الشديد هو الذي لا يملك الإنسان نفسه عنده بحيث يطلق، وكأن أحداً أكرهه على ذلك، أما إذا كان الغضب عادياً، وطلقها، فإن الطلاق يقع، إذا كانت في طهر لم يجامعها فيه، ولكن كم طلقة تقع؟ نقول: إذا كان لم ينو الثلاث، فإنه لا يقع إلا واحدة قولاً واحداً.

وأما إذا كان نوى الثلاث بقوله: أنت طالق طالق طالق، فمن العلماء من يقول: إن الثلاث تقع، ولا تحل له إلا بعد زوج في نكاح صحيح فيجامعها، ثم يفارقها، ومن العلماء من قال: إن الثلاث واحدة، والخلاف في هذا معروف.

فإن طلقها وهي حائض فإن الطلاق لا يقع، لأنه على غير أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(388)].

مسألة : امرأة اشترطت لنفسها على المتقدم لها أنه لو تزوج عليها فهي طالق، فهل تطلق بمجرد عقده على الثانية أو لها الخيار؟

والجواب أن نقول: أنه على حسب الشرط الذي حصل، فإذا قالت: إن تزوجت فأنا طالق، قال: نعم، واتفقا على هذا ثم عقد عليها وشرط هذا لها فتزوج فإنها تطلق، ولكن لو قالت: فلي الفسخ فهو أحسن حتى يصير الأمر بيدها.

84 ـ وكلُّ مَشْغُولٍ فليس يُشْغَلُ***بمُسقطٍ لما به يَنْشَغِلُ

هذه قاعدة معروفة عند العلماء وهي: أن المشغول بمقتضى عقد لا يصح أن يعقد عليه عقد يبطل العقد الأول ويعبر عنها الفقهاء بقولهم: المشغول لا يُشْغَلُ، ولكن نحن قيّدناها فقلنا: (فليس يشغل بمسقط لما به ينشغل) ، فإن شُغِلَ بما لا يسقط فلا بأس، لكن إذا كان مشغولاً، ثم شغلناه بما يسقط الشغل الأول فإن ذلك لا يجوز.

مثال ذلك:

ـ إنسان رهن بيته عند آخر، نقول: البيت الآن مشغول بالرهن، فهل يمكن أن يرهنه شخصاً آخر؟ نقول: لا يمكن، لأنه لو رهنه لآخر بطل حق الأول، وهذا لا يجوز.

ـ كذلك لو أن إنساناً أَجَّر شيئاً لشخص لمدة شهر، ولما انتصف الشهر أَجَّره المالك لشخص آخر مدة تبتدئ من نصف الشهر الأول، فهذا لا يجوز، لأنهما يتعارضان، إن مَكَّن الثاني من الانتفاع به بطل حق الأول، وإن مَكَّن الأول، بطل حق الثاني، والأول هو السابق، فيكون الحكم له، فإن أَجَّره إياه مدة تبتدئ بعد انتهاء مدة الأول فلا بأس، لأنه لن ينشغل بالإجارة الثانية إلا بعد انتهاء انشغاله بالإجارة الأولى.

ـ إنسان أقرض شخصاً مائة ألف ريال ورهنه المقترض بيته، فإنه يصح، ثم جاءه المقترض مرة أخرى، وقال: أقرضني مائة ألف أخرى، وأرهنك البيت، يعني أجعل الرهن الثاني داخلاً في الرهن الأول، فهل يجوز أو لا؟

نقول: نعم يجوز، لأن الرهن الثاني لا يسقط الرهن الأول، بل هو باق. ولهذا كان القول الراجح: أنه يجوز الزيادة في دَيْن الرهن، يعني إذا رهنته بمائة فلك أن ترهنه بمائتين أيضاً للمرتهن الأول إذا رضي المرتهن بذلك لأن الحق له، وعليه عمل الناس، وذلك لأن هذا الشغل الأخير لا يسقط الشغل الأول.

ـ وكذلك لو أَجَّر الراهن رهنه صح ذلك، لأن التأجير لا يسقط حق المرتهن من الرهن، وتكون الأجرة تابعة للرهن.

ـ إنسان عزم على أن يؤجر بيته لمدة سنة لشخص، ثم يبيعه، أي: يبيع البيت بعد نصف السنة لشخص غير المستأجر، فالبيع صحيح، لأن البيت لن ينشغل بالبيع، إذ إن حق المستأجر سابق، ويبقى المستأجر في البيت المبيع حتى تتم مدة الإجارة، ولكن في هذه الحال يجب على البائع أن يخبر المشتري، بأن البيت مستأجر لمدة كذا وكذا، حتى يدخل على بصيرة، فإن لم يفعل، فللمشتري الفسخ إذا علم، لأنه سوف يُفَوِّت عليه الانتفاع بالمبيع مدة بقاء الإجارة، وللمشتري قسطه من الأجرة من حين الشراء إلا بشرط.

إذاً المشغول لا يُشْغَل إذا كان الشغل الثاني يسقط الشغل الأول، وإن كان لا يسقطه فإنه لا يضر لإمكان الجمع.



85 ـ كمُبْدَلٍ في حكمه اجعلْ بَدَلا***ورُبَّ مَفْضُولٍ يكونُ أَفْضَلا

قوله: (كمبدل في حكمه اجعل بدلا) : وهذه قاعدة مشهورة عند العلماء: أن البدل له حكم المبدل، يحل محله ويأخذ حكمه، فإن كان المبدل واجباً كان البدل واجباً، وإذا كان سنة كان البدل سنة وهكذا، وله أمثلة:

ـ الطهارة بالتراب: وهو التيمم، جعله الله تعالى بدلاً عن طهارة الماء عند تعذر استعماله لعدمه أو للتضرر باستعماله فيجعل لهذا البدل حكم المبدل في كل شيء على القول الراجح، فيستباح بطهارة التيمم ما يستباح بطهارة الماء ويرتفع الحدث بطهارة التيمم كما يرتفع بطهارة الماء فإذا تيمّم الإنسان لقراءة القرآن فله أن يصلّي بهذا التيمّم الفريضة والنافلة مع أنه لم يتيمّم لصلاة، لكنه تيمّم يقصد بذلك رفع الحدث. وكذلك لو تيمّم لصلاة الظهر، وبقي على طهارته حتى دخل وقت العصر، فإنه يصلّي بالتيمّم الأول، ولا يبطل تيمّمه بخروج الوقت، وكذلك لو تيمّم لجنابة، فإنه لا يلزم إعادة التيمّم عنها، حتى يجنب مرة أخرى.

مثال ذلك: رجل استيقظ من نومه ليلاً، فوجد عليه جنابة، فتيمم لها لصلاة الفجر، ثم دخل وقت الظهر فلا يلزم التيمّم عن الجنابة، لكن يلزمه التيمّم عن الحدث الأصغر إن كان قد انتقض وضوؤه في هذه المدة ما بين الفجر والظهر.

مثال ثان: رجل تيمّم لصلاة الضحى، وصلى وبقي لم يحدث حتى دخل وقت صلاة الظهر، فإنه يصلي الظهر بتيممه لصلاة الضحى، لأن البدل له حكم المبدل، وهو لو توضأ لصلاة الضحى، وبقي على طهارته حتى دخل وقت صلاة الظهر، صلى الظهر بلا إعادة وضوء، ويدل لهذا في مسألة التيمم قول الله تبارك وتعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}} [المائدة: 6] فبيّن الله عزّ وجل في هذه الآية أن التيمّم مُطَهِّر، فيفعل مَنْ تيمم لحدثٍ ما يفعله المتوضئ والمغتسل، ولا فرق.

لكن لو تيمم عن جنابة ثم وجد الماء، وجب عليه أن يغتسل، ولذلك دليلان:

الدليل الأول: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء، فليتق الله وليمسه بشرته»[(389)].

الدليل الثاني: ما رواه البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما في حديث طويل في قصة الرجل الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اعتزل القوم، فلم يصل، فسأله فقال الرجل: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: «عليك بالصعيد، فإنه يكفيك»، ثم بعد ذلك جاء الماء، واستقى الناس، وبقي منه فضلة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجل: «خذ هذا ـ يعني: الفضلة ـ فأرقه على نفسك»[(390)].

وهذا دليل واضح على أن التيمم يبطل إذا وجد الماء، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على ذلك[(391)]، وإن كان بعض المتأخرين ذكر فيه خلافاً.

ـ لو أن رجلاً نذر أن يذبح بعيراً تقرّباً إلى الله عزّ وجل ولكنه لم يجد البعير، فذبح بدله سبع شياه، كان ذلك كافياً ومجزئاً، ويكون حكم هذه الشياه حكم البعير. وكذا في الأكل لو نذر أن يذبح سبع شياه فذبح بعيراً أجزأه، على خلافٍ في هذا.

ـ إنسان عَيَّن أضحية ثم أتلفها عمداً، فيجب عليه بدلُها، ويكون هذا البدل له حكم المبدل. ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيمن ذبح قبل الصلاة: «فليذبح أخرى مكانها»[(392)].

ـ وكذلك النقود الورقية، جُعلت بدلاً عن النقود المعدنية من ذهب أو فضة أو غيرها فيكون لها حكم المبدل.

ولهذا كان القول الراجح في هذه النقود الورقية أنه يجري فيها ربا النسيئة، وكذلك ربا الفضل إذا كانت من جنس واحد.

وأما إذا كانت من جنسين، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»[(393)].

ولهذا أفتينا بجواز أخذ تسعة ريالات من المعدن، بعشرة ريالات من الوَرَق، وذلك لاختلاف الجنس؛ فهذا ريال حديد، وهذا ريال وَرَق.

ـ إذا تلف المرهون بفعل الراهن، يجب عليه أن يعوض بدلاً عنه، توثيقاً لحق المرتهن، ويكون هذا الأخير حكمه حكم الأول، لأن البدل له حكم المبدل.

مسألة: هل يجزئ البعير عن سبع عقائق؟ يعني لو ولد للإنسان ثلاثة أبناء وبنت فلهم سبع شياه ست للأبناء الثلاثة، وواحدة للأنثى، فذبح بعيراً، فهل يجزئ؟

الجواب: لا يجزئ، لأن العقيقةَ فداءُ نفسٍ بنفسٍ، وأيضاً لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه عق بالبعير، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن العقيقة بالشاة أفضل من العقيقة بالبعير[(394)].

قوله: (ورب مفضول يكون أفضلا) : هذه أيضاً من القواعد. (رب) تأتي للتقليل وللتكثير، وكونها للتقليل كثير، وهو المراد هنا؛ لأن الغالب أن الفاضل هو الأفضل، والعبادات لا شك أنها تتفاضل فجنس الفرض أفضل من جنس النفل، وجنس الصلاة أفضل من غيرها من العبادات لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل لسبب يقتضي ذلك، والأمثلة على هذا كثيرة:

ـ إيقاع الراتبة القبلية قبل الصلاة أفضل من إيقاعها بعد الصلاة، بل إنه إذا تعمد تأخيرها حتى صلى الفريضة، فإنها لا تقبل منه، لأنه أخرجها عن وقتها بلا عذر.

لكن إذا كان مشغولاً بعلم يلزم منه تأخير صلاة الراتبة إلى ما بعد الصلاة المكتوبة، فنقول: هنا المفضول صار أفضل؛ فالمفضول تأخير الراتبة إلى ما بعد الصلاة، والأفضل تقديمها قبل الصلاة، لكن نقول هنا: صار المفضول أفضل لوجود مصلحة.

ـ كذلك الإبراد في صلاة الظهر: فالأفضل في الصلاة تقديمها في أول الوقت، لكن إذا اشتد الحر فالأفضل الإبراد. فالمفضول هنا أفضل من الفاضل.

ـ وكذلك صلاة العشاء: الأفضل فيها التأخير، فإذا شق فالأفضل التقديم.

ـ لو أن إنساناً في مكة دار الأمر بين أن يطوف أو يصلّي، وهو من الآفاقيين، فالعلماء يقولون: اشتغال الآفاقي بالطواف أفضل من اشتغاله بالصلاة؛ حيث لا يتيسر له أن يطوف في غير بيت الله الحرام، وأما الصلاة فيمكن أن يصليها في بلده[(395)].

فإذا قدَّرنا أنه إذا طاف حصل زحام، فإننا نقول له: إذا كان هناك زحام فترك الطواف أفضل، لأجل مصلحة التخفيف على الطائفين.

ولهذا تجدون الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين قدم مكة في حجة الوداع، لم يطف إلا ثلاثة أطوفة، وهي أطوفة النسك: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. مع أنه بقي في ظاهر مكة أربعة أيام قبل الذهاب إلى منى، ولو شاء لنزل وطاف، لكنه عليه الصلاة والسلام ترك ذلك ليتسع المطاف لمن لم يطف.

ـ ولو دعا شخص رجلاً إلى وليمة عرس والمدعو صائم وحضر، فهنا أمامه ثلاثة أشياء، إما أن يفطر ويأكل فيحصل به جبر قلب صاحبه، وإما أن يمتنع عن الأكل، فلا يكون صاحبه ممنوناً بذلك، وإما أن يمتنع عن إجابة الدعوة وهذا أشد، فهنا نقول: احضر وكُلْ، ولو بطل صيامك، فالفطر هنا أفضل مع أنه في الأصل مفضول.

ـ ومثل ذلك لو دار الأمر بين أن يصلّي الإنسان، وهو يدافع الأخبثين في أول الوقت أو يقضي حاجته ويصلّي في آخر الوقت، فهنا الصلاة في آخر الوقت أفضل من الصلاة في أول الوقت، مع أن الأصل أن الصلاة في أول الوقت أفضل.

ـ وربما نقول: إن مثل ذلك لو دخل المسجد رجلان، وليس في الصف إلا محل رجل واحد، فهل الأفضل أن يتقدم أحدهما لهذا المكان ويصلّي الآخر منفرداً خلف الصف مع اختلاف العلماء في صحة صلاته في هذه الحال، أو الأفضل أن يصلّي مع صاحبه؟ نقول: الأفضل أن يصلّي مع صاحبه، لئلا يوقع صاحبه في حرج، أو في فساد صلاته على القول المرجوح، وإنما قلنا «على القول المرجوح»، لأن القول الراجح أنه إذا لم يجد الإنسان مكاناً في الصف صلى خلف الصف وحده مع الإمام، ولا حرج عليه، ولا ينبغي أن يجذب شخصاً من الصف ليصلّي معه، بل لو قيل: لا يجوز لكان له وجه، ولا ينبغي أن يتقدم ويصلّي مع الإمام يعني: إلى جنب الإمام، بل قد نقول: إنه مكروه، لأنه يستلزم مخالفة السنة في انفراد الإمام بمكانه، وربما يحصل فيه أذية في تخطي الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام، وحينئذٍ يصلّي وحده خلف الصف ولا حرج عليه.

وهذا لا شك أن له حظاً كبيراً من النظر، لأن هذا الرجل الذي وجد الصف تاماً تعذّر عليه القيام في الصف حساً، فيجوز له أن يصلّي وحده، كما يجوز للمرأة أن تصلّي وحدها خلف صف الرجال، لتعذر مقامها مع الرجال شرعاً.

ـ قراءة القرآن أفضل من الذكر عموماً، لكن إذا أَذَّنَ المؤذن فإجابته أفضل من قراءة القرآن، لأن الأذان له وقت خاص وضيق يذهب سببه، أما قراءة القرآن فوقتها موسع لا تفوت.

وبهذه القاعدة نعرف كيف نُوَجِّه أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلاً: يحث على اتباع الجنازة وتمر به الجنازة فلا يتبعها، وذلك لاشتغاله بما هو أفضل كتعليم الأمة وإرشادها.

كذلك نجد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يلتزم صيام الأيام البيض، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، لا يبالي أصامها في أول الشهر أو وسطه أو آخره[(396)]، وذلك لأنه قد يكون له أشياء تشغله عن صيام أيام البيض.

ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: (كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم)[(397)]، وكذلك في القيام؛ لأنه يفعل ما هو أنفع وأصلح، فيكون المفضول فاضلاً.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://eldaaia-gantelfrdous.yoo7.com
 
أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-16-
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 3- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 4- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 5- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 6- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الداعية جنة الفردوس :: العلوم الشرعية :: علم الفقه-
انتقل الى: