الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى اسلامي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-9- ح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الداعية جنة الفردوس
Admin
Admin
الداعية جنة الفردوس


عدد المساهمات : 4517
جوهرة : 13406
تاريخ التسجيل : 03/01/2013

منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-9-     ح Empty
مُساهمةموضوع: منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-9- ح   منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-9-     ح I_icon_minitimeالأربعاء مايو 29, 2013 12:02 am

[b]
أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-9-
مسألة: إذا صام الرجل، ثم بعد أن انتهى من صيامه شك:
====================================================
هل نوى القضاء أو النفل، إذا كان عليه قضاء، ومن عادته أن يصوم الثلاث البِيض، ولم يتيقن؛ فهل صوم هذا للثلاث البيض أو للقضاء؟

والجواب أن نقول: هذه قرينة تؤيد أن صومه كان للبِيض، ما دامت هي عادته، والقضاء ليس على الفور فهنا يحمل على ما اعتاده.

مسألة: إنسان صار يحدّث نفسه: أَطَلَّقَ أو لم يطلّق زوجته، فقال: أطلقها وأستريح، فطلقها، فهل يقع طلاقه؟

والجواب أن نقول: إن كان مريداً للطلاق طَلُقَت، وإن كان من ضغط الوسواس عليه فإنها لا تطلق، وهنا طلّق: يريد أن يستريح فلا تطلق، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق في إغلاق»[(208)]. ولهذا ذكر كثير من العلماء أن طلاق الموسوس لا يقع بناءً على هذا.

مسألة: رجل أصيب ابنه بوسوسة عظيمة في الوضوء، فأفتاه بترك الصلاة لمدة شهر وبعد نهاية الشهر شفي ابنه من هذا الوسواس، فهل عليه شيء وهل على ابنه قضاء؟.

نقول: هذه الفتوى غير صحيحة لأنه أفتاه بترك ما هو واجب عليه، وفرض من فروض الإسلام، لكن من رحمة الله به أن شفى ابنه.

والواجب أن ينصح هذا الابن بترك الوسواس ويقف عنده من يعينه حين الوضوء، حتى إذا أتم الثلاث قال له: قف. وهذا وإن كان فيه مشقة لكن تُحْتَمَل للعلاج، والإنسان قد يثاب بعمل لا يختاره.

وعلى هذا الوالد أن يتوب إلى الله تعالى مما أفتاه به، وأن لا يعود لمثله، وأن لا يقدم على الفتوى إلا بعلم؛ لأن الإقدام على الفتوى بلا علم أمره خطير، لأنه يكون ممن افترى على الله الكذب، وقال على الله ما لا يعلم، وقد قال الله عزّ وجل: {{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}} [الأعراف: 33] وقال تعالى: {{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ *}} [يونس: 69] وقال تعالى: {{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}} [النحل: 105] أما بالنسبة لقضاء ما فات ابنه من الصلوات في الشهر فالاحتياط أن يقضي.

مسألة: أنا شاب أطلب العلم ولله الحمد، وأحرص على إخلاص النية لله بقدر المستطاع، ولكن ينتابني شعور بأني لا أخلص لله عزّ وجل، مع أني أستغفر الله ليلاً ونهاراً، وأدعوه أن يوفقني للإخلاص، والآن ينتابني خوف من هذا الأمر وجّهوني جزاكم الله خيراً؟

نقول: هذا من وساوس الشيطان، والشيطان عدوٌّ لنا كما قال ربنا عزّ وجل: {{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}} [فاطر: 6] . الشيطان يأتي الإنسانَ الحريصَ على الطاعة من هذا الباب، يقول: أنت إنما صلّيت رياء، إنما طلبت العلم رياء، إنما طلبت العلم للراتب، إنما طلبت العلم للمرتبة، ويفسد عليه عبادته بمثل هذه التقديرات، فليستعذ بالله ولينته، ولا يضره ذلك شيئاً، ويأتي الشيطان للشخص المتهاون فيثبطه عن الطاعة؛ ويقول: لا تفعل هذه الطاعة هذه سهلة، هذه نفل، افعل الطاعة في وقت آخر، أو يهوّن عليه الذنب ويقول: إن الله غفور رحيم، ورحمته سبقت غضبه، وما أشبه ذلك، فهذه من الوساوس الشيطانية التي يجب على الإنسان أن يكف عنها، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

وقد شكا الصحابة رضي الله عنهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «ذاك صريح الإيمان»[(209)]، وأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والانتهاء عن ذلك. فامض في عبادتك، ولو قال لك الشيطان إنك مُراءٍ، أو إنك تريد الدنيا فلا يهمك[(210)].

40 ـ ثم حديثُ النفسِ مَعْفُوٌّ فَلا***حكمَ له ما لَمْ يُؤَثِّرْ عَمَلا

هذا له صلة قوية بالبيتين السابقين.

حديث النفس معفو عنه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به»[(211)]، ولأن في دفعه حرجاً ومشقة لا تأتي بمثلها الشريعة، قال الله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] فلو أن الإنسان يؤاخذ بما تحدثه به نفسه لكان يلحقه بذلك حرج ومشقة.

ولا فرق في هذا بين العبادات والمعاملات؛ فلو حدَّث الإنسان نفسه بأمر خطير فإن هذا الحديث معفو عنه، ولكن عليه أن يعرض عنه ويستعيذ بالله ولا يبالي.

ومن أمثلة هذه القاعدة:

ـ يكون الإنسان في صلاته ويحدث نفسه؛ يقول مثلاً: مررت على فلان، وسلمت عليه، وسألته: كيف حالك وأخبارك، وقدم لي الأكل، وقلت: بسم الله، ثم خرجت، وقلت: أكرمك الله. هذا حديث نفس، لو أننا مؤاخذون بذلك لكانت صلاتنا تبطل، لأنه كلام آدميين، ولكن والحمد لله لا نؤاخذ به.

ـ لو أن إنساناً حدّث نفسه أنه سيعتق عبده، أو سيوقف بيته، أو سيطلق امرأته، فإن ذلك لا أثر له.

ـ لو حدّث نفسه بأنه سوف يعق والديه أو يقطع رحمه، فقال مثلاً: هذا أبي أتعبني فلن أذهب إليه، ولن أسلم عليه، ولن أصله بمال. يقول هذا في نفسه، لكنه لم يركن إليه بل هو حديث نفس فقط، فإن هذا لا عبرة به، ولا أثر له، ولا يكتب عليه، مع أن ما حدّث به نفسه من كبائر الذنوب.

ـ ولو حدّث نفسه أن يشرب الخمر فإنه لا أثر لذلك، ولا إثم بهذا الحديث.

ـ ولو حدّث نفسه أن يسرق، ولكنه لم يسرق فإنه لا أثر لهذا، ولا يأثم به ودليله الحديث السابق بل من هم بالسيئة ثم تركها لله تعالى كتبها الله حسنة كاملة.

أما إذا أحدث عملاً بالقول أو بالفعل فلا شك أنه يؤاخذ به حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية. ولهذا قال الناظم: (ما لم يؤثر عملا) يعني ما لم يكن على إثر حديث النفس عمل، فإذا أثر حديث النفس عملاً فإنه يعتبر ذلك العمل الذي نتج عن حديث النفس.

فائدة: الفرق بين العمل والفعل أن العمل إذا أطلق فإنه يشمل القول والفعل، أي: القول باللسان، والعمل بالأركان. وأما الفعل فهو خاص بفعل حركة الجوارح.

مسألة: هل كل حديث يدور في النفس معفو عنه؟ وهل الظن من حديث النفس، وكيف نجمع بين حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به»[(212)] وبيّن قوله تعالى: {{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}} [الحج: 25] ؟.

الإجابة: حديث النفس لا يشتمل على هَمٍّ ولا على عزيمة، وإنما يحدث نفسه هل يفعل أو لا يفعل؟ لكن لم يهم، فهذا معفو عنه، لأن الشيطان دائماً يلقي في قلب الإنسان ما يحدث به نفسه، مما يعد طامة كبرى، وردّة عن الإسلام، ولو أنه أُخِذ به الإنسان لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق.

وأما الهَمُّ فإنه مرتبة فوق التحديث، يعني يحدث النفس ثم يهم ويعزم، فهذا هو الذي يعاقب عليه، ما لم يترك المحرّم الذي همَّ به لله، فإن ترك المحرّم الذي همَّ به لله فإن الله تعالى يكتبه حسنة كاملة، لأنه تركها ـ أي المعصية التي همّ بها ـ خوفاً من الله عزّ وجل وإخلاصاً له.

وأما قوله تعالى في المسجد الحرام: {{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}} فالمعنى من يهمّ به همّاً جازماً مقروناً بالإلحاد؛ أي: همّ بمعصية واضحة بينّة، فإن الله تعالى يذيقه من عذاب أليم، فيجب أن نعرف الفرق، لأن الله تعالى يقول: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}} [الأنفال: 29] .

وسمى الله القرآن فرقاناً، لأنه يفرق بين الأمور، بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين المؤمن والكافر، وبين حق الله وحق العباد، إلى غير ذلك مما تكون به الفروق.

مسألة: قلنا: إن حديث النفس معفو عنه فما الحكم لو كان في الصلاة فَحَدَّث نفسه أن يخرج من الصلاة، ألا تكون هذه نية قطع للصلاة فتبطل؟

الإجابة: إذا هم أن يخرج من الصلاة ولم يخرج فلا تبطل صلاته، بخلاف ما لو نوى قطعها ولم يتردد، فإنها تبطل. ولو أراد أن يُحْدِث في الصلاة ولكنه لم يُحْدِث فإنها لا تبطل.

41 ـ والأمرُ للفورِ فبادِرِ الزمَنْ***إلا إذا دَلَّ دليلٌ فاسْمَعَنْ

قوله: (والأمر للفور) : الفور هو المبادرة بالشيء؛ يعني: أن أمر الله ورسوله يجب أن يُفعل على الفور إن كان واجباً، من حين أن يوجد سبب الوجوب، وكان قادراً على ذلك. ويستحب أن يُفعل على الفور إذا كان مستحباً، وذلك لأن الواجب لا بد من فعله، وأما المستحب فللإنسان أن يدعه.

وهذه المسألة ـ أعني: هل الأمر للفور أو للتراخي ـ تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما دل الدليل على أنه للفور، فهذا لا إشكال فيه أنه يجب على الفور.

الثاني: ما دل الدليل على أنه ليس للفور، فهذا أيضاً لا إشكال فيه أنه ليس للفور، وأنه على التراخي.

الثالث: الأمر المطلق، وهو ما لم يدل الدليل على أنه للفور أو للتراخي، وهو الذي يريده الناظم، فهل يكون للفور أو لا؟ هذا موضع خلاف بين العلماء.

مثال الأول: قوله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان: «إذا رأيتموه ـ يعني الهلال ـ فصوموا»[(213)]، فهذا الأمر على الفور بالنص والإجماع، بالنص لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءه أعرابي فقال: إنه رأى الهلال، فسأله أيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالاً أن يؤذن في الناس أن يصوموا غداً[(214)].

ومثال الثاني: قول الله تعالى: {{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}} [البقرة: 238] وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله.. ووقت العشاء إلى نصف الليل»[(215)]، فهذا دل الدليل على أنه للتراخي، وأن له أن يصلّي في أول الوقت وفي وسطه وفي آخره.

ومن الثاني أيضاً: قول الله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] يعني: فعليه عدة، لكن دل الدليل على أن قضاء رمضان ليس على الفور، وأنه على التراخي، إلا أن يبقى من شعبان بقدر ما عليه، فحينئذٍ يجب عليه الصوم. فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤخر القضاء إلى أن يبقى على رمضان الثاني بقدر أيامها، ولم ينكر عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم[(216)] مما يدل على الجواز.

ومثال الثالث: كفارة اليمين إذا حنث فيها، وفدية الأذى، ومحظورات الإحرام وجميع ما يلزم فيها، هل يجب أن يبادر بها أو لا؟ نقول: هو مبني على ما ذكرنا في النظم: (والأمر للفور) : فالأصل أنه للفور.

ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: {{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}} [المائدة: 48] {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}} [آل عمران: 133] {{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [النور: 63] ؛ فالأصل أنه إذا وجه الأمر للمكلّف ليقوم به أن يبادر، فإن أخّر فقد خالف الأمر.

ودليله من السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية أمر أصحابه أن يحلقوا ويحلوا، فتباطؤوا فغضب لذلك، لأنهم تأخروا، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وأخبرها الخبر، فأشارت عليه أن يخرج إلى الناس ويدعو الحلاَّق ويحلق ففعل، فلما حلق ورآه الناس قد حلق، كاد يقتل بعضهم بعضاً في الحلق[(217)]. وهذا دليل من الأثر.

أما الدليل النظري: فلأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت، فيفوته هذا الواجب، وإذا كان لا يدري متى يفجأه الموت كان العقل والنظر يدلان على وجوب المبادرة به، ثم إنه إذا بادر بالشيء استراح في آخر الأمر، ولو قلنا بأن الأمر للتراخي فإن النفوس تميل إلى الكسل والتفريط ـ إلا من عصم الله ـ فربما يكسل ويُفرِّط ويمضي عليه الوقت، وتتراكم عليه الأوامر، فيعجز عن القيام بها.

وقال بعض العلماء: إن الأمر المطلق يكون على التراخي، والفور أفضل، وعللوا ذلك: بأن الفاعل للمأمور به إذا فعله متأخراً صدق عليه أنه ممتثل، فإذا قيل لك: اشتر كذا وكذا من السوق، ولم تشتره الآن بل بعد يوم أو يومين، صدق عليك أنك ممتثل، فإذا كان الشرع لم يأمر بالفورية والمبادرة، ولم تدل القرينة على ذلك فالأصل أنه على التراخي، لأن المطلوب أن تفعل هذا الفعل، وقد حصل.

واستدلوا أيضاً بأن الله تعالى فرض الحج والعمرة في السنة السادسة في الحديبية، ولم يحج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في السنة العاشرة، فأخّر الأمر.

ولكن هذا القول ضعيف؛ أما التعليل الأول فيقال: نعم، المقصود الفعل، لكن لمّا لم يقيّده الشرع بسبب ولا وقت، فإن تمام الامتثال ـ لا شك ـ أن تبادر بالفعل للأدلة المذكورة من القرآن والسنة، والنظر الصحيح.

وأما الاستدلال بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخَّر الحج إلى السنة العاشرة مع فرضه في السنة السادسة، فلا يصح الاستدلال به، لأن المذكور في صلح الحديبية ليس ابتداء الحج والعمرة، ولكن إتمام الحج والعمرة؛ قال الله تعالى: {{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ}} [البقرة: 196] ؛ والإتمام شيء، والابتداء شيء آخر، فالآية {{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ}} أمر بإتمام ما ابتدأه.

ويدل لهذا أيضاً أن آية فرض الحج هي قوله تعالى في آل عمران: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] وهذه الآية نزلت في عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة.

ويدل لذلك أيضاً من المعنى: أن مكة قبل الفتح كانت بلاد شرك، والمسيطر عليها المشركون، فكان من الحكمة أن يؤخر الله سبحانه وتعالى فريضة الحج حتى تخلُص للمسلمين، أما أن تكون بأيدي المشركين فإنهم ربما يصدون الناس كما صدوهم في عام الحديبية فالصواب أن الأمر المطلق للفور، أما ما قيّد بالتراخي فهو على تراخيه، وأما ما قيّد بالفورية فهو على الفور بالاتفاق.

قوله: (فبادر الزمن) : هذه إشارة إلى علة كون الأمر على الفور، وأنه ينبغي للإنسان أن ينتهز الفرصة ما دام فارغاً شاباً قوياً، فليبادر الزمن؛ لأن الزمن يتغير؛ فكم من سليم أصيب بعيب، وكم من صحيح أصيب بمرض، وكم من غني افتقر، وكم من فارغ اشتغل فليبادر الإنسان الزمن وليقم بما أمره الله به.

قوله: (إلا إذا دل دليل) : أي: إلا إذا دل الدليل على أن الأمر على التراخي وليس للفور، فحينئذٍ نأخذ بالدليل. مثاله كما سبق في قضاء رمضان إذا أفطر لسفر أو مرض فقد قال الله تعالى: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] فهذه العدة لا يجب على الإنسان أن يبادر بقضائها، بل له أن يؤخرها حتى يبقى على رمضان الثاني مثل ما عليه من الأيام، فإذا قُدِّرَ أن عليه عشرة أيام فله أن يؤخرها إلى يوم العشرين من شعبان من السنة الثانية؛ أي: إذا بقي عليه بمقدار ما أفطر، فإنه يجب عليه أن يقضيه لضيق الزمن. ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان)[(218)]. وكان ذلك في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر عليها.

مثال آخر: الواجب المؤقت يعني الواجب الذي له وقت محدد من أوله إلى آخره كالصلوات الخمس مثلاً فإنه لا يجب على الإنسان أن يصلي الصلاة فور دخول وقتها لأن وقتها موسع فله أن يصليها في أول وقتها وله أن يؤخرها إلى آخر الوقت، لأن توقيته يدل على أن الوقت كله زمن للفعل من أوله إلى آخره.

وقوله: (فاسمعن) : أي اسمع ما أقول سماعَ تفهّمٍ وتفكّرٍ، لأن السماع المجرد ليس بشيء، حتى يكون معه تأمل وتدبر.

إذاً القاعدة: أن الأمر المطلق للفورية ما لم يدل الدليل على أنه للتراخي، وهذا هو القول الراجح.

42 ـ والأمرُ إنْ رُوعِي فيه الفاعل***فذاك ذو عينٍ وذاكَ الفاضلُ

43 ـ وإنْ يُراعَ الفعلُ معْ قطعِ النَّظَرْ***عن فاعلٍ فذو كفايةٍ أُثِرْ

في هذه القاعدة يتبيّن الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، وسنّة الكفاية وسنّة العين، وذلك لأن الأوامر الشرعية تنقسم إلى قسمين:

إما عينية وإما كفائية.

فالعينية هي التي تطلب من كل شخص بعينه، وذات الكفاية هي التي يقصد بها حصول هذا الشيء، بقطع النظر عن الفاعل، هل هو زيد أو عمرو أو غيره.

قوله: (إن روعي فيه الفاعل فذاك ذو عين) : وهذا هو أكثر المأمورات أنها عينية؛ تطلب من كل شخص بعينه.

وقوله: (فذاك ذو عين) : أي سمّه فرضَ عينٍ في الواجب، وسنّةَ عينٍ في المستحب، ومن أمثلة ذلك:

ـ الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وبر الوالدين، ونحوها مطلوبة من كل شخص بعينه، إذاً هي فرض عين.

ـ السنن الرواتب التابعة للمكتوبات والسواك وقراءة القرآن والذكر مطلوبة من كل شخص بعينه؛ إذاً هي سنة عين، وعلى هذا فقس.

قوله: (وإن يراع الفعل مع قطع النظر عن فاعل) : أي: إذا قصد الفعل فقط بقطع النظر عن الفاعل فهذا ذو كفاية، سواء كان سنة كفاية أو فرض كفاية.

قوله: (أثر) : أي: عُلم الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، وسنة الكفاية وسنة العين.

ـ فابتداء السلام من الجماعة إذا مروا بشخص قاعد سنّة، لكنه سنّة كفاية يعني: إذا سلم واحد من الجماعة كفى، لأن المقصود هو إلقاء السلام على هذا الجالس.

ـ كذلك تعليم العلم إن لم يكن التعليم واجباً.

ـ كذلك بعض العلماء يرى أن التسمية على الطعام ـ إذا كانت تسميتهم في آن واحد ـ سنة كفاية، إذا سمَّى أحدهم مع الجهر بالتسمية كفى عن الجميع ولكن الأحوط أن يسمّي كل واحد لنفسه.

ـ صلاة العيد على قول بعض العلماء بأنها سنة، هي سنة كفاية. والصحيح أنها فرض عين.

ـ الأذان والإقامة فرض كفاية، ولهذا لا يؤمر أن يؤذن كل واحد من الناس، إنما يؤمرون أن يؤذن واحد منهم؛ كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم»[(219)].

ـ تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يُخْبَر بالمرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد لما ماتت في الليل[(220)]. ولأنه صلّى الله عليه وسلّم قال في الذي وقصته راحلته في عرفة: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه..»[(221)] ولم يباشر ذلك.

ـ تعليمُ العلم الذي لا يتعيَّن تعليمه، وطلبُ العلم العام، فرض كفاية.

ـ الجهاد في سبيل الله تعالى، فرض كفاية وما أشبه ذلك.

قوله: (وذاك الفاضل) : الإشارة إلى فرض العين، أو سنّة العين.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله؛ فمنهم من قال: سنّة العين أفضل من سنّة الكفاية، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية. ووجه ذلك أن الله تعالى أمر به كل واحد من الناس، فدل على فضله واعتباره ولو كان كفاية لكان الناس لا يقومون به كلهم، لأن فرض الكفاية أو سنّة الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الطلب عن الباقين. فأهل البلد يكفيهم مؤذن واحد، لكن فرض العين لا بد أن يقوم به كل واحد منهم.

وزعم بعض العلماء أن فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن بقية الناس. ولكن هذا غير صحيح؛ لأن هذا فضل متعلق بالغير لا بذات المفروض، ونحن كلامنا عن ذات المفروض ففرض العين أفضل.

فائدة: بمناسبة ذكر إلقاء السلام فإنه ينبغي أن نذكر شيئاً من آداب السلام. فالسنة إذا تلاقى المؤمنان أن يسلم أحدهما على الآخر، ومن الأدب أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والماشي على القاعد، والراكب على الماشي. ولكن إذا لم يحصل ذلك، وتناسى أو تعامى من هو أولى بالسلام عن السلام، فليسلم الآخر. يعني لو تلاقى صغير وكبير، فالمطلوب أن يسلم الصغير على الكبير، لكن لو تناسى أو تغافل أو غفل أو استكبر الصغير، فليسلم الكبير على الذي أصغر منه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لمسلم أنَّ يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»[(222)].

ومن آداب السلام: أن يكون بصوت واضح، لا أن يكون بصوت منخفض لا يسمعه المسلَّم عليه، أو كما يقول العامة يتكلم بأنفه لا يفصح بلسانه، فليسلم تسليماً مسموعاً واضحاً هذا هو السنة وليقل: السلام عليك إن كان واحداً، وعليكما إن كانا اثنين، وعليكم إن كانوا جماعة، وإن قال في الجميع: السلام عليكم بالجمع فلا بأس.

ومن آداب السلام: أن لا يقتصر على ما يفعله بعض الناس إذا لاقى أخاه قال: أهلاً وسهلاً ومرحباً وما أشبه ذلك، فإن هذا ليس من السنة التي أمر بها، بل السنة أن يسلم أولاً: سلام عليكم، أو: السلام عليكم، ثم يقول ما شاء من التحية: أهلاً وسهلاً، حياك الله، صبحك الله بالخير، وما أشبه ذلك.

ومن الآداب أن لا يقتصر على الإشارة باليد؛ لأن ذلك ليس بسلام حقيقة. وقد ورد النهي عن الاقتصار عليها[(223)]. أما إذا جمع بين الإشارة والنطق فهذا خير، إن احتيج إلى الإشارة باليد، لبعد المُسَلَّم عليه، أو لكونه أصم، وما أشبه ذلك.

مسألة: هل أجر فرض الكفاية مساوٍ لأجر فرض العين؟

الإجابة: لا يساويه، أجر فرض العين أكثر، لكن قد يكون فرض الكفاية أفضل من فرض العين في بعض الصور. فمثلاً قد يجب على الإنسان أن يساعد إنساناً في حمله على دابته، وهذا قد يكون فرض عين، لأنه لم يحضره أحد، لكن إذا كان هناك ميت يخشى أن يتفسخ، ويحتاجُ إلى حمل، فهنا قد نقول: إن فرض الكفاية أفضل من فرض العين.

مسألة: هل صلاة الكسوف من سنّة الكفاية أو من سنّة الأعيان؟

الإجابة: الظاهر الثاني أنها سنة أعيان فكل يطلب منه أن يصلّي، لكن هل هي سنة أو واجبة؟ لأن بعض العلماء يرى أنها واجبة، فتكون واجبة إما على الأعيان، وإما على الكفاية، لكن الأقرب أنها فرض على الكفاية، وأنه لا يمكن أن يدع الناس صلاة الكسوف والله سبحانه وتعالى أنذرهم بالعذاب. فإن هذا من جنس التحدي لله عزّ وجل.

مسألة: الإنسان إذا عَطَسَ هل يكفي عن الجماعة أن يقول واحد يرحمك الله قياساً على ردِّ السلام؟

الإجابة: المشهور عند العلماء رحمهم الله أنه يكفي وأن تشميت العاطس فرض كفاية. وقال ابن القيم رحمه الله: إن الظاهر أنه فرض عين[(224)] لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان حقاً على كل من سمعه أن يقول يرحمك الله»[(225)] فقوله: «كان حقاً على كل من سمعه» يدل على أن كل من سمعه يجب أن يُشَمِّته.

كن قال تعالى: {{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}} [النساء: 86] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يكفيك واحد»[(226)] ألا يقاس التشميت على هذا؟ فيقال: لا قياس مع النص، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان حقاً على كل من سمعه».

مسألة: ما هي الحالات التي يتعيَّن فيها فرض الكفاية؟

الإجابة: ما دام أننا قلنا إنه فرض كفاية فمعناه أنه إذا لم يقم به من يكفي ففرضه باقٍ، فإذا كان يقوم به اثنان لم يجب على الثالث، وإذا كان يقوم به ثلاثة لم يجب على الرابع. وهكذا

44 ـ والأمرُ بعد النهيِ للحِلّ وفي***قولٍ لرفعِ النَّهي خُذْ به تَفِي

لما ذكر أن الأمر يكون للوجوب[(227)] ويكون للفور[(228)]، ذكر الأمر الذي خرج عن هذه القاعدة، وهو الأمر الوارد بعد النهي. وفي هذا للعلماء قولان: فأكثر الأصوليين يقولون: إن الأمر بعد النهي للإباحة، ولا يعود إلى حكمه الأول الذي هو قبل النهي، لأن النهي ورد على الحكم الأول فنسخه، ثم رُفِع النهي بعد أن نسخ الحكم الأول، فعاد الأمرُ للإباحة.

وقيل: بل الأمر بعد النهي رفعٌ للنهي، فينظر فيما نهي عنه ويرجع إلى أصله، فإن كان أصله الاستحباب كان مستحباً، وإن كان أصله الإباحة كان مباحاً.

قوله: (لرفع النهي) : معناه: أنه إذا ورد الأمر بعد النهي فهو رفع، للنهي، وحينئذٍ يعود الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي.

قوله: (خذ به تفي) : أي: هذا أقرب؛ فنقول: إن الأمر بعد النهي يرفع النهي، ويعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل وجود النهي.

ـ فمن ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}} [الجمعة: 9، 10] فالأمر بالانتشار في الأرض وطلب الرزق للإباحة على القول الأول، وعلى القول الثاني لرفع النهي ومن المعلوم أن طلب الرزق مأمور به لسد حاجة الإنسان وحاجة من يمونه فيكون الأمر بذلك للندب.

ـ ومن ذلك: الإذن للخاطب أن يرى من مخطوبته ما يدعو إلى نكاحها، فإن الأصل تحريم نظر الرجل إلى المرأة. فهل الأمر بالنظر في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها»[(229)] للإباحة أو للاستحباب؟ ينبني على الخلاف.

ـ ومن ذلك: قوله تعالى: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] فهذا ورد بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام بقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}} إلى قوله: {{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 1، 2] فلما رفع النهي عن الاصطياد في حال الإحرام، وذلك بالإحلال، عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، والاصطياد في الأصل مباح، فيكون للإباحة على القولين لأن الصيد من قسم المباح، ولم يقل أحد إن الإنسان إذا حَلَّ من إحرامه يجب عليه أن يذهب ويأخذ البندقية ويرمي الصيد، بل ولا قال أحد باستحبابه. وهذا مما يدل على أن قول من قال: إن الأمر بعد النهي للوجوب، ليس له وجه.

وهذا الذي اخترناه في النظم هو الذي اختاره الغزالي رحمه الله في المستصفى[(230)].

مسألة: ما الذي جعلنا نرجح أن الأمر بعد النهي لرفع النهي؟

الإجابة: الذي جعلنا نرجح هذا هو العقل فمثلاً لو قلت لك: اجلس للناس الذين يأتون للضيافة ثم قلت لك: لا تجلس، ثم قلت لك: اجلس؛ هل تقول في الأمر الأخير أعطيتك الخيار بين أن تجلس أو لا تجلس أو نقول: رفعت النهي وعدت إلى الحال الأولى؟ الجواب: الثاني.

مسألة: قول من قال إن الأمر بعد الحظر يدل على الوجوب ما وجهه؟

الإجابة: ليس له وجه أبداً وما علمنا أن أحداً قال يجب على الإنسان إذا حلّ من الإحرام أن يذهب يصطاد، ولهذا لو استأذنت عليَّ في البيت فقلت لك: ادخل. ثم بدا لك أن تنصرف، فهل لي حق أن ألومك؟ الجواب: لا لأن قولي: ادخل. يعني يباح لك أن تدخل.

45 ـ وافعلْ عبادةً إذا تَنَوَّعَتْ***وجوهُهَا بكلِّ ما قد وَرَدَتْ

46 ـ لِتَفْعَلَ السُنَّةَ في الوجْهَيْنِ***وتحفظَ الشرعَ بذي النوعَيْنِ

هذه قاعدة في العبادة إذا وردت على وجوه متنوعة، فهل الأفضل أن نختار وجهاً منها ونستمر عليه، أو الأفضل أن نفعل كل هذه الوجوه؟ وإذا قلنا: الأفضل أن نفعل هذه الوجوه كلها، فهل نجمعها جميعاً، أو نختار كل واحد منها على البدل؟ فعندنا الآن ثلاثة أشياء:

1 ـ أن نختار أكمل هذه الوجوه وأوفاها ونستمر عليه.

2 ـ أن نختار التنويع بأن نفعل هذا تارة وهذا تارة بدون أن نجمع بينها.

3 ـ أن نجمع بينها، ونداخل بعضها ببعض حتى يتكامل السياق مؤلفاً من الوجهين.

وأبرز مثال لذلك وأشهره أدعية الاستفتاح في الصلاة، وألفاظ الأذان، وألفاظ التشهد، وأنواع الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنواع التسبيح بعد الصلاة.

ففي أدعية الاستفتاح مثلاً ـ ويقاس عليه ما بعده ـ من العلماء من قال: اختر واحداً منها واستمر عليه، ثم بعضهم رجح قول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك»[(231)] على بقية الاستفتاحات، وممن رجح ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد[(232)] وذكر أن هذا أرجح من غيره من عشرة أوجه، أو أكثر، ومنهم من رجح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد»[(233)]. وعلل هذا الترجيح بأن هذا ثابت في الصحيحين وغيرهما فهو أقوى ثبوتاً من حديث: «سبحانك اللهم وبحمدك».. إلخ.

إذاً على هذين الرأيين نستمر على واحد، لكن أيهما أفضل؟ فيه خلاف كما سبق ذكره.

والقول الثاني في المسألة: أن نختار واحداً منهما مرة والثاني مرة أخرى، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(234)].

لكن في دعاء الاستفتاح ـ مثلاً ـ لا نقول بالجمع بين «سبحانك اللهم وبحمدك» وبين «اللهم باعد بيني وبين خطاياي» كما قال به بعضهم لأن السنة دلت على عدم الجمع، فإن أبا هريرة رضي الله عنه لما سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يقول: أخبره بأنه يقول: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي»[(235)] ولم يذكر «سبحانك اللهم وبحمدك»؛ فدل هذا على أنه لا يجمع بينهما.

ـ مثال آخر: التشهد: فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسلم[(236)]، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما[(237)]، وكلاهما صحيح. فهل نتشهد بتشهد عبد الله بن مسعود، أو بتشهد عبد الله بن عباس؟

ينبني على القاعدة:

منهم من قال: نتشهد بالتشهد الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، لأنه أكمل من تشهد ابن عباس.

ومنهم من قال: نتشهد بتشهد ابن عباس رضي الله عنهما.

ومنهم من قال: نفعل هذا مرة وهذا مرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(238)]، وهو الذي اخترناه هنا.

ـ ومن ذلك: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضاً؛ اختلفت فيها الصفات على وجوه متنوعة، ومن أراد الاطلاع على ذلك فليقرأ كتاب ابن القيم رحمه الله تعالى المؤلف في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم[(239)] يجد اختلاف الألفاظ في كيفية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم.

ـ ومن ذلك أيضاً: التكبير على الجنازة فقد كبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجنازة أربعاً، وكبر عليها خمساً[(240)]، وكبر عليها أكثر من ذلك[(241)]، فهل السنة أن نأخذ بالأكثر، ونقول: نكبر عليها بأكثر شيء وارد؟ أو نقول: نكبر عليها تارة بهذا وتارة بهذا؟

الجواب: الثاني، أننا نكبر عليها مرة أربعاً، ومرة خمساً، لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كبر خمساً على الجنازة، وربما زاد على ذلك، ولكن نحافظ في الأكثر على ما كان أكثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الأربع.

إذا أخذنا بهذا الرأي فما هو التعليل الذي جعلنا نختاره؟ قال: (لتفعل السنة في الوجهين) : لأنك إذا لزمت وجهاً واحداً فاتتك السنة في الوجه الثاني (وتحفظ الشرع بذي النوعين) ولأنك لو لم تفعل هذا مرة وهذا مرة نُسِيَ، لأن من أسباب الحفظ العمل؛ فإذا لم تعمل بهذا مرة وهذا مرة نسيت الثاني، فالفائدة من وجهين:

1 ـ الإتيان بالسنة بوجهيها.

2 ـ حفظ النوعين، لأنه إذا بقي على واحد نسي الآخر مع طول الزمن[(242)].

فإن قال قائل: هل نجمع بين الصفتين؟

الجواب: إذا دل الدليل على أنه لا جمع فإننا لا نجمع، سواء كان ذلك من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو من قرينة الحال.

مثال الذي من قوله: حديث الاستفتاح وذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام ماذا يقول؟ قال أقول: كذا وكذا ولم يذكر الثاني، والمثال الذي من قرينة الحال: التشهد والتسبيح خلف الصلوات، لأن التشهد ألفاظه متقاربة يعني يختلف فيه كلمة أو كلمتان، وما دامت ألفاظه متقاربة فإن أحدهما يغني عن الآخر، لأنك لو جمعت بينهما وليس بينهما إلا فرق يسير في كلمات يسيرة، صار هذا مشبهاً للتكرار، ومن ذلك التسبيح خلف الصلوات حيث ورد على أربعة أنواع:

1 ـ سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً.

2 ـ سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، فالجميع تسع وتسعون، ويختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

3 ـ سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين.

4 ـ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمساً وعشرين مرة، فالجميع مائة مرة.

فهذه لا نجمع بينها لأنها من جنس واحد، كالتشهد، فيُكْتَفَى بواحد منها.

وأما إذا لم يدل الدليل على فعلها على التبادل، فإن الأفضل أن يجمع بينها تحصيلاً للثواب المرتب على هذه العبادة.

من ذلك: الأذكار المشروعة خلف الصلوات. ففي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف من صلاته قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ»[(243)]. وحديث ثوبان رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم استغفر ثلاثاً وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام»[(244)]، لأن كل واحد منهما يغاير الآخر مغايرة تامة، فإذا كان يغايره فمعناه أن نذكرهما جميعاً. هذا ما تحرر لنا في هذه المسألة.

47 ـ والْزَمْ طريقةَ النبيِّ المصطفَى***وخذْ بقولِ الراشدين الخُلَفَا

قوله: (الزم) : أيها العبد (طريقة النبي المصطفى) : أي سنته، لأن السنة والطريقة لغة معناهما واحد (النبي) «ال»: هنا للعهد الذهني، والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلم.

(المصطفى) : يعني المختار، كما جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»[(245)].

ومصطفى أصلها مصتفى، لكن قلبت التاء طاء لعلة تصريفية، ومصطفى من الصفاء أو من الصفوة وهي الخلوص، يقال: هذا شيء صافٍ أي خالص من مخالطة غيره.

فالنبي صلّى الله عليه وسلّم من المصطفين الأخيار بل هو أفضل المصطفين الأخيار صلّى الله عليه وسلّم. اصطفاه الله تعالى عليهم من عدة وجوه، وهذا داخل في عموم قوله تبارك وتعالى: {{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}} [البقرة: 253] .

وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تفضلوني على يونس بن متَّى»[(246)]، فإنما قاله صلّى الله عليه وسلّم حين حصل النزاع بين رجل يهودي من بني إسرائيل، وبين أحد المسلمين، فمتى أدت المفاضلة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الرسل إلى نزاع يؤدي إلى تهوين شأن الرسل الآخرين، أو تهوين شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن الواجب الكف عنه.

وقوله: (والزم طريقة النبي المصطفى) ولم يقل: (الزم طريقة محمد) مع أن محمداً هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إشارةً إلى علة وجوب اللزوم، كأنه قال: الزم طريقته لأنه النبي المصطفى، ولهذا يحسن عندما نتكلم عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعزو شيء إليه أن نصفه بالنبوة أو الرسالة، فنقول: قال النبي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما كثر في ألسنة المتأخرين من قولهم: قال محمد بن عبد الله، فهذا وإن كان حقاً، لكن ليس فيه ذكر الرسالة أو النبوة، والذي لا يَعرِف أن محمداً رسول الله اسمُه محمد بن عبد الله يظن أنه رجل آخر. لكن إذا قلت: قال رسول الله، أو قال نبي الله، أو قال النبي، وما أشبه ذلك، كان ذلك أولى، لأن هذا أكثر تعبير الصحابة، وإن كانوا يعبرون بغير ذلك أحياناً، كقول أبي هريرة رضي الله عنه لما رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان قال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم[(247)]. وقول عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم[(248)].

وقوله: (والزم طريقة النبي المصطفى): أدلة ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}} [التغابن: 12] ومنها قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}} [النساء: 59] ومنها قوله تعالى: {{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}} [آل عمران: 31] ومنها قوله تعالى: {{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}} [الأعراف: 158] . ومنها قوله تعالى: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}} [الأحزاب: 21] . ومنها قوله تعالى: {{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [النور: 63] .

ومنها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار»[(249)]، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»، والأدلة على ذلك أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر.

وقوله: (طريقة النبي) يشمل: طريقته العقدية، وطريقته القولية، وطريقته الفعلية، وكل ما تعبد به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ربَّه فإنه مشروع لنا أن نتبعه فيه إما على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاستحباب حسب الأدلة الواردة في ذلك.

والنبي: هو من أوحي إليه بشرع، وسمي النبي نبياً لأنه مُنْبَأٌ ومُنْبِئٌ، فهو مُنْبَأٌ من قِبَل الله ومُنْبِئٌ عن الله تعالى مبلِّغ عنه، وهذا أحد الأدلة التي يحصل بها التكليف، يعني: سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم[(250)].

قوله: (وخذ بقول الراشدين الخلفاء) : وفي الأول قال: (والزم طريقة النبي) لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله حجة وفعله حجة، أما الخلفاء: فقيل: إن قولهم حجة وليس فعلهم حجة، لأن فعلهم غير معصوم؛ فقد ينسون السنة فلا يطبقونها، وقد يطبقونها على الوجه الذي لم ترد عليه بتأويل، أو غير ذلك. ولكن الذي يظهر أن قول الخلفاء الراشدين وفعلهم يعتبر حجة. وعليه فالمراد بقول الخلفاء ما ذهبوا إليه، سواء ذهبوا إليه بالقول أو بالفعل. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»[(251)] والسنة هي الطريقة، وتشمل القول والفعل، والمراد بالخلفاء الراشدين الخلفاءُ الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وخصّوا بذلك لأن غيرهم لا يستحق هذا الوصف؛ فإن الخلفاء الأربعة متفق على أنهم خلفاء راشدون رضي الله عنهم، فهؤلاء إذا أجمعوا على شيء فقولهم حجّة بلا شك، وإذا انفرد أحدهم من غير مخالف فقوله حجة، لا سيّما أبو بكر وعمر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص عليهما وقال: «اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر»[(252)]، وقال: «إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا»[(253)] وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» وأول من يدخل فيهم وأولاهم الخلفاء الأربعة، لكن قولهم حجة بشرط ألا يعارضه النص، فإن عارض نصًّا وجب الأخذ بالنص؛ لأن سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدمة ولهذا قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء».

ولا يمكن أن يُحتج بقول أحد على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهما كان الأمر، ولا يحتج بفعل أحد على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وبهذا تعرف ضعف قول من يقول من العلماء: إنه يجوز أن يأخذ الإنسان من لحيته ما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان إذا حج أخذ من لحيته ما زاد عن القبضة[(254)]، لأن هذا الفعل مخالف لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «أعفوا اللحى»[(255)]؛ فإنه مطلق غير مقيّد، حتى وإن كان ابن عمر رضي الله عنهما أحد رواة هذا الحديث؛ لأن الصحابي إذا خالف ما روى فإن العبرة بما روى لا بما رأى.

وأما من بعدهم من الخلفاء الراشدين فليس قولهم حجة، كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وما أشبه ذلك. وقال بعض العلماء: بل قولهم حجة لأن المراد بالخلفاء الراشدين من خَلَفَ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم في أمته عبادةً وخلقاً ودعوةً وجهاداً. ولكن الذي يظهر أنه لا يؤخذ إلا بقول الخلفاء الراشدين الأربعة فقط.

48 ـ قولُ الصحابِي حجةٌ على الأصَحْ***ما لم يخالفْ مثلَه فما رَجَحْ

قوله: (قول الصحابي حجة) : لما ذكر طريقة النبي صلّى الله عليه وسلّم وطريقة الخلفاء الراشدين انتقل إلى قول الصحابة غير الخلفاء الراشدين: هل قولهم حجة؟ والصحابي عند علماء الحديث: كل من اجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به ومات على ذلك، سواء رآه أم لم يره؛ إذ العبرة بالاجتماع.

وقولنا: «بالنبي» يفيد أنه لا بد أن يكون اجتماعه به بعد نبوته صلّى الله عليه وسلّم؛ فمن اجتمع به قبل أن يُنَبَّأ فليس بصحابي، وإن آمن به بعد نبوته. لكن إن آمن به بعد نبوته واجتمع به صار صحابيّاً.

وقوله: (حجة) : أي: دليل يُحتج به.

وقوله: (على الأصح) : أفاد بأن في هذا خلافاً بين العلماء، فمنهم من قال: إن قول الصحابة ليس بحجة، لأنهم غير معصومين، يخطئون ويصيبون، ويستدلون بالقرآن والسنة كما يستدل غيرهم فلا يكون قولهم حجة، بل الحجة إنما هي في قول المعصوم، ولكن قولهم أرجح من قول غيرهم، لكنه ليس بحجة على الغير.

والأصح أن قول الصحابي حجة لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: سلامة عقيدتهم، لأنهم أسلم الناس عقيدة، وسلامة العقيدة من أسباب التوفيق للصواب.

الوجه الثاني: أنهم خير القرون وأعلمهم بشريعة الله وأقربهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهداً وصحبة فهم أقرب الناس فهماً لقول الله ورسوله، لأنهم أعلم بحال النبي صلّى الله عليه وسلّم ومقاله من غيرهم، ولا شك أن أقرب الناس للشخص هو أعلم الناس بحاله، وأعلم الناس بمقاله. ولهذا نجد الشخص الملازم لآخر هو أعلم الناس بحال هذا الرجل، فكذلك الصحابة عندهم من العلم بحال النبي صلّى الله عليه وسلّم ومقاله ما ليس عند غيرهم.

الوجه الثالث: أنه لم تظهر في عهدهم الأهواء والآراء، بل كانوا على الهدى، ومعلوم أنه إذا ظهرت الأهواء كثر الضلال، وفي عهدهم ليس هناك أهواء كثيرة، وإنما الكتاب والسنة، وهما المرجع، فلهذا صار قولهم حجة، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وقال: «إننا نتهم الرأي ولا نتهم الصحابة»[(256)].

أما بعد ذلك فقد انتشرت الأمة، وكثرت أهواؤها، ودخلت على الأمة كتب الفلاسفة والمناطقة وغير ذلك.

ولكن هل قول الصحابي حجة أيّاً كان الصحابي يعني حتى لو كان أعرابياً جاء على بعيره وأسلم ورجع إلى أهله، هل يعتبر قوله حجة على أئمة المسلمين ممن بعد الصحابة؟

الجواب: لا، وإنما المراد بقولنا: إن قول الصحابي حجة من كان من أهل الاجتهاد من الصحابة، يعني له قدم راسخ في العلم، أما رجل حضر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلم ورجع إلى قومه لا يحمل إلا حديثاً أو حديثين، فليس قوله الذي يقوله تفقهاً حجة، لكن روايته مقبولة. فقول الناظم: (قول الصحابي حجة) ليس على إطلاقه إذ إن المراد بذلك الفقهاء من الصحابة.

وعلى هذا فالحاصل أن الصحابي إذا قال قولاً، وقال من بعده قولاً قُدِّم قول الصحابي واحتُجّ به، وهذا هو القول الأول.

والقول الثاني: أنَّ قول الصحابي ليس بحجة؛ لأن الصحابي غير معصوم، وكم من أقوال للصحابة كانت على خلاف ما جاءت به السنة، فيعتذر لهم فيها. فإذا كانوا غير معصومين، كانوا مثل غيرهم في الحجة.

وفَصَّل بعضهم فقال: أما الصحابة الفقهاء المعروفون بالفقه والفتيا، فهؤلاء قولهم حجة، لأنه لا شك أن علمهم أغزر وأوسع وأقرب إلى الصواب ممن بعدهم، وأما من كان له مجرد صحبة، ولم يعرف بفقه ولا علم فإن قوله ليس بحجة وإنما يعرض على الكتاب والسنة، وهذا القول أقرب إلى الصواب.

قوله: (ما لم يخالف مثله فما رجح) : ما رجح: «ما» اسم موصول بمعنى الذي، فقوله: (ما لم يخالف مثله) يعني ما لم يخالف صحابيّاً مثله في الصحبة والعلم والفقه وملازمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن خالفه مثلُه: (فما رجح) يعني فالحجة ما رجح؛ أي: ما رجح من قول الصحابة المختلفين. وأسباب الترجيح كثيرة ومعلومة في أصول الفقه.

وقوله: (ما لم يخالف مثله) يفيد أنه لو خالفه من هو أفقه منه وأعلم منه فإن قوله ليس بحجة، بل قد تكون الحجة في قول الأفقه.

مثال ذلك: إذا اختلف أبو بكر وعمر فنقدم أبا بكر لأن أبا بكر مقدم في خلافة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، وأَمَّرَهُ على الناس في الحج، وأشار إلى خلافته في الأمة، فهو أقرب إلى الصواب من عمر وإن كان قد يخطئ ويصيب.

وكذلك لو خالف قول الصحابي الكتاب والسنة فإنه من باب أولى ليس بحجة، لأنه إذا كانت مخالفة غيره من الصحابة تبطل كون قوله حجة فمن باب أولى إذا خالف الكتاب والسنة.

ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر[(257)]. قال ذلك حينما كان يدعو الناس إلى التمتع في الحج، وأبو بكر وعمر يريان الإفراد. ورأيهما من أجل أن يبقى البيت عامراً في كل السَّنة، لأن العمرة ليس لها وقت محدد، بل متى تيسرت للإنسان أن يذهب ويعتمر فعل ذلك، فإذا قيل للناس: اعتمروا في أشهر الحج؛ تركوا البيت وصاروا لا يعتمرون إلا إذا جاؤوا للحج، لأن المواصلات كانت من قبل صعبة جداً، فإذا قيل لهم تمتعوا، قالوا: إذاً لا حاجة أن نسافر للعمرة في وقت آخر، فيتعطل البيت من الزوار.

هذا هو اجتهاد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولكنه اجتهاد مخالف لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتمتع، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم ماذا يترتب على قوله، ومع هذا أم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://eldaaia-gantelfrdous.yoo7.com
 
منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ::شرح..-9- ح
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 6- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 2- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 3- الشرح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الداعية جنة الفردوس :: العلوم الشرعية :: علم الفقه-
انتقل الى: