الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى اسلامي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الداعية جنة الفردوس
Admin
Admin
الداعية جنة الفردوس


عدد المساهمات : 4517
جوهرة : 13406
تاريخ التسجيل : 03/01/2013

منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح Empty
مُساهمةموضوع: منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح   منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 28, 2013 11:54 pm



منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح
30 ـ وادفعْ خفيفَ الضَّرَرَيْنِ بالأخفْ***وخذْ بعالِي الفاضلَيْنِ لا تَخَفْ

هذه القاعدة تشبه أن تكون تكميلاً للقاعدتين السابقتين، يعني: أنه إذا اجتمع ضرران فإنه يدفع أشد الضررين بأخفهما إذا كان لا بد منه، وهي قاعدة مهمة ينبغي للإنسان أن يعتني بها ولها أمثلة:

ـ منها ما حصل من الخضر حين ركب هو وموسى عليه الصلاة والسلام السفينة فخرقها الخضر، ولا شك أن خرق السفينة ضرر، لكن الخضر أراد أن تَسْلَمَ السفينةُ من مَلكٍ يأخذ السفن الصالحة التي ليس بها عيب، {{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}} [الكهف: 79] فخرقها ضرر، ولكن أخذها أشد ضرراً منه، والسفينة إذا بقيت للمساكين وفيها عيب أهون.

ـ ومنها: لو أن أحداً صال على نفسك (أي: اعتدى عليك) فإنك تدافع عنها لا شك، لكن تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل فلك أن تقتله، لأنه صائل ليس له حرمة، قال أهل العلم: إلا إذا خفت أن يبادرك بالقتل لو دافعته بالأسهل فالأسهل، فهنا لك أن تقتله، لكن لا تستعجل حتى ترى منه قرائن قوية، تدل على أنه سيبادرك بالقتل إن لم تقتله.

ـ ومن ذلك أيضاً ما ذكره الفقهاء رحمهم الله، فيما لو تعطلت مصالح الوقف فباع بعضه لإصلاح باقيه على وجه يمكن الانتفاع به، فإن هذا جائز أيضاً، لأن المحافظة على باقيه خير من تعرضه كله للتلف وعدم الفائدة منه.

ـ ومن ذلك أيضاً: لو أن سفينة فيها أموال وفيها رجال، ومالت للغرق فإننا نبدأ بالمال لأنه أخف ضرراً، فنلقيه في البحر حتى تخف السفينة.

ـ ومن ذلك: إذا اجتمع عنده ميتة بعير وميتة حمار واضطر إلى الأكل فيقدّم ميتة البعير لأنها مما تحلّها الذكاة، وسبق هذا[(181)].

ـ ومن ذلك: إذا اجتمع لمُحْرِمٍ صيدٌ وميتة، والمحرم إما أن يصيد الصيد، وإما أن يأكل الميتة، فإنه يقدّم الصيد، لأنه أخف مفسدة، ولأنه إذا اضطر إليه صار مباحاً لقوله تعالى: {{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}} [المائدة: 96] وقال: {{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] .

قوله: (وخذ بعالي الفاضلين لا تَخَفْ) : يعني: إذا اجتمع شيئان أحدهما أفضل من الآخر، فخذ بالعالي في الفضل ولا تخف، لأن العالي في الفضل فيه زيادة على ما دونه، وزيادة الفضل أمر مطلوب.

وقوله: (لا تَخَفْ) : يعني: أن الأمر مُسَلَّمٌ ولا يلحق الإنسان منه قلق ولا ريب.

ويمكن أن نمثّل لذلك برجل خاف خروج وقت الظهر، وكان لم يصلّ راتبة الظهر التي بعدها، فأراد أن يتطوَّع بنفل مطلق، لكنه يقول: إن تطوعت بالنفل المطلق خرج الوقت عن صلاة الراتبة، فيقدّم صلاة الراتبة، لأن صلاة الراتبة نفل مقيّد تابع للمكتوبات، فهو أفضل من النفل المطلق.

ـ وكذلك لو تعارض واجب عيني وواجب كفائي، فإنك تقدّم الواجب العيني على فرض الكفاية، لأنه أعلى منه، والناظم يقول: (وخذ بعالي الفاضلين لا تَخَفْ) .

ـ في الصلاة أيضاً: لو بقي من وقت الظهر مقدار أربع ركعات، وعليه فائتة صلاة الفجر، فإنه يستغل الوقت فيصلّي الحاضرة، لأن الصلاة في وقتها أفضل بل هو الواجب إذا أمكن فيقدّم.

ـ وفي الصدقة أيضاً: فالصدقة تكون سراً وتكون علناً، والسر أفضل، ولهذا كان الرجل الذي تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، كان من الجماعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله[(182)].

مسألة: قول الناظم: (وادفع خفيف الضررين بالأخف) ... ألا يقال وادفع ثقيل الضررين إذ كيف يدفع الخفيف بالأخف؟

الإجابة: عندنا خفيف وأخف، والأخف أهون، فإذا كان الخفيف فيه ضرر، لكنه خفيف، والأخف فيه ضرر، لكنه أخف، فندفع الخفيف بالأخف، وكذلك الأثقل ندفعه بالثقيل، يعني: لو عكسنا فجعلناها في الثقل لقلنا: ادفع أثقل الضررين بالثقيل. والخفة والثقل أمر نسبي، قد يكون هذا الشيء خفيفاً بالنسبة لما هو أثقل منه وبالعكس.

31 ـ إنْ يجتمعْ معَ مُبِيحٍ ما مَنعْ**فَقَدِّمَنْ تغليباً الذي مَنَعْ

قوله: (ما مَنع) الفتح أحسن لأن المبيح هو الدليل والمانع هو الدليل، فإذا قلنا بالضم (ما مُنع) فهذا هو الحكم. أو يقال: (إن يجتمع مع مباح ما مُنع) لكن الأولى أن يقال: (مع مبيح).

قوله: (ما) : فاعل يجتمع.

(ما منع) : أي ما كان محرِّماً (فقدمن تغليباً الذي منع) : وإذا قدمنا الذي منع صار المباح حراماً، لأن هذا أبرأ للذمة، ولهذا قال العلماء: إذا اجتمع مبيح وحاظر قُدِّمَ الحاظر على المبيح.

يعني: إذا اجتمع موجِب المنع مع موجِب الإباحة فإننا نقدّم موجِب المنع، لأنه لا يتأتى اجتناب الممنوع إلا بترك المباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وقوله: (تغليباً) : إشارة إلى أن هذا الحكم من باب التغليب. والتغليب: طريق شرعي دلت عليه الأدلة الشرعية. ومثّلوا لهذه القاعدة بأمثلة، منها:

ـ إذا مسح الإنسان على الجوربين يوماً وهو مقيم، ثم سافر، فإذا قلنا: يغلب مسح المقيم لم يبق له سوى ليلة، وإذا قلنا: يغلب مسح المسافر زاد على الليلة ليلتين ويومين، هذه الزيادة تجاذبها أمران: سفر وإقامة، فالإقامة تمنع أن يمسح على الجوربين فيما زاد على يوم وليلة والسفر يبيح ذلك، فهل نقدّم السفر أو نقدّم الإقامة؟

الجواب: نقدّم الإقامة، لأن ما زاد على اليوم والليلة اجتمع فيه مبيح وحاظر فيقدّم جانب الحظر. هذا هو المشهور من المذهب[(183)] والمسألة فيها خلاف، والصحيح أنه يتم مسح مسافر، وعليه فلا يصح التمثيل للقاعدة بهذا المثال.

ـ رجل له في هذه القرية أخت من الرضاع، ونساء القرية محصورات في عشرة من النساء، ولكن لا يدري أي النساء أخته من الرضاع، هل تحرم عليه جميع النساء؟

الجواب: نعم، كل النساء اللاتي في هذه القرية، وهنَّ قليلات، يحرم عليه أن يتزوج واحدة منهن، لاحتمال أن كل واحدة هي المحرمة، أما إذا اشتبهت في بلد كبير فإن العلماء يقولون: لا أثر لهذا الاشتباه، ويتزوج مَنْ لا يغلب على ظنه أنها أخته.

ـ لو اشتبهت شاة مذكَّاة بشاة غير مذكَّاة، فإنه يجب اجتناب الجميع، لأنه لا يمكن اجتناب الشاة غير المذكَّاة إلا باجتناب الشاة المذكَّاة، فيغلب جانب المنع.

ـ لو اشترك مُحْرِمٌ ومُحِلٌ في قتل صيد، صار الصيد حراماً، لأنه اجتمع مع مبيح ما مَنَع، فغلب جانب الحظر.

وهذه القاعدة دلّ عليها القرآن الكريم. قال الله تبارك وتعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}} [المائدة: 90] فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وعلّل اجتناب الخمر والميسر في آية أخرى بأن فيهما إثماً كبيراً ومنافع للناس، فقال عزّ وجل: {{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}} [البقرة: 219] . والمنافع تقتضي الإباحة لكن لما غلب فيهما جانب الشر منع منهما فاجتمع فيه مبيح وحاظر فغلب جانب الحظر. لكنه سبحانه وتعالى لم ينهَ عن الخمر من أول الأمر لأن الناس كانوا يعتادونه ويشق عليهم جداً أن يدعوه مرة واحدة فكان التحريم متدرجاً شيئاً فشيئاً.

إذاً فالقاعدة أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر أي: سبب للإباحة وسبب للحظر، فليقدّم الحظر لأنه أحوط.

32 ـ وكلُّ حكمٍ فَلِعِلَّةٍ تَبِعْ***إِنْ وُجِدَتْ يوجدْ وإلا يَمْتَنِعْ

هذه من القواعد المهمة المفيدة: أن الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً. وإليها الإشارة بقوله: (وكل حكم فلعلة تبع) فجملة (لعلة تبع) جملة فعلية خبر المبتدأ وقرنت بالفاء لأن المبتدأ يشبه الشرط في العموم ثم بين وجه التبعية بقوله: (إن وجدت يوجد) أي إن وجدت العلة وجد الحكم فقوله: (إن) هذه شرطية وفعل الشرط فيها ماض (وجدت) والمضارع بعده جواب الشرط (يوجد) وابن مالك رحمه الله يقول:

وبعد ماضٍ رفعك الجزاء حسن***ورفعه بعد مضارع وهن

فيجوز في المضارع إذا وقع جواباً لشرط ماض الوجهان الجزم والرفع وهنا مشينا على الجزم، فقوله: (وإلا يمتنع) أي وإلا توجد العلة يمتنع الحكم، هذا في العلة المنصوصة لا شك فيه، وأما في العلة المستنبطة فإن أجمع العلماء على أن هذه هي العلة فإنها إذا وجدت يوجد الحكم وإلا فلا كالمنصوصة وإن اختلفوا فإنه لا يلزم من وجودها أن يتبعها الحكم لأنها غير منصوصة ولا متفق عليها.

والأحكام الشرعية كلها معلّلة، أي مبنية على مَعَانٍ وأوصاف مناسبة للحكم، ولكن العلّة على قسمين:

1 ـ علّة معلومة لنا.

2 ـ علّة غير معلومة لنا، وذلك لقصور أفهامنا عن الغايات الحميدة التي تثبت بها الأحكام الشرعية.

والحكمة من أن الله تعالى جعل بعض الأحكام علّتها معلومة وبعضها غير معلومة، هي الابتلاء والامتحان في كون الإنسان عابداً لله أو عابداً لهواه، لأنه إذا كان عابداً لهواه ولم يعرف علّة الحكم لم يستسلم، وإذا كان عابداً لله استسلم لحكم الله، سواء علم بالعلّة أم لم يعلم. فأحكام الله عزّ وجل كلها معلّلة.

ثم إن العلّة المعلومة تنقسم ـ أيضاً ـ إلى قسمين:

1 ـ علّة منصوصة. 2 ـ علّة مستنبطة.

فأما العلّة المنصوصة فلا شك أن الحكم يتبعها وجوداً وعدماً، إذا وُجِدَتْ وُجِدَ الحكم، وإذا انتفت انتفى الحكم، بلا خلاف بين العلماء فيما نعلم، لأن الشرع حكم بهذا الحكم مبنياً على هذه العلّة، وإذا انتفى الأساس انتفى الفرع.

مثال ذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه»[(184)]، فإذا تناجى اثنان دون الثالث ولم يحزن الثالث تناجيهما فهل يحرّم عليهما؟

الجواب: لا، وإذا لم يتناج اثنان، بل تكلما برفع صوت لكن بلغة لا يفهمها الثالث، ونعلم أن ذلك يحزنه، فالحكم ثابت، وهو التحريم، لأن العلّة موجودة، والحكم يدور مع علّته.

ـ ولو فرض أن رجلاً بين يديه ابنان، وهو يكتب أو يطالع أو ما شابه ذلك، فتناجى الابنان، فإن ذلك لا يحزنه، بل ربما يفرحه، لأن هذا من كمال الأدب أن يتناجيا في الكلام من أجل أن لا يشوشا عليه، فتكون المناجاة هنا جائزة من أجل أن العلّة منتفية.

وأما العلّة غير المنصوصة (المستنبطة): فيكون فيها نزاع، فعند قوم قد تكون العلّة كذا، وعند آخرين قد لا تكون هذه نفسها، ولكن عند من يقول العلة كذا فإنها إذا وجدت وجد الحكم، وإذا تخلفت تخلف الحكم. أما إذا أُجمع على العلّة المستنبطة فإنها تكون كالمنصوصة يدور الحكم معها وجوداً وعدماً، وإن كانت محل خلاف فإنّ المخالف قد يمنع من ثبوت الحكم، لأنه يمنع أن هذه هي العلة.

ومثال العلة المستنبطة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر»[(185)]. إذا شرب الإنسان شيئاً لا يسكر هل يكون خمراً؟ الجواب: لا، هل يكون حراماً؟ نقول: لا، لأن علّة تحريم الخمر هي الإسكار، وهذه علّة مستنبطة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر»، لكنها تشبه المنصوص عليها لظهور علّيتها، وعلى هذا فنقول: إن ما أسكر فهو حرام، سواء كان من العنب أو التمر أو الشعير أو البر أو من أي شيء، وما لا يسكر فهو حلال.

ـ رجل شم رائحة فسكر منها، فإنه يحرم عليه الشم، كما يحرم عليه شرب المسكر، لأن العلّة الإسكار.

ـ رجل شرب نبيذاً مضى عليه يوم أو يومان، لكنه لا يُسكِرُ لا قليله ولا كثيره، فإنه يحلّ شربه، لأن علّة التحريم الإسكار، وهذا لم يسكر فهو حلال، ولو مضى عليه مدة.

ـ المرض يبيح الفطر مع المشقة، فإذا وجدت المشقة بالمرض ثبت الحكم، وأبيح للإنسان أن يفطر، وإذا لم يكن مشقة لم يبح الفطر لعدم وجود العلّة.

ـ الأموال الربوية: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، ليس في الحديث نص في علّة الربا فيها، والعلّة المستنبطة مختلف فيها، فهل إذا وجدنا شيئاً غير هذه الأصناف الستة نلحقه بها؟

الجواب: لو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص على العلّة لكنّا نلحقها، ولكن لما لم ينص فإن العلّة تبقى مستنبطة، والعلّة المستنبطة قد لا يتفق الناس عليها. إن اتفقوا عليها وأجمعوا على أن هذه علّة، فالإجماع كالنص، لكن إذا اختلفوا تبقى العلّة فيها نظر.

فمن العلماء من قال: العلّة في الذهب والفضة الوزن، والعلّة في التمر والشعير والملح والبر الطعم، فأجرى الربا في كل ما يوزن، وفي كل ما يطعم، وبناءاً على هذا: لو بعت رطلاً من الحديد برطلين من الحديد لكان ذلك ربا لأن الحديد موزون، ولو بعت تفاحة بتفاحتين لكان ذلك ربا، لأن التفاح مطعوم.

ومن العلماء من قال: العلّة في الذهب والفضة الثمنية أي: أنها ثمن الأشياء، فيقال: بعت الدار بكذا درهم، وبعت السيارة بكذا درهم، وبعت الكتاب بكذا درهم، فهي التي تُقوَّم بها الأشياء، وهي ثمن الأشياء، فالعلة الثمنية، وعلى هذا فلو جعلنا خشباً بدل الذهب والفضة ثمناً نتبايع به لجرى فيه الربا، ولو أبدلنا حديداً بحديد لم يكن فيه ربا لأننا نقول: العلة ليست هي الوزن بل العلة الثمنية، والعلة في الأصناف الأربعة الأخرى الكيل، وعلى هذا إذا وجدنا شيئاً مكيلاً ففيه الربا، سواء كان مما يؤكل أو لا يؤكل، يقتات أو لا يقتات، فلو قدر أن الرمل يباع بالكيل، فإنه يجري فيه الربا على القول بأن العلة الكيل، لأن الحكم يدور مع علته، والصابون البودرة الذي يغسل به إذا قلنا: العلة الكيل فهو يكال فيجري فيه الربا، وإذا قلنا: العلة الطعم فإنه لا يجري فيه الربا، والحاصل أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

ـ تزوج رجل بامرأة لكنه لم يدخل بها فهل عليه نفقتها؟

الجواب: ينظر هل النفقة في مقابل الاستمتاع، أو في مقابل ملك المرأة؟ إذا قلنا: إنه في مقابل ملك المرأة، قلنا: تجب عليه النفقة من حين العقد لأنه ملكها، ما لم تمتنع، فإن امتنعت سقطت نفقتها، وإذا قلنا: العلة الاستمتاع فإنه لا يجب عليه النفقة حتى يتسلمها، ويكون مثلها يُوطَأ أيضاً[(186)]، فإن تسلمها وهي صغيرة لا يُوطَأ مثلها فلا نفقة عليه.

ـ وإذا قال قائل: امرأة طُلِّقَتْ وهي ممن لا يلد ـ عقيم ـ فهل تجب عليها العدة؟

يقول بعض العلماء: إن العلّة في وجوب العدة العلم ببراءة الرحم، وعلى هذا لا تجب عليها العدة، لكن هذه العلّة غير صحيحة، والدليل على أنها غير صحيحة أن الحكم يثبت مع تخلف هذه العلّة قال تعالى: {{وَاللاََّّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاََّّئِي لَمْ يَحِضْنَ}} [الطلاق: 4] .

واللائي يئسن من المحيض لا يمكن أن يلدن، واللائي لم يحضن لا يمكن أن يلدن، ومع ذلك أوجب الله العدة، وبهذا يتبيّن أن القول بأن العلة في وجوب العدة هي العلم ببراءة الرحم قول ضعيف، بل العلة أن تبقى المرأة أمام الرجل مدة أطول حتى يتمكن من مراجعتها إذا شاء، لأن المطلّق قد يندم أو يُنَدَّم فيراجع، هذه هي العلة الصحيحة.

فإذا قال قائل: هذه العلة تنتقض عليكم بوجوب عدة الوفاة، لأن المتوفى لا يمكن أن يراجع، قلنا: هذا صحيح، لكن العلة في عدة الوفاة احترام حق الزوج، وحماية نكاحه من أن يتصل به نكاح غيره، ففيه قيام بحق الزوج، فليست العلة فيه العلم ببراءة الرحم، بل العلة فيه شيء آخر وهو حق الزوج واحترام نكاحه، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لعظم حقه ووجوب احترامه صلّى الله عليه وسلّم لا يحلّ لنا أن نتزوج أزواجه من بعده.

فإن قال قائل آخر: هذا ينتقض عليكم بالمطلقة طلاقاً ثلاثاً؛ فإنه يجب أن تبقى ثلاث حيض إن كانت تحيض، أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض، مع أن زوجها لا يمكن أن يراجعها، فنقول: هذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يقولون: إن المطلقة ثلاثاً ليس عليها إلا حيضة واحدة فقط، ومنهم من يقول: بل ثلاث حيض، والقائلون بذلك يقولون: وإن كان الرجل الذي أبانها ليس له عليها رجعة لكن النكاح له حرمة، فلهذا أوجبنا عليها أن تعتد بثلاث حيض أو بثلاثة أشهر.

مسألة: هل هناك فرق بين العلّة والحِكْمَة؟

الإجابة: ليس بينهما فرق، لكن الحكمة تكون علة غائية، والعلة قد تكون علة فاعلة، بمعنى: أنها سبب للحكمة، لأن العلة قد تكون هي الغاية، وقد تكون هي السبب.

مسألة: ما العلّة في تحريم سفر المرأة بغير محرم؟.

الإجابة: هذا مما اختلف فيه العلماء رحمهم الله، فقال بعضهم: إن العلّة في ذلك خوف الفتنة والشر والفساد، وإذا كان معها رجال كثيرون أو نساء وكانت آمنة فلا بأس، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(187)].

والقول الثاني: أننا لا ندري هل هذه هي العلة أو شيء آخر، والعلة إذا كانت عامة صار الحكم عاماً، وعندي في الوقت الحاضر خاصة، أن الأولى القول بالمنع مطلقاً.

مسألة: ما العلّة في تحريم التصوير؟.

الإجابة: العلّة في تحريم التصوير مختلف فيها، فقيل: خوفاً من الفتنة، مثل تصوير العظماء والأمراء وما أشبه ذلك مما يخشى أن يُعْبَد بعد زمان، كما صنع قوم نوح.

وقيل: إن العلة الاشتراك في الربوبية، بحيث يكون هذا المصور يريد أن يضاهي الله عزّ وجل في خلقه وفي تكوينه، وهذا دل عليه الحديث في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، الذين يضاهون بخلق الله»[(188)].

وبناء على هذه العلة قال بعض العلماء: إن كل شيء لا يخلقه إلا الله فتصويره حرام، حتى الشعير والبر وما أشبه ذلك، وهذا قول مجاهد رحمه الله. واستدل بقوله تعالى في الحديث القدسي: «فليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة»[(189)].

لكن بعضهم قال: إن هذا على سبيل المثال، يعني: أنهم لا يقدرون أن يخلقوا ولا الشيء الذي ليس فيه روح، وأما المحرّم فهو الذي فيه الروح، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كُلِّف أن ينفخ فيه الروح، وليس بنافخ»[(190)].

33 ـ وأَلْغِ كلَّ سابقٍ لسببِهْ***لا شرطِهِ فادْرِ الفروقَ وانتبهْ

الأحكام لها شروط ولها أسباب، فالسبب موجب للحكم والشرط مثبت له، فإذا فعل الشيء قبل سببه فإنه لا يصح، لأنه لم يثبت حتى يعتد به، لأن السبب موجِبٌ، وإذا فعله قبل شرطه فإنه يصح.

مثال ذلك: رجل حلف أن لا يدخل هذا البيت، فاليمين سبب للحنث، والحنث شرط للكفارة، لأنه لولا اليمين لم يكن عليه لا حنث ولا كفارة، فهذا الرجل حلف أن لا يدخل هذا البيت، ثم ندم وأراد أن يدخل، فهل له أن يقدم الكفارة قبل الدخول أو لا؟

الجواب: نعم، له ذلك، لأن السبب وجد وهو اليمين.

فإذا قال قائل: هذا الرجل لم تجب عليه الكفارة لأنه لم يدخل البيت، قلنا: دخول البيت شرط وليس بسبب، فيجوز على هذا أن يقدم الكفارة على الحنث، فإن دخل ثم كفّر، فالأمر واضح، لأنه وجد السبب والشرط، وهذه القاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله في القواعد الفقهية: أن الشيء قبل سببه لاغٍ، وبعده نافذ[(191)].

ـ ومن ذلك أيضاً: لو أن الإنسان أحرم بحج أو عمرة، فخاف أن يحتاج إلى حلق رأسه لأذى فيه، فقدّم الفدية قبل وجود الأذى، فإن ذلك لا يجزئه، لأنه لم يوجد سبب الوجوب، ولو أنه وُجِد الأذى، وقدم الفدية قبل حلق الرأس، جاز لوجود السبب وإن لم يوجد الشرط، وإن فدى بعد أن حلق رأسه، فهذا قد أدى العبادة بعد وجود السبب والشرط، فجاز.

ـ ومن ذلك الزكاة سبب وجوبها ملك النصاب، وشرط وجوبها تمام الحول، فلو أن إنساناً زكّى المال قبل أن يتم النصاب، لكن بناء على أنه سوف يتم، فإن الزكاة لا تجزئه، ولو أنه ملك النصاب ثم زكّى قبل أن يتم الحول أجزأه ذلك.

ـ رجل ظاهر من امرأته ولم يعزم على أن يطأها، فكفّر كفارة الظهار، هل يجوز وتجزئ؟

الجواب: نعم، ولو ظاهر من امرأته ثم عزم أن يعود، فقد وجبت عليه الكفارة، ولا يجوز أن يجامع حتى يكفّر، لأن الله تعالى قال: {{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا}} [المجادلة: 3] ولو أنه قال: أنا عندي نيّة أن أظاهر من امرأتي، وعزم على أن يظاهر، لكنه لم يتلفظ، ثم جاء يسأل؛ قال: هل يجوز أن أقدم كفارة الظهار قبل أن أظاهر ثم أظاهر؟

فالجواب: لا، لأن هذا قبل وجود السبب.

وللقاعدة أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات.

ثم قال: (فادر الفروق) : يعني: اعرف الفرق بين الأشياء الموجبة التي توجب الشيء، وهي أسباب، وبين الأشياء التي تكون شرطاً لصحة الشيء، بل نقول: إن قوله (فادر الفروق) يشمل هذا وغيره، وأنه ينبغي للإنسان أن يفرق بين جميع أبواب العلم.

فمثلاً: الإجارة والجعالة كلاهما عقد عمل، لكن بينهما فروق كثيرة ذكرها العلماء، وكذلك الفرض والنفل كلاهما صلاة ومع ذلك يفرق بينهما، وكذلك في الصيام والصدقة، فمن طرق العلم وتحصيله وحصره وجمعه أن يعرف الإنسان الفروق بين أبواب العلم، فإن هذا من أحسن ما يكون، ومن أهم وسائل العلم قال الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}} [الأنفال: 29] ، وسمّى الله كتابه فرقاناً فقال: {{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}} [الفرقان: 1] وأُلِّفَ في هذا كتب مثل الفروق للزُّرَيْرَانِي[(192)]، ولكنه رحمه الله يأتي بأشياء غير متفق عليها وفيها نظر، ومثل كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي فإنه لا بأس به، ومثل كتاب القرافي[(193)].

قوله: (وانتبه) أي كن نبيهاً للفروق فإنها قد تكون دقيقة.

مسألة: قلنا: إن الشيء قبل سببه لا يصح، وبعد السبب وقبل الشرط يصح بدليل الكفارة، لكن الصلاة إذا وجد السبب وهو دخول الوقت، وصلّى مع تخلف شرط من شروطها، فإنها لا تصح فما الجمع؟

والجواب أن نقول: هذا غير هذا، فإن الأصل أن الشيء لا يتم إلا أن تتم شروطه، والفرق بينهما واضح، فما ذكر في القاعدة هنا معناه: إذا علق الفعل على شرط ليس الفعل متروكاً فيه الشرط. والمثال الذي ذُكر في المسألة فعل فات فيه شرط من الشروط. أما فعل رتب على شرط وله سبب فنقول: إذا فعلته بعد السبب وقبل الشرط فلا بأس.

وتوضيح ذلك أن الشيء إذا كان له سبب وشرط ففعلته بعد السبب وقبل الشرط فهذا جائز، بخلاف ما لو كان قبل وجود الشرط الذي يشترط لصحته، لأن الشيء الذي يشترط للصحة لا بد من وجوده كالمثال الذي ذُكر في المسألة.

34 ـ والشيءُ لا يَتِمُّ إلا أنْ تَتِمْ***شروطُه ومانعٌ منه عُدِمْ

كلمة (الشيء) تعني: كل شيء في العبادات وفي المعاملات، في الأحكام الشرعية وفي الأحكام الجزائية، لا تتم الأمور حتى توجد أسبابها وشروطها، وتنتفي موانعها.

وهذه القاعدة قاعدة مهمة مفيدة، تنحل بها إشكالات كثيرة، كما سيتبيّن إن شاء الله في التمثيل.

وهذه القاعدة معلومة من التتبع، بل من النصوص أيضاً. قال الله تبارك وتعالى: {{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}} [الكهف: 110] . قوله: {{فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا}} هذا وجود الشرط {{وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}} وهذا انتفاء المانع.

وهذه قاعدة نافعة جداً تحل بها إشكالات كثيرة من أهمها أن نصوص الوعيد بالخلود في النار لغير الكفار تحمل على هذه القاعدة فيقال: هذا العمل سبب لهذه العقوبة لكن يمنع منها مانع وهو الإيمان فلا تتم لكن يكون المراد شدة التنفير منه.

ـ مثال هذه القاعدة في العبادات: لو فعل عبادة مع فقد أحد شروطها؛ كرجل صلّى بغير وضوء ناسياً، ثم تبيّن له بعد ذلك أنه صلَّى بغير وضوء، فصلاته لا تصح، لفوات شرط، وهو الوضوء، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»[(194)].

ـ رجل صلّى ولكن لغير القبلة، فصلاته غير صحيحة لتخلف شرط وهو استقبال القبلة.

ـ ومثال وجود المانع مع تمام الشروط في العبادات أن يصلّي الإنسان في وقت النهي صلاةً لا تباح فيه، كالنفل المطلق، كرجل جالس في المسجد بعد صلاة العصر، ثم طرأ عليه أن يتطوع بالصلاة، فقام يصلّي، فهذه الصلاة لا تصح، لوجود مانع من قبولها، وهي أنها في وقت النهي.

ـ كذلك نقول في الزكاة: لو أن رجلاً أعطى زكاته من يعلم أنه غني، فإنها لا تجزئه، لوجود المانع، وهو الغنى والغنيُّ، ليس أهلاً للزكاة.

ـ مثال ذلك في المعاملات: رجل باع بيعاً بثمن مجهول، فالبيع غير صحيح، لانتفاء شرط من شروطه، وهو أن يكون الثمن معلوماً، وقد دل على هذا الشرط قول أبي هريرة رضي الله عنه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر[(195)].

ـ رجل باع بيعاً ثم تبيّن بعد البيع أن السلعة ليست سلعته، فبيعه لا يصح، وذلك لفقد شرط وهو الملك، لأن البائع لم يملك السلعة.

ـ ومثال البيع الذي تمت شروطه مع وجود المانع، لو باع إنسان شيئاً بعد نداء الجمعة الثاني وهو ممن تجب عليه الجمعة، وباعه بيعاً تام الشروط، فإنه لا يصح، وذلك لوجود المانع من صحته، وهو وقوعه بعد نداء الجمعة الثاني، ممن تجب عليه الجمعة لقول الله تبارك وتعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}} [الجمعة: 9] .

ـ ولك أن تمثل أيضاً بالولد يرث أباه، فإنه إذا مات إنسان عن ولد، ذكر أو أنثى كان هذا الولد وارثاً له، لقوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}} [النساء: 11] لكن لو كان الولد مخالفاً لأبيه في الدين، فإنه لا يرثه، لوجود المانع، وهو المخالفة في الدين، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر»[(196)].

ـ في النكاح: امرأة تزوجت بدون ولي فالنكاح غير صحيح، لأن من شرط صحة النكاح أن يكون بولي، ولو تزوجت بولي، قد تمت فيه الشروط لكنها في العدة، فإن النكاح لا يصح لوجود المانع.

ـ في الأحكام الجزائية: هناك نصوص في الوعيد عامةٌ، تدل على وعيد لا يحصل إلا للكافر: مثل قول الله تبارك وتعالى في قتل العمد: {{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *}} [النساء: 93] فالقتل عمداً سبب لثبوت الخلود في النار، لكن هذا السبب له مانع من نفوذه في المؤمن وهو الإيمان، فإن الإيمان ـ وإن قلّ ـ يمنع من الخلود في النار.

ـ وكذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة نمّام»[(197)]، فنفي دخول الجنة هنا عام، وإذا لم يدخل الجنة فليس له مآل إلا النار، ولكن نقول: هذا الحكم، أو هذا السبب لدخول النار وانتفاء دخول الجنة له مانع في المؤمن وهو الإيمان.

وإذا قلنا: لا بد من وجود الشروط فهل يُكتفى في ذلك بالظن أو لا بد من اليقين أو ماذا؟

قال الناظم:

35 ـ والظنُّ في العبادةِ المُعْتَبَرُ***ونفسَ الامْرِ في العقودِ اعتبرُوا

هاتان القاعدتان عبّر عنهما العلماء بقولهم: العبرة في العبادات غالباً بما في ظن المكلف، والعبرة في المعاملات غالباً بما في نفس الأمر.

قوله: (اعتبروا) : يعني: العلماء، قالوا في باب العبادات: العبرة بالظن، وفي المعاملات: العبرة بما في نفس الأمر.

ووجه ذلك: أن العبادات حق لله تعالى، فاكتُفي فيها بالظن، لأنه هو المستطاع.

ويدل لهذا الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ثم ليبن عليه»[(198)]. وأما المعاملات فهي حق للآدمي فلا بد من موافقة التصرف لما في نفس الأمر.

مثال ذلك في العبادات:

ـ رجل ظن أن هذا الماء طهور فتطهر به وصلّى وبقي على ظنه فهل تصح صلاته؟

الجواب: نعم، تصح بناء على الظن.

ـ رجل غسل ثوبه من نجاسة حتى غلب على ظنه أنه قد تطهر من النجاسة، فالثوب طاهر ولو كان في نفس الواقع لم يتطهر، لأن العبرة بما في ظن المكلف.

ـ رجل صلَّى فلما كان في التشهد الأخير، شك هل صلَّى ثلاثاً أو أربعاً، وغلب على ظنه أنها أربع. فنقول: اكتف بهذا الظن واجعلها أربعاً، واسجد سجدتين للسهو بعد السلام. حتى لو فرض أن صلاته في الواقع كانت ثلاثاً، فإن صلاته صحيحة، لأن العبرة في العبادات بغلبة الظن.

ـ رجل يطوف بالبيت، فشك هل طاف ستاً أو سبعاً، وغلب على ظنه أنها سبعة أشواط فليجعلها سبعة، لأن هذا هو الظن، والعبادات مبناها على الظن، وإذا قدر أنه لم يطف إلا ستة أشواط في نفس الأمر فإنه لا يلزمه شيء لأن هذه المعاملة بينه وبين ربه والله تعالى محل العفو والسماح.

ـ رجل صلَّى الفجر بناءً على أن الفجر قد طلع، وبقي على هذا الظن، فصلاته صحيحة، حتى لو فرض أنه في الواقع قد صلَّى قبل الوقت، لأن العبرة بما في ظن المكلف.

ـ رجل صائم ظن غروب الشمس فأفطر، ثم تبيّن بعد ذلك أن الشمس لم تغرب فصومه صحيح، لكن عليه الإمساك من حين أن يعلم أن النهار باقٍ حتى تغرب الشمس حقيقة.

ودليل ذلك ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «أفطرنا ـ يعني في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ في يوم غيم ثم طلعت الشمس»[(199)]. ولم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلينا، لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله، وشريعة الله محفوظة.

ـ رجل أعطى زكاته لشخص يظن أنه من أهل الزكاة ثم تبيّن أنه ليس من أهل الزكاة، فزكاته مقبولة ومبرئة للذمة، لأنه بنى على غالب ظنه.

ويدل لهذا قصة الرجل الذي تحدث عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لأتصدقن الليلة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله، على سارق! لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد بغي ـ أي زانية ـ فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على زانية، فقال: الحمد لله، على زانية! لأتصدقن الليلة، فتصدق فوقعت صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون؛ تُصُدِّق الليلة على غني، فقال: الحمد لله، على سارق وزانية وغني! فقيل له: إن صدقتك قد قبلت، أما السارق فلعله يستعف ويستغني بما أعطيته عن السرقة، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فيتصدّق»[(200)].

فهذا الرجل وقعت الصدقة في غير ما يريد، لكنه ظن أنه الذي يريده، وهو أنه فقير عفيف ورع فوقعت الصدقة في غير هؤلاء، لكنه قيل له: إنها قد قبلت، لأن هذا كان الذي أداه إليه اجتهاده.

أما المعاملات: فالعبرة بما في نفس الأمر، لا بما في ظنه، وإن كان يحرم على المكلّف أن يتصرف فيما لا يظن أن له حق التصرف فيه. ومن أمثلة هذه القاعدة:

ـ رجل باع ملك زيد بدون توكيل منه، وبدون ولاية عليه، ثم لما باعه تبين أن زيداً قد مات وكان هو الذي يرثه، والبيع وقع بعد موت زيد، فبيعه صحيح، مع أنه حين باعه يعتقد أنه مُلْكُ غيره، لأن العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر، لكن إذا كان قد سرقها فهو آثم على نيّة الفعل، أما الفعل فتبيّن أنه صحيح.

ـ رجل باع مالاً لشخص، وكان صاحب المال قد وكلَّه في البيع، لكنه لم يعلم بالوكالة حتى باعه، فهنا نقول: إن البيع صحيح، لأنه وقع ممن يقوم مقام المالك وهو الوكيل، وإن كان حين البيع لم يعلم بالوكالة.

ثم قال الناظم مستدركاً:

36 ـ لكنْ إذا تَبَيَّنَ الظنُّ خَطَا***فأَبْرِئِ الذمةَ صَحِّحِ الخَطَا

هذا الاستثناء عائد على الشطر الأول من البيت السابق يعني: في العبادات، فإذا بنيت على الظن وتبيّن الظن خطأ (فأبرئ الذمة) بماذا أبرئها؟ قال: (صحح الخطا) هذه الجملة بيان لقوله: (فأبرئ الذمة) إذا تبيّن أن هذا الظن خطأ وجب عليك أن تعود إلى الصواب فتبرئ الذمة، وهذا إذا كان مما يمكن تداركه وتلافيه كأن يكون الخطأ المبني على الظن في ترك واجب فيعيد ما كان الصواب فيه خلاف ظنه أما المحرم فتكفي التوبة منه. مثاله قال:

37 ـ كرجلٍ صَلَّى قُبَيْلَ الوقتِ***فليُعِدِ الصلاةَ بعدَ الوقتِ

قلنا: (قبيل) : ولم نقل قبل الوقت، لأنه لا يمكن أن يغلب على ظنه أن الوقت دخل إلا إذا صلّى قبيل الوقت، أما أن يصلي في الضحى، قبل الظهر بوقت طويل، وهو يظن أن الظهر قد دخل وقته، فهذا وقوعه بعيد. لكن لو صلّى قبيل الوقت ظناً منه أن الوقت قد دخل ثم تبيّن أنه لم يدخل قال: (فليعد الصلاة بعد الوقت) ، وتكون الصلاة الأولى نافلة له.

مثال آخر:

ـ رجل ظن أن الشمس قد غربت فصلَّى المغرب، ثم تبيّن بعد ذلك أن الشمس لم تغرب، فهنا يجب عليه أن يعيد الصلاة إذا دخل وقت المغرب، أي إذا غابت الشمس.

فإن قال قائل: ما الفرق بين هذه الصورة وبين صورة الصائم إذا أفطر قبل أن تغيب الشمس، ثم تبيّن أن الشمس لم تغب فإنه يجزئه الصوم.

قلنا: الفرق أن الأكل في الصوم وجودُ مفسدٍ، فيعذر الإنسان فيه بالجهل، وأما الصلاة التي لم يدخل وقتها فهو فَقْدُ واجبٍ.

والعلماء يقولون: إن ترك المأمور لا يعذر فيه بالجهل، وأما فعل المحظور فيعذر فيه بالجهل، لقول الله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] فقال الله تعالى: «قد فعلت»[(201)].

ـ رجل غلب على ظنه أنه صلىّ أربعاً فسلم، ثم تبيّن بعد السلام أنه صلَّى ثلاثاً، فهل له أن يقول: أنا بنيت على غلبة الظن، والعبادات يكتفى فيها بغلبة الظن؟

الجواب: لا، لأنه تبيّن الخطأ، فيجب عليه أن يكمل أربعاً ويسجد للسهو إن علم في زمن قصير أو يعيد الصلاة من أولها إن علم بعد زمن طويل.

ـ رجل صلَّى يظن أنه على وضوء، ثم تبيّن بعد سلامه أنه ليس على وضوء، فهنا نقول: يجب عليك أن تتوضأ وتعيد الصلاة.

ـ رجل أكل لحم إبل، لكنه يغلب على ظنه حين أكله أنه لحم ضأن وصلَّى، فصلاته صحيحة، فإن تبيّن له فيما بعد أنه لحم إبل وجب عليه أن يعيد الوضوء والصلاة.

ـ رجل طاف ستة أشواط وغلب على ظنه أنها سبعة فانصرف، ولما مشى خطوات ذكر أنه إنما طاف ستة أشواط، فالواجب أن يعود ويأتي بالسابع لأنه إذا تبيّن الخطأ وجب العود إلى الصواب.

ـ رجل ظن أنه أخرج زكاة ماله، فلم يخرجها ظناً منه أنه قد أخرجها، فبنى على هذا الظن، ولم يُحْصِ ماله، ولم يؤد الزكاة، ثم تبيّن له بعد ذلك أنه لم يزكّ فهنا يجب عليه أن يحصي ماله الزكوي، وأن يزكي، لأنه تبيّن أن ظنه الأول ليس بصحيح، فوجب أن يأتي بالفعل الصحيح.

ـ رجل أعطى شخصاً زكاة بناءً على غلبة الظن أنه رجل فقير، ثم تبيّن أنه غني فالحديث السابق[(202)] يدل على الإجزاء، وهذا لم يخرج عن القاعدة، لأنه في هذه الصورة لا يمكن تصحيح الخطأ، إذ إن تصحيح الخطأ أن يسترد المال ممن أخذه، واسترداده المال ممن أخذه لا يمكن، لأنه ملكه بطريق شرعي، فلا يمكن أن ينتزع منه، فلهذا لا يُظَنُّ أن هذه خارجة عن القاعدة، وإنما لم نقل بإعادتها لأن الله تعالى لم يوجب عليه الزكاة مرتين.

مسألة: من أعطى غنياً يظنه فقيراً ويستطيع أن يعظه ويسترد المال منه فهل يلزمه؟

الإجابة: لا يلزمه، لأن الحديث دلّ على أنها قبلت بناءً على ظنه.

مسألة: ما الحكم إذا غلب على ظنه دخول الوقت فصلَّى، ثم تبيّن له أن الوقت لم يدخل، وما الفرق بين غلبة الظن في دخول الوقت وبين غلبة الظن في اتجاه القبلة؟

الإجابة: إذا صلَّى قبيل الوقت، ثم تبيّن أنه صلَّى قبل دخوله، فإنه يعيد الصلاة. ووجه ذلك: أنه صلَّى في وقت لم يؤمر أن يصلّي فيه، فتكون الصلاة حينئذ غير مأمور بها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(203)]. فلما دخل الوقت طولب بالصلاة.

وأما الخطأ في استقبال القبلة إذا كان في موضع اجتهاد، فلأنه صلَّى صلاة مأموراً بها، واتقى الله ما استطاع، وتوجه إلى حيث يرى أنه القبلة، فلم يقصّر في شيء، وقد طولب بأن يصلّي لأن الوقت قد دخل، فصلَّى على الوجه الذي أمر به حيث اجتهد واتقى الله ما استطاع، فلا تلزمه الإعادة.

مسألة: إذا شك الإمام في صلاته فبنى على غالب ظنه، ووافق ظنه الواقع وذلك بموافقة المأمومين له، فهل يسجد للسهو أو لا؟.

الإجابة: المسألة فيها خلاف بين العلماء. والمذهب أنه لا يسجد إذا تبيّن أنه مصيب فيما فعل، لأن السجود إنما لسببٍ تَبيَّنَ عدمُه[(204)]. وقيل: إنه يسجد لأنه أدى جزءاً من صلاته شاكّاً فيه، أي: في هذا الجزء لا يدري أزائد هو أم لا؟ ولم يتبيّن لي كثيراً رجحان أحد القولين.

مسألة: رجل في رحلة برية مع زملائه وعندما، قام لصلاة الفجر وجد نفسه محتلماً، والجو بارد جداً، ولا يستطيع استعمال الماء، فتوضأ وصلَّى على تلك الحالة، ثم أعاد الصلاة قبيل الظهر بعد تمكنه من الاغتسال، فهل تصح صلاته؟.

الإجابة: الرجل قد برئت ذمته على كل حال، لأنه أعاد الصلاة. لكن حسب السؤال لم يتيمّم لصلاة الفجر، وإنما توضأ، والوضوء يخفف الجنابة لا شك، لكن لا يرفعها، وعليه فإعادته الصلاة بعد اغتساله إعادة شرعية.

أما لو تيمّم لصلاة الصبح بناءً على أنه يخاف على نفسه البرد وصلَّى، فإنه لا تلزمه الإعادة.

38 ـ والشكُّ بعدَ الفعلِ لا يُؤثِّرُ***وهكذا إذا الشكوكُ تَكْثُرُ

39 ـ أو تك وهماً مثل وسوا س فدع***لكل وسوا س يجي به لكع

هذان البيتان في حكم الشك، هل يؤثر أو لا؟ وأنه لا يعتبر في ثلاثة مواضع:

والشك: هو التردد بين شيئين، فيشمل ما ترجح أحدهما على الآخر، وما لم يترجح، وهذا هو المراد، فالشك هنا يقابل اليقين.

قوله: (والشك بعد الفعل لا يؤثر) : هذا هو الموضع الأول مما لا يعتبر فيه الشك، يعني: الشك بعد فعل المشكوك فيه وانتهائه منه، لا يؤثر، لأن الأصل أن ما وقع إنما وقع على وجه السلامة والصحة. ولذلك لما شكا الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل يُخَيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة[(205)] ـ أي في نفس العبادة دون أن ينصرف منها ـ ومع ذلك أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن لا يلتفت إليه، لأنه شك، والشك لا يرفع اليقين. ولو فتح باب الشك بعد الفعل، لكان فتحاً لوسواس لا نهاية له.

لكن لو زال الشك وتبيّن له الأمر فإنه يرجع إلى اليقين، لأن مراد العلماء بالشك هنا إذا دام شكه.

ومن أمثلة هذا:

ـ إنسان توضأ ولما انتهى وضوؤه، شك هل تمضمض أو لا. فنقول: لا شيء عليه، وعليه أن يستمر، ولا أثر لهذ الشك، لأنه بعد الفراغ من الفعل.

ـ رجل صلّى، ثم بعد الفراغ من صلاته شك هل صلَّى ثلاثاً أو أربعاً، فنقول: لا يلتفت إلى هذا الشك، لأنه بعد الفراغ من العبادة.

ـ إنسان صلَّى الصلاة، وبعد سلامه منها شك هل سجد مرتين أو مرة واحدة، فصلاته صحيحة، ولا يلتفت لهذا الشك، لأنه لو التفت لكانت الشكوك تتوارد عليه ويقول: ربما لم أسجد إلا سجدة واحدة في كل ركعة، وحينئذ يعيد الصلاة من أولها.

ـ رجل بعد أن فرغ من صومه شك هل نوى أنه عن القضاء أو أنه نفل؟ فنقول: لا يلتفت لهذا الشك.

ـ رجل بعد فراغه من الطواف وانصرافه من مكان الطواف شك هل طاف سبعاً أو ستاً فنقول: لا يلتفت، ويُحْكَمُ له أنه طاف سبعة.

وهذه القاعدة مأخوذة من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين شُكي إليه الرجل يخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً[(206)]، لأن الأصل بقاء طهارته، والأصل أن طهارته صحيحة، فالشك هنا ليس وارداً على الصلاة بل وارد على الوضوء، والوضوء عبادة قد تمت ثم طرأ عليها الشك هل أحدث أو لا، فلا يلتفت إليه. ولو اعتبرنا مثل هذه الشكوك ما بقيت عبادة إلا ونحن نشك فيها.

قوله: (وهكذا إذا الشكوك تكثر) : هذا هو الموضع الثاني مما لا يعتبر فيه الشك، فإذا كان الإنسان شكَّاكاً، كلما فعل عبادة شك، إن توضأ شك، وإن استنجى شك، وإن صلَّى شك، وإن صام شك. فهنا نقول: ألغِ هذا الشك، ولا تعتبره، لأن كونه لا يفعل وضوءاً ولا صلاة ولا غيرها إلا شك، هذا مرض في الواقع، فلا يلتفت إليه، لأننا نعلم أنه ما دام الإنسان له عقل واختيار فإنه سوف يفعل الشيء على ما طلب منه، ولو أنه اعتبر كل ما شك فيه؛ لتعب ولصار كلما صلَّى أعاد الصلاة، وكلما توضأ أعاد الوضوء، وهذا من الحرج وقد قال الله تعالى: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] فيلغى هذا الشك.

قوله: (أو تك وهماً) : هذا هو الموضع الثالث مما لا يعتبر فيه الشك، يعني: إذا كانت الشكوك وهماً مثل الوساوس، فالموسوس ـ نسأل الله العافية ـ لا يبني على أصل، بل مجرد وهم، والغالب أن الموسوس تكثر معه الشكوك، والوسواس لا دواء له إلا الإعراض والتلهي عنه، لكن لو فرض أن الشكوك لا تكثر معه، ثم حصل له وهم، فإنه لا يلتفت إلى هذا الوهم، سواء كان في أثناء العبادة أو بعد فراغه منها، لأن الوهم لا يُرجع إليه.

والوهم: هو الشك المرجوح، والراجح ظن، لأن ما عدا العلم إما شك إذا تساوى الطرفان، وإما ظن إذا ترجح أحد الطرفين، فالراجح ظن، والمرجوح وهم لا يُلتفت إليه.

وبذلك نستريح في الواقع من مشاكل كثيرة، لأنه يوجد من بعض الناس أنه يشك هل طلق زوجته أو لا؟ يشك إما في اللفظ الذي صدر منه؛ هل قال: طالق، أو قال: تذهب إلى أهلها، أو قال: سوف أطلق، وما أشبه ذلك. وإما أن يشك هل تلّفظ أو لم يتلفظ، كل هذا نقول: لا عبرة به، ما دام يترجح عنده عدم ذلك، فالأصل أن هذا وهم، وحتى لو كان شكاً متردداً، أو غالباً على الظن، فإنه لا يعتد به، لأن الأصل بقاء النكاح، واليقين لا يزول بالشك.

ويوجد من الناس من يبتلى بالوساوس، حتى إنه إذا شرب الماء وتنفّس فيه ثلاثاً، يقول له الشيطان: طَلَّقْتَ زوجك في النفس الأول الطلقة الأولى، والثانية في النفس الثاني، والثالثة في النفس الثالث، فهي الآن بائنة منك. وإنما ذكرنا هذا المثال لأنه واقع، حتى إن بعضهم إذا قام يقرأ في القرآن وقلب الأوراق، يأتيه الشيطان كلما قلب ورقة قال: هذه طلقة... وهكذا.

وبعض الناس يأتيه الشيطان في جانب الرب عزّ وجل، بالشك في الرب، أو في صفة من صفاته، أو في فعل من أفعاله، من أجل أن يلبس على الإنسان دينه، حتى إن الصحابة شَكَوا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن الواحد منهم يجد في نفسه ما يحب أن يخر من السماء ولا يتكلم به. أو ما يحب أن يكون فحمة، حُمَمَةً سوداء، ولا يتلفظ به، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ذلك صريح الإيمان[(207)]، وأنه لا يضر.

ولهذا يجب على الإنسان أن لا يلتفت إلى مثل هذه الوساوس حتى لا تضره، بل يعتمد على ما في قلبه من الإيمان، ويستعين بالله تعالى، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم، ويستمر في عبادته لله عزّ وجل، فإذا فعل ذلك لم تضره هذه الوساوس، بإذن الله، وعرف الشيطان أنه لا مدخل له على هذا الإنسان، فيعود خاسئاً ذليلاً.

قوله: (فدع) : يعني: اترك (لكل وسوا س يجي به لكع) : لكع: كلمة ذم، والمراد به هنا الشيطان أي: يجيء به الشيطان، واللكع: اللئيم، ولا أحد أَلأَْم من الشيطان الرجيم.

والمعنى: دع كل الوساوس واتركها، لأن الوساوس إنما تأتي من الشيطان، من أجل أن ينكد على الإنسان حياته، ويلبِّس عليه دينه.

وخلاصة ما سبق أن الشك ينقسم إلى قسمين:

1 ـ شك في أثناء الفعل. وهذا قد يكون من كثير الشكوك، وقد يكون وهماً.

2 ـ شك بعد الفعل.

ولكل واحد من هذه الأحوال حكمه.

وأما إذا كان الشك في غير هذه المواضع فإنه يكون معتبراً.

تنبيه: في هذه الأحوال التي يطرح فيها الشك إذا تبين له اليقين فإنه يعمل به لأن مراد العلماء بالشك في هذا إذا دام شكه مثال ذلك: رجل شك بعد فراغه من الصلاة هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فإنه لا يلتفت إليه لكن إذا تيقن أنه لم يصل إلا ثلاثاً وجب عليه أن يأتي بالرابعة ويسجد للسهو بعد السلام إن قصر الزمن وإن طال الزمن أعاد الصلاة من جديد.

مسألة: ما الفرق بين الاشتباه والشك؟

الإجابة: الاشتباه يكون في المحسوسات، بأن يشتبه عليك هذا الشيء: هل هو ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص، هل هو زيد أو عمرو، والشك يكون في القلوب والتصور.

مسألة: ذكرنا أن الشك بعد العبادة لا يؤثر، فإنسان صلَّى ثلاث ركعات، وفي الركعة الرابعة شك: هل في الركعة الأولى سجد سجدتين أو سجدة واحدة، فما حكمه؟

والجواب أن نقول: ما دام أنه في أثناء الصلاة فإنه يلغي الركعة الأولى، وتكون الركعة الثانية بدلها، وقلنا ذلك لأنه إلى الآن لم يفرغ من الصلاة، فلا نحكم بصحة الصلاة حتى ينتهي منها.

مسألة: إذا صام الرجل، ثم بعد أن انتهى من صيامه شك: هل نوى القضاء أو النفل، إذا كان عليه قضاء، ومن عادته أن يصوم الثلاث البِيض، ولم يتيقن؛ فهل صوم هذا للثلاث البيض أو للقضاء؟

والجواب أن نقول: هذه قرينة تؤيد أن صومه كان للبِيض، ما دامت هي عادته، والقضاء ليس على الفور فهنا يحمل على ما اعتاده.

مسألة: إنسان صار يحدّث نفسه: أَطَلَّقَ أو لم يطلّق زوجته، فقال: أطلقها وأستريح، فطلقها، فهل يقع طلاقه؟

والجواب أن نقول: إن كان مريداً للطلاق طَلُقَت، وإن كان من ضغط الوسواس عليه فإنها لا تطلق، وهنا طلّق: يريد أن يستريح فلا تطلق، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق في إغلاق»[(208)]. ولهذا ذكر كثير من العلماء أن طلاق الموسوس لا يقع بناءً على هذا.

مسألة: رجل أصيب ابنه بوسوسة عظيمة في الوضوء، فأفتاه بترك الصلاة لمدة شهر وبعد نهاية الشهر شفي ابنه من هذا الوسواس، فهل عليه شيء وهل على ابنه قضاء؟.

نقول: هذه الفتوى غير صحيحة لأنه أفتاه بترك ما هو واجب عليه، وفرض من فروض الإسلام، لكن من رحمة الله به أن شفى ابنه.

والواجب أن ينصح هذا الابن بترك الوسواس ويقف عنده من يعينه حين الوضوء، حتى إذا أتم الثلاث قال له: قف. وهذا وإن كان فيه مشقة لكن تُ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://eldaaia-gantelfrdous.yoo7.com
 
منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 6- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 2- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 3- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 4- الشرح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الداعية جنة الفردوس :: العلوم الشرعية :: علم الفقه-
انتقل الى: