الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
السلام عليكم ورحمة الله وبركته
أهلاً ومرحاً أيها الزائر العزيز في منتدى الداعية جنة الفردوس الإيسلامي
نرجو منك أن تشرفنا بنضمامك معنا في المنتدى
اذا كنت منضم معنا فرجاءً سجل الدخول
تحيات الداعية جنة الفردوس
الداعية جنة الفردوس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى اسلامي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الداعية جنة الفردوس
Admin
Admin
الداعية جنة الفردوس


عدد المساهمات : 4517
جوهرة : 13406
تاريخ التسجيل : 03/01/2013

  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح Empty
مُساهمةموضوع: منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح     منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 28, 2013 11:46 pm



منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح
25 ـ والأصلُ أن الأمرَ والنهيَ حُتِمْ***إلا إذا النَّدبُ أو الكُرْهُ عُلِمْ
====================================================
قوله: (الأصل أن الأمر) : أي أمر الله ورسوله، (والنهي) : أي نهي الله ورسوله. (حتم) : يعني لازم. فالأصل أن أمر الله لازم الفعل، والنهي لازم الترك، وهذا معنى قولهم: الأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم إلا إذا دل دليل على أن الأمر للندب أو أن النهي للكراهة أو لغير ذلك من القرائن ولهذا قال: «إلا إذا الندب أو الكره علم»، وهذه القاعدة من قواعد أصول الفقه، وهي على فرعين:

* الفرع الأول:

الأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم.

وقد اختلف الأصوليون: هل الأمر يقتضي الوجوب أو الندب؟ وفي النهي: هل يقتضي التحريم أو الكراهة؟ إذا لم يوجد قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب، أو عن الندب إلى الإباحة أيضاً، وكذلك النهي إذا لم يوجد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة، أو عن الكراهة إلى الإباحة أيضاً، فكلامنا في الأمر المجرد، والنهي المجرد.

القول الأول: أن الأصل في الأمر الوجوب، لقول الله تعالى: {{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [النور: 63] فحذّر الله تعالى المخالفين عن أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم من إحدى هاتين العقوبتين: أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم. فقوله: (فليحذر) : اللام هنا للأمر، والمراد بها التهديد. (يخالفون عن أمره): ولم يقل: يخالفون أمرَهُ، أي: يخرجون عن أمره وطاعته.

ولهذا نقول: إن الفعل هنا مُضَمَّنٌ معنى الخروج. وكلمة (أمره) : عامة؛ لأنها مفرد مضاف، فتعم جميع أوامره؛ أي أن الإنسان مهدد بأن تصيبه فتنة أو يصيبه العذاب الأليم إذا خالف أمر الله تعالى.

قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعلّه إذا رَد بعضَ قوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقع في قلبه شيء من الزيع فَيَهْلِك[(121)].

والفتنة في الحقيقة أعمّ مما قال الإمام أحمد رحمه الله، لكن الإمام أحمد ذكر أعلاها وأطمّها وأعظمها وهو الشرك، وإلا فقد تكون الفتنة دون الشرك، قد يحصل للإنسان ما يصرفه عن ذكر الله عزّ وجل ويُغْفِل قلبه عن ذكره، وهذه فتنة.

وهذه العقوبة شديدة، أعني: عقوبة الشرك والمعاصي، فهي في الحقيقة لمن كان عاقلاً أشد من العقوبة الحسية؛ وذلك لأن هذه العقوبة تؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة. يقول الله عزّ وجل: {{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}} [المائدة: 49] .

أما العذاب الأليم: فظاهره أنه عذاب مؤلم، إما في الدنيا، وإما في الآخرة.

الدليل الثاني: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر أصحابه في غزوة الحديبية أن ينحروا ويحلّوا توقفوا رضي الله عنهم[(122)]، لكننا نعلم أنهم لم يتوقفوا عصياناً، ولكنهم توقفوا انتظاراً لأمر يحدث، لعل الأمر ينسخ، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحياناً يأمر بالشيء ثم يُراجَع فيه، ويدع الأمر الأول إلى أمر ثانٍ، كما وقع في غزوة خيبر حين رأى القدور تغلي باللحم فقال: «ما هذا؟» قالوا: يا رسول الله! هذه حُمُر، فأمر أن تكفأ القدور، وأن تكسر، فقالوا: يا رسول الله! أوْ نغسلها؟ قال: «اغسلوها»[(123)]، فهنا نسخ الحكم الأول إلى حكم آخر وهو الأمر بالغسل فالصحابة رضي الله عنهم لما أُمِروا بالنحر والحِلّ، وكانوا قد جاؤوا من المدينة ووصلوا إلى قرب مكة ـ الحديبية ـ وهم ألف وأربعمائة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومعهم هديهم، وهم أولى الناس بالبيت يقولون: لبيك اللهم لبيك، ثم يمنعون عن مكة، لا شك أن هذا سيكون شديداً جداً على النفوس، ولهذا تلكأ الصحابة رضي الله عنهم رجاء أن ينسخ الحكم.

فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على أم سلمة رضي الله عنها مغضباً، وكانت أم سلمة من دهاة النساء، عاقلةً حكيمةً، فقالت: ما لك؟ فأخبرها، قالت: يا رسول الله! أتريد أن يحلقوا؟ قال: «نعم»، فقالت: اخرج، وادع الحلاَّق، واحلق رأسك، ففعل، فلما رأوه قد حلق كاد يقتل بعضهم بعضاً، يتدافعون عند الحلاق[(124)] لأنهم رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشاهدوه يفعل، فعلموا أن النسخ الآن غير ممكن.

فهذا يدل على أن الأمر للوجوب، وإلا لما غضب الرسول صلّى الله عليه وسلم.

الدليل الثالث: ما حصل في حجة الوداع؛ فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم والأغنياء من الصحابة ساقوا الهدي من المدينة تعظيماً لشعائر الله، وفي أثناء الطريق أمر من لم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة[(125)] ليصير متمتعاً. ولكن الصحابة لم يروا منه عزيمة. فاستمروا على ما هم عليه.

ولما وصل مكة وطاف وسعى أمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قالوا: يا رسول الله! كيف وقد سمَّينا الحج ـ يعني لبّينا بالحج ـ؟ فقال: «افعلوا ما آمركم به، ولولا أني سقت الهدي لأحللت معكم، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي» وغضب حتى أوردوا عليه مسألة يستحيى منها، كل ذلك لعلّه ينسخ الأمر، قالوا: يا رسول الله! أيخرج أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيّاً؟! يعني من جماع النساء، لأنه إذا حلّ حلّ من كل شيء، قال: «افعلوا ما آمركم به»[(126)] وغضب صلّى الله عليه وسلّم فهذا مما يستدل به على أن الأمر للوجوب.

إذاً هذه ثلاثة أدلة؛ واحد من القرآن، واثنان من السنّة، كلها تدل على أن الأصل في أمر الله ورسوله الوجوب.

في مقابل ذلك الأصل في النهي التحريم، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه»[(127)] فالأمر بالاجتناب للوجوب، وإذا وجب الاجتناب صار الفعل محرماً.

ويمكن أن نستدل أيضاً من باب القياس بقوله تعالى: {{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}} [الحشر: 7] فهذه الآية في الفيء، وهو عطاء المال، فما سواه من باب أولى.

وعلى هذا نقول: الأصل في الأمر والنهي أنهما محتومان، الأمر واجب الفعل؛ والنهي واجب الترك إلا بدليل.

وقال بعض الأصوليين وهو القول الثاني : الأصل في الأمر والنهي عدم الحتم، وأن المأمور به فعله أفضل، والمنهي عنه تركه أفضل.

وعلّلوا قولهم هذا بأن الأمر به يقتضي طلب فعله، والنهي عنه يقتضي طلب تركه، والأصل براءة الذمة فيما لو ترك المأمور أو فعل المحظور، فلا يمكن أن نؤثمه أو نشغل ذمته بأمر مشكوك فيه.

لكن هذا التعليل معارض بالأدلة السمعية التي سقناها في أن الأمر واجب الفعل وأن النهي واجب الترك.

فإن قال قائل: هذا الأصل (أن الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم توجد قرينة) ينتقض بمسائل كثيرة ذكر العلماء أنها للاستحباب، وهي أوامر ونواه، فقالوا في النواهي: إنها مكروهة، وقالوا في الأوامر: إنها مستحبة، وهي كثيرة، فما الجواب؟

قلنا: الجواب على ذلك أن نأخذ بالأصل ما لم يمنع منه دليل أقوى منه هذا أولاً.

ثانياً: أن بعض العلماء سلك مسلكاً جيداً، وهو:

القول الثالث في المسألة: أن الأوامر تنقسم إلى قسمين: أوامر تعبدية، وأوامر تأديبية، يعني من باب الآداب ومكارم الأخلاق.

فما قصد به التعبّد فالأمر فيها للوجوب، لأن الله تعالى أمرنا بها ورضيها لنفسه أن نتقرب إليه بها فوجب علينا أن نقوم بذلك إن كانت أمراً وأن نترك ذلك إن كانت نهياً.

أما إذا كانت من باب الآداب ومكارم الأخلاق وليس هناك علاقة بينها وبين التقرب إلى الله عزّ وجل فإن الأمر فيها يكون للاستحباب والنهي فيها للكراهة لا للتحريم، إلا إذا ورد ما يدل على الوجوب فهو للوجوب، لأن هناك فرقاً بين العبادة وبين الأدب.

وهذا القول أضبط من القولين المطلقين السابقين؛ وذلك لأنك إذا تتبعت كثيراً من الأوامر فيما يتعلق بالآداب والأخلاق وجدتها للاستحباب والندب لا للوجوب، وكذلك إذا تأملت كثيراً من النواهي في الأخلاق والآداب وجدتها للكراهة لا للتحريم.

وهذه طريقة جيدة، ويتخلص بها الإنسان من إيرادات كثيرة.

مثال ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا لبستم فابدؤوا باليمين»[(128)]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا خلعتم فابدؤوا بالشمال»[(129)]. فهل نقول: هذا الأمر للوجوب، فيجب على الإنسان إذا لبس أن يبدأ باليمين، وإذا خلع أن يبدأ بالشمال؟

الجواب: لا، ولكن هذا على سبيل الاستحباب لأنه من باب التأدُّب، فما كان من باب التأدب فإنه يحمل على الاستحباب، وما كان من باب التعبّد فإنه يحمل على الوجوب، ما لم يوجد قرينة في الموضعين تدل على أن الأمر للاستحباب في مسألة التعبّد، أو للوجوب في مسألة التأدب.

مثال ما دل الدليل على أنه للوجوب وهو من باب الأدب: الأكل باليمين، هو من آداب الأكل بلا شك، لكن الأمر به للوجوب، والنهي للتحريم، لوجود قرينة تدل على هذا، وهي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»[(130)]. ونحن منهيون عن اتباع خطوات الشيطان وموافقته، لأنه عدو لنا والعدو لا ينبغي أن يكون إماماً لك، فليس من العقل ولا من الشرع أن يكون عدوك إماماً لك.

وهل النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حين قضاء الحاجة من باب الآداب أم من باب العبادات؟

الجواب: من باب العبادات، لأن المقصود تعظيم الكعبة، فيكون النهي هنا للتحريم كما هو الأصل.

ومن القرائن التي تصرف الأمر في الآداب من الاستحباب إلى الوجوب، والنهي من الكراهة إلى التحريم: ما لو تضمَّن إيذاءً للمسلم أو إسقاطاً لحقه، فإنه يكون واجباً في الأمر، حراماً في النهي، من أجل العارض الذي عرض له، فقوله تعالى: {{وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}} [الحجرات: 12] . لا يمكن أن نقول: النهي فيه للكراهة، بل هذا للتحريم، لأن فيه أذية للغير، وقد قال الله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *}} [الأحزاب: 58] . وفيه أيضاً امتهان للغير، وحطّ من قدره، وهذا لا شك أنه عدوان.

وهذا القول ـ أي القول الثالث في المسألة ـ إذا تأملته وجدت فيه قوة حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله قال: إن الأمر إذا كان المقصود منه الإكرام، فإن مخالفته تأدباً لا تعد معصية، ولا يأثم الإنسان بها. واستدل لذلك بقصة أبي بكر رضي الله عنه حين خلَّفه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة ليصلّي بالناس[(131)]. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف، فرجع فوجده يصلّي بالناس. فلما التفت أبو بكر فإذا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم فتقهقر فردّه النبي صلّى الله عليه وسلّم لكنه خالف ورجع، ولما سلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «ما شأنك؟» قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(132)].

وهذا من القرائن التي تحول الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، لكن هل الأولى الأدب أو الامتثال؟

الظاهر أن الامتثال أولى، لكن لقوة تعظيم أبي بكر للرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنه رأى أنه لو استمر في صلاته أفسد صلاته بالوساوس والانشغال، كيف يصلي الرسول صلّى الله عليه وسلّم وراءه مأموماً به، فرأى أن تأخره خير له في عبادته التي هي الصلاة، لا مجرد إكرامٍ للرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل تأخر إكراماً وإقاماً للصلاة.

لكن لو كانت المسألة على خلاف ذلك، كأن يكون أدباً عادياً، فهم يقولون: إن الامتثال خير من الأدب.

إذاً الأقوال ثلاثة: الأول: أن الأمر للوجوب، والنهي للتحريم مطلقاً. الثاني: أن الأمر للاستحباب، والنهي للكراهة مطلقاً. الثالث: التفصيل بين ما كان للتعبّد، وما كان للتأدب فالأول: الأمر فيه للوجوب، والنهي للتحريم. والثاني: الأمر فيه للندب، والنهي للكراهة.

* الفرع الثاني:

الأصل في الأمر والنهي الفورية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لما تأخر الصحابة رضي الله عنهم عن التحلّل في صلح الحديبية[(133)]، وكذلك غضب حين تأخروا عن التحوّل إلى العمرة في حجة الوداع للمتمتع[(134)]، ولولا أن الأوامر على الفور ما غضب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لذلك.

ثم هناك دليل واقعي يدل على أن الأوامر على الفور، وذلك أنه إذا أتى بها على الفور صار أدل على تعظيم الله عزّ وجل، ويتضح ذلك بالمثال:

لو أمرك شخص بأمر ثم قمت فوراً وأتيت بهذا الأمر، لعدّك الناس مكرّماً له، معزّزاً معظّماً له، ولو أمرك بأمر ثم توانيت ثم أتيت بالأمر لعدّك الناس ناقص التعظيم والإعزاز، فإذا كان هذا فيما يتآمر به الناس بعضهم مع بعض، فكيف بأمر الله؟!

وهنا دليل عقلي وهو أن الإنسان لا يأمن العجز عن المأمور إذا أخّره، سواء كان العجز مع البقاء أو العجز بالفناء، فقد يموت الإنسان، وقد لا يموت، لكن يعجز عن تنفيذ الأمر، فكان مقتضى العقل أن يبادر به، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله كلمة جيدة قال: من وجب عليه الحج فليبادر، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له[(135)]. ويمكن أن يؤخذ هذا من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»[(136)] فالأول: تحذير من العجز. والثاني: تحذير من الموت والفناء. فلا ينبغي للعاقل أن يتأخر في تنفيذ أمر الله ورسوله[(137)].

قوله: (إلا إذا الندب أو الكره علم) : فقوله: (إذا الندب) عائد إلى الأمر. وقوله: (أو الكره) عائد إلى النهي، وهذا الاستثناء على سبيل التمثيل؛ وإلا فقد يدل الأمر على الإباحة، والنهي على رفع الحرج، وكل هذا يتعيّن بالقرائن، أو بتنزيله على القواعد الشرعية.

والمعنى: إذا علم الندب في الأمر، أو الكره في النهي، فنأخذ بما علمنا، ونعلم هذا إما من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو من قوله، أو من إجماع العلماء، أو من وجود نظير له في الشرع قد صرّح بأنه للندب أو ما أشبه ذلك.

المهم أن طرق العلم بأن الأمر للندب والنهي للكراهة كثيرة.

أحياناً يكون الأمر ليس للوجوب ولا للاستحباب، بل لإعادة الحال إلى ما كانت عليه، مثل قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}} [المائدة: 2] . فهنا أمر بالاصطياد بعد الحل، وليس على سبيل الوجوب بالإجماع، ولا على سبيل الاستحباب أيضاً، ولهذا لم يعمل المسلمون بهذا، يعني: ما منهم أحد إذا حل ذهب يطلب الصيد، لكن الأمر به بعد النهي عنه يفيد رفع النهي، فيبقى الاصطياد على ما كان عليه من قبل، فيكون حلالاً. لكن قد يكون الصيد واجباً كما لو اضطر الإنسان إلى الأكل ولا طريق له إلا الصيد فهنا يكون الصيد واجباً، وقد يكون مستحباً حسب ما يقترن به من الأحوال.

وقوله: (أو الكره علم) : كذلك إذا علمنا بالقرينة أن النهي للكراهة، فإننا نصرفه من التحريم إلى الكراهة، ويمكن أن نمثل لذلك بالنهي عن الالتفات في الصلاة[(138)]، فإنه ليس للتحريم بل للكراهة، والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز الالتفات لأدنى حاجة[(139)]، والحرام لا يجوز لأدنى حاجة، بل لا بد من ضرورة.

وكثيراً ما يكون الدليلُ على أن النهي للكراهة فعلَ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلاً: ثبت عنه أنه «نهى عن الشرب قائماً»[(140)]، وفي بعض الألفاظ: «زجر عن الشرب قائماً»[(141)]، لكنه شرب قائماً بأدنى حاجة، فشرب قائماً من شن معلق ولو كان النهي للتحريم ما شرب، لأنه بإمكانه أن يحمل الشن وينزله إلى الأرض ويشرب، وشرب من ماء زمزم قائماً، وذلك لازدحام الناس وكثرتهم حوله، وهذه حاجة وليست ضرورة؛ لأنهم لو رأوه تهيأ للجلوس لأفسحوا له، وعليه فيكون النهي هنا للكراهة.

وأما ما ذهب إليه بعض العلماء من أن فعله لا يخصص قوله ولا ينقله عن حكمه الأصلي، فهذا غير صحيح. وممن ذهب إلى هذا الشوكاني رحمه الله، فإنه يرى أن فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يخصص قوله ويقدم عموم القول[(142)] لكن قوله رحمه الله مرجوح لأن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وفعله كلاهما سنة وتقديم عموم القول يستلزم طرح السنة الفعلية.

26 ـ وكلُّ ما رُتِّبَ فيه الفَضْلُ***من غيرِ أمرٍ فهْو ندبٌ يَجْلُو

قوله: (وكل ما رتب فيه الفضل) : هذه القاعدة تبيّن أنه إذا رتب الفضل على عمل قولي أو فعلي بالحث والترغيب والجزاء وما أشبه ذلك، بدون أن يؤمر به فإنه للندب، وذلك لأن هذا الفضل الذي رتّب عليه يقصد به الترغيب في فعله، ولكن لما لم يؤمر به علم أنه ليس بواجب، ولو أمر به لكان منزلاً على الخلاف السابق.

وهذا نجده كثيراً في النصوص، مَنْ فعل كذا فله كذا، كقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة»[(143)].

ـ ومن ذلك أيضاً: السواك. قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب»[(144)]. هذا الحديث بمجرده يدل على أن السواك سنّة، وليس بواجب، لأن ترتيب الفضل عليه يدل على اختياره وعدمِ العقوبة على تركه.

ثم نقول: هذا الحديث يدل على استحباب السواك دائماً خصوصاً مع حاجة الفم إليه للتطهير والتنظيف، وهو كذلك فالسواك مسنون كُلَّ وقتٍ، إلا في بعض الحالات التي قد يشغل الإنسانَ فيها عما هو أهم، كما لو أراد أن يستاك حال خطبة الجمعة، فإن الأفضل عدم السواك، لأنه يشغله عن سماع الخطبة، إلا إذا كان أخذته سِنَة، أي: نعاس، وأراد أن يتسوّك من أجل أن يطرد السِنَة عنه، فهذا لا بأس به.

ـ ومن ذلك أيضاً، أي مما ورد فيه الفضل دون الأمر: صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان. فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر»[(145)]. ولم يأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فيكون هذا دليلاً على أن صيام ستة أيام من شوال بعد إكمال رمضان مستحب وليس بواجب.

ـ ومن ذلك أيضاً: صيام ثلاثة أيام من كل شهر[(146)]، وما أشبه ذلك.

قوله: (فهو ندب يجلو) : (فهو ندب) يعني: وليس للوجوب، (يجلو) بمعنى: يتبيّن ويظهر.

ومن هنا نعلم أن من طرق إثبات العبادات الترغيبَ في الشيء.

27 ـ وكلُّ فعلٍ للنبيِّ جُرِّدَا***عن أمرِهِ فغيرُ واجبٍ بَدَا

قوله: (كل فعل) : مبتدأ، و (جُردا) : جملة فعلية صفة لكلمة (فعل). (فغير واجب بدا) : جملة اسمية خبر المبتدأ، واقترن بالفاء لأن المبتدأ يشبه الشرط في العموم.

و (ال) في قوله: (للنبي) : للعهد الذهني لا للذكري، لأنه لم يذكر، ولا للحضوري، لأنه ليس بحاضر، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم.

قوله: (جردا عن أمره) : أي لم يقترن بأمر بل هو مجرد فعل، فإن اقترن بأمر فعلى ما سبق من الخلاف، لكن إذا كان فعلاً مجرداً (فغير واجب بدا) يعني: فليس بواجب و (بدا) أي: ظهر.

وعليه فنقول: القاعدة في هذا البيت أن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب. لكن على أي شيء يدل؟

الجواب: لا بد أن نعرف أقسام فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم:

القسم الأول: ما فعله بمقتضى الجبلة والطبيعة، فهذا في حدّ ذاته لا يتعلق به أمر ولا نهي. مثاله: النوم، الأكل، الشرب، ونحوها، لكن قد يُطْلَب أن يكون على صفة معينة، فيكون مأموراً به على هذه الصفة، وقد يُنهَى أن يكون على صفة معيّنة فيكون منهيّاً عنه على هذه الصفة.

فالنوم مثلاً: مما تقتضيه الطبيعة والجبلة، وعليه فلا حكم له في حد ذاته، لكن كونه ينام على الجنب الأيمن، وعلى ذكر الله، هذا سنّة[(147)] تفعل في هذا الفعل الجبلي.

الأكل: الإنسان بمقتضى الطبيعة والجبلة يأكل ويشرب، ولا بد له من هذا لكن كونه يأكل باليمين ويشرب باليمين، ويسمّي عند الأكل والشرب، ويحمد عند الفراغ منهما، ولا يتنفس في الإناء، ويكون شربه بثلاثة أنفاس، وما أشبه ذلك فهذا سنّة مطلوبة.

ثم إن هذا الفعل الجبلي قلنا: إنه لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته لأن الطبيعة تقتضيه، لكن إذا كان يتوقف عليه حفظ الصحة، ويترتب على تركه الضرر صار مأموراً به، إما على سبيل الوجوب، وإما على سبيل الاستحباب.

فالسحور مثلاً للصائم مأمور به مع أنه أكل وشرب تقتضيه الجبلة، لكنه مأمور به لحفظ بدنه وقوته ونشاطه واستعانته به على الصوم وما أشبه ذلك.

فإن خاف الضرر بعدم الأكل فهو واجب، وإن خاف الضرر بالأكل فهو محرّم، ولو كان الأصل فيه الإباحة. ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الأطعمة المباحة إذا خاف الإنسان منها الضرر صارت حراماً[(148)].

ويمكن أن نضرب مثلاً لذلك برجل مصاب بمرض السكر فقال له الأطباء: إن أكلك الحلو يضر بك. فهنا نقول لهذا الرجل: إن أكلك لهذا الحلو حرام عليك، لأنه يؤدي إلى الضرر، والله تعالى إنما حرَّم الأشياء على عباده من أجل الضرر بها.

القسم الثاني: ما فعله على وجه العادة فهذا مباح وليس بسنّة. بل السنّة فعل العادة في المكان الذي أنت فيه، والزمان الذي أنت فيه، ما لم تخالف الشرع، ولهذا لو قال قائل: أيهما أفضل الآن أن نلبس إزاراً ورداءاً وعمامة، أو أن نلبس قميصاً وسروالاً وغترة؟

الجواب: الثاني أفضل، لأن هذا هو السنّة. فالسنّة في اللباس تكون في الجنس أو النوع، لا في العين، وذلك بأن يكون الإنسان موافقاً للعادة في لباسه وهيئته، لأنه لو خالف العادة صار لباسُه شهرة، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن لباس الشهرة[(149)].

لأننا إن لم نتيقن، فإنه يغلب على ظننا أن الناس لو كانوا يلبسون في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ما نلبسه اليوم لكان ذلك هو لباس النبي صلّى الله عليه وسلم.

هذا القسم الذي هو العادي هل يتعلق به حكم من حيث صفته أو لا يتعلق به؟ نقول: نعم يتعلق به حكم فمثلاً: أن الإنسان إذا لبس يبدأ بإدخال اليمنى، وإذا خلع يبدأ بإخراج اليسرى، لأن اليمنى لها حق الإكرام فنقدمها في اللبس ونؤخرها في الخلع، لأن اللباس كسوة وكرامة وإجلال للشيء، فلذلك كانت اليمنى أول ما تلبس، وآخر ما تخرج.

أما إذا كانت العادة محرّمةً فلا يجوز موافقتها، فلو اعتاد الناس مثلاً أن يلبسوا ثياباً يجرونها أو ينزلونها إلى أسفل من الكعبين، سواء كان الملبوس إزاراً أو سراويل أو مشلحاً أو قميصاً، فإن هذه العادة محرّمة ولا يجوز للإنسان أن يتابع الناس فيها، بل هي من كبائر الذنوب لأنها رتّبت عليه عقوبة خاصة، فإن كان خيلاء فعقوبته أن الله لا يكلمه، ولا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يزكّيه، وله عذاب أليم، وإن كان لغير الخيلاء، فإنه يعذّب بقدر المخالفة؛ أي: ما جاوز الحد المباح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار»[(150)].

وبهذا نعرف أنه لا يجوز أن نخصص هذا العام: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار» بحديث: «من جرّ ثوبه خيلاء»[(151)]. وذلك لاختلاف السببين واختلاف العقوبتين، فعقوبة من جرّ ثوبه خيلاء أشد لأن عقوبته أن الله لا ينظر إليه يوم القيامة ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم. وعقوبة من نزَّل ثوبه عن الكعبين دون خيلاء أن يُعَذَّب بقدر ما فيه المخالفة فقط، فلو خصّصنا أحدهما بالآخر لزم تكذيب أحد الخبرين، وذلك لاختلاف العقوبتين، لأننا سنقول: إن الفعل واحد؛ فمرة يعاقب عليه بأنه في النار، ومرة بأنه لا يكلّم الله صاحبه ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، وهذا تناقض، فهذا عمل له عقوبته الخاصة، وهذا عمل له عقوبته الخاصة والجزاء بحسب العمل.

وكذلك لو اعتاد الناس أن يلبس الرجال ثياب الحرير، فإن هذه العادة محرّمة ولا يجوز للإنسان أن يتبع الناس فيها.

إذاً ما اعتاده الناس وهو من الأمور المباحة فإن السنّة أن يتبع الإنسان فيه العادة، فلباس الرسول صلّى الله عليه وسلّم العمامة والإزار والرداء كان على سبيل العادة، فلا يكون مطلوباً بعينه، وإنما يكون مطلوباً بجنسه، والمطلوب هو موافقة ما اعتاده الناس.

القسم الثالث من أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ما فعله امتثالاً لأمر الله عزّ وجل، فحكمه حكم ذلك الأمر، إن كان الأمر ندباً فالفعل ندب، وإن كان الأمر واجباً فالفعل واجب. ما لم يدل دليل على أن ذلك للسنة وليس للوجوب إلا أنه إذا كان بياناً لمجمل فهو واجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإذا ورد أمر مجمل لم يتبيّن إلا بالفعل، فالفعل واجب على النبي صلّى الله عليه وسلّم، لوجوب البيان والتبليغ عليه، ثم بعد هذا يكون مندوباً في حقه وحقنا، إذا كان الأمر للندب، وإن كان الأمر للوجوب فهو واجب علينا وعليه صلّى الله عليه وسلم.

فالأمر بالصلاة مثلاً في قوله تعالى: {{أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} [البقرة: 43] أمر مجمل ولا تتبيّن كيفية الإقامة إلا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم أو فعله، فجميع ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم في صلاته فإنه من إقامة الصلاة المأمور بها.

ومن الفعل الذي جاء مبيّناً لأمر مَحْمَله الوجوب: خطبتا الجمعة أصلاً وعدداً وموضعاً.

فإن قيل: كثير من العبادات تأتي مبيّنة لأوامر مَحْمَلُها الوجوب، وهي سنّة، كالسنن التي تفعل أثناء الصلاة ولا قائل بوجوبها؟!

فالجواب عن هذا: أن يقال: إن حكم تلك الأفعال المبيّنة للأمر هو الوجوب أصالةً، إلا أن لا يقول أحد من السلف بالوجوب، فيكون صارفاً لها من الوجوب إلى الاستحباب.

مسألة: هل قضاء فوائت الصلاة مرتّبة كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة الخندق على سبيل الوجوب باعتبار أنه فعله امتثالاً لأمر مجمل. أو على سبيل الاستحباب باعتبار أنه فعل مجرد؟

الإجابة: أنه فعله امتثالاً لأمر مجمل، لأنه عليه الصلاة والسلام يقول: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها»[(152)]. فهو عليه الصلاة والسلام شغل عن الصلاة فصلاّها حين فرغ من شغله مرتبة، وقال: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»[(153)]. ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الترتيب في قضاء الفوائت واجب، وأنه لا يجوز أن يصلّي صلاة قبل الأخرى، لكن إن نسي أو جهل فصلاته صحيحة.

مسألة: إذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلاً مبيّناً لأمر مجمل هل يشترط فيه الاستمرارية؟

والجواب أن نقول: لا، بل حسب الأمر المجمل، لكن لو فرض أنه صلّى الله عليه وسلّم تركه هو نفسه علمنا أنه ليس للوجوب، لا من أجل أن الأصل أنه لا بد من الاستمرار، لكن نقول: لما تركه علمنا أن الأمر الأول للاستحباب.

القسم الرابع: ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلاً مجرداً يظهر فيه التعبّد لله عزّ وجل، فهذا واجب عليه لأجل الإبلاغ، وبعد أن يبلّغ الأمة يكون ندباً له ولنا.

مثاله: السواك عند دخول البيت، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته أول ما يبدأ بالسواك[(154)]. هذا فعل مجرد من الرسول صلّى الله عليه وسلّم فليس بواجب، لكنه مستحب، لأنه عبادة. فلو قال قائل: إن التسوك تنظيف وليس بعبادة، قلنا: بل عبادة، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «السواك مطهرة للفم، ومرضاة للرب»[(155)].

ومن ذلك أيضاً: فِعْلُ النبي صلّى الله عليه وسلّم مع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حين وقف عن يساره في صلاة الليل مؤتماً به، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم برأسه من ورائه فأداره عن يمينه[(156)]، فإن هذا فعل مجرد ولم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر من صلّى على يسار الإمام أن يعود إلى يمينه، فيكون الوقوف على يمين الإمام إذا كان المأموم واحداً سنّة، وليس بواجب، لأنه لم يكن فيه إلا مجرد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.

لكن بعض العلماء اختار أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام واجب، ليس اعتماداً على مجرد إدارة النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إلى يمينه، ولكن لأنه فعل حصل به حركة في الصلاة، والأصل في الحركة في الصلاة أنها مكروهة، وأنه ينبغي الخشوع في الصلاة، وهذا الفعل الذي فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم حصل به حركة من النبي صلّى الله عليه وسلّم وحركة من عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهذا يدل على الوجوب، أي وجوب قيام المأموم الواحد عن يمين الإمام، وأنه لا يقف عن يساره، والمسألة فيها خلاف معروف، ولا شك أن الاحتياط أن لا يقف المأموم الواحد عن يسار الإمام، بل يكون عن يمينه، ولكن إذا كانوا اثنين فأكثر مع الإمام، ولم يكن المكان واسعاً لو تقدم الإمام عليهما، ففي هذه الحال يكون الإمام بينهما: أحد المأمومين عن يمينه والثاني عن يساره، لا أنهما كليهما عن يمينه، لأن هذا كان هو المشروع في الثلاثة: أن يكون الإمام بينهما، ثم نُسِخ هذا إلى أن يكون الإمام أمامهما، فإذا تعذر هذا الذي آل الحكم إليه بالنسخ، رُجِع إلى الأصل الذي يكون فيه الإمام بين المأمومين، لكن هذا عند الحاجة كما أسلفت.

مسألة: هل سجود السهو فيما إذا سلّم قبل تمام صلاته، ثم أتمّها سنّة أو واجب؟

الجواب: واجب، لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»[(157)] يشمل سجود السهو عند وجود سببه.

مسألة: ما صحة قول القائل: إن جلسة الاستراحة في الصلاة فعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم[(158)] على وجه الحاجة، حيث إنه لما كَبُرَ شق عليه القيام مباشرة؟

الإجابة: هذا هو الذي اختاره الموفق[(159)] ومن بعده ابن القيم[(160)] رحمهما الله، ولا يبعد أن هذا هو الصواب، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من هذه الجلسة يقوم معتمداً على يديه[(161)]، وهذا يدل على أنه يثقل عليه القيام. أما حديث: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» فنقول: إذا بلغتَ إلى حال بلغها الرسول صلّى الله عليه وسلّم فَصَلِّ كما صلّى. وكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يستثن فنقول: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تمر به حالات مخالفة لما كان عليه. فمثلاً: في صلاة الخوف نصلّي كما صلّى فنطيل الركعة الثانية أطول من الأولى، ونجعل المأمومين يتخلفون عن المتابعة.

القسم الخامس: ما كان متردداً بين العادة والعبادة يعني: أننا لا ندري هل فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعبّد، أو فعله على سبيل العادة، أو فعله لسبب آخر ليس تعبديّاً. فهذا أحياناً يترجح أنه عبادة، وأحياناً أنه غير عبادة.

فمثلاً: كونه صلّى الله عليه وسلّم يتخذ شعر رأسه، فكان لا يحلقه ولا يقصره إلا في حج أو عمرة، فهل نقول: إن اتخاذه عادة أو عبادة؟

الجواب: اختلف العلماء في ذلك، منهم من قال: إنه عبادة، ومنهم من قال: إنه عادة، فالذين قالوا إنه عبادة قالوا هذا هو الأصل؛ فالأصل أن ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو على سبيل التعبّد، ما لم نعلم أنه للعادة أو الجبلة أو ما أشبه ذلك، لعموم قوله تعالى: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}} [الأحزاب: 21] يعني: أن كل شيء تتأسون فيه بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو حسن؛ فعلى هذا يكون عبادة، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقال في شعر الرأس: هو سنّة لو نقوى عليه اتخذناه، ولكن له كلفة ومؤونة[(162)].

وأيدوا قولهم هذا بأن كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتخذه مع الكلفة والمؤونة والترجيل، يدل على أنه اتخذه تعبّداً لله عزّ وجل، فيكون عبادة.

وقال آخرون: بل هو عادة، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحافظ على العادات، لئلا يُتَّخَذَ ما يفعله سنّة، لأنه إذا فعل ما يخالف العادة فهو سنّة مشروع.

واستدلوا لذلك بقوله صلّى الله عليه وسلّم في رأس الصبي المُقَزَّع: «احلقه كله أو اتركه كله»[(163)]. قالوا: فلو كان اتخاذ الشعر سنّة لقال: لا تحلقه، أبقه كله، وهذا هو الأقرب عندي أن اتخاذ الشعر ليس بسنة، ولكنه عادة.

ـ مثال آخر: لما سها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما نقله أبو هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين، قام إلى خشبة معروضة في المسجد، واتكأ عليها ووضع خده على يديه كأنه مغموم أو غضبان[(164)]. فهل يشرع لمن سلّم من صلاته أن يفعل كذلك؟

الجواب: ليس بمشروع، لأن هذا الانقباض الذي حصل للرسول صلّى الله عليه وسلّم انقباض غير إرادي، لأن نفسه متعلقة بفعل باقي عبادته، وهو لا يشعر وهذه من حماية الله سبحانه وتعالى للعبد؛ أحياناً يقصّر في شيء وهو لا يشعر أنه مقصّر، فيأتيه مثل هذا الغم، فيجلس يفكر حتى يتبيّن له الأمر، فمن حماية الله تعالى للشخص أن ينبه بمثل هذا التنبيه على ما فرط فيه.

وهناك قصة غريبة لرجل من أهل الورع، كان له أَثْل فحصده ليتخذه حطباً، وكان له جار قد فعل مثله، وكَوَّم كل واحد منهما أغصان أثله حتى ييبس ثم يُدْخِله بيته، فخرج هذا الرجل ببعير من أجل أن يأخذ خشبه، فأناخ البعير وربط الخشب على ظهر البعير فنهر البعير ليقوم بالحطب، فأبى أن يقوم، فاستغرب وأخذ يفكر في البعير ماذا به؟! فلمح كومة خشب أخرى، فإذا الخشب الذي حَمَّله على البعير خشب جاره. وإذا خشبه باق على الأرض، ففك الخشب ونهر بعيره فقام مباشرة. فهذه من حماية الله للإنسان.

فالحاصل أن ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم في قصة ذي اليدين ليس على سبيل التشريع، ولكنه على سبيل الفيض من الله سبحانه وتعالى؛ أن الله جعله في هذا الانقباض، لأن عبادته لم تتم، فلا يشرع لنا أن نفعل كفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيما لو جرى لنا مثل هذا.

مثال ثالث: نزوله صلّى الله عليه وسلّم في أثناء الطريق من عرفة إلى مزدلفة وبوله وتوضؤه وضوءاً خفيفاً، هل هو مشروع في حقنا؟

الجواب: غير مشروع، لأنه لم يفعله على سبيل التعبّد، ولهذا لم يأمر الناس به، ولم يعلمه كثير من الناس وإنما احتاج إلى أن يبول، فنزل وبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، ثم سار.

فمثل هذه الأشياء التي تكون مترددة بين كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعلها على سبيل التعبّد، أو على سبيل العادة، يختلف فيها العلماء، والإنسان البصير يتدبّر ويتأمل، ويترجّح عنده ما فعله على سبيل التعبّد أو على سبيل العادة، فيحكم بما تقتضيه الحال.

مسألة: هل يثاب المرء على ما يقتدي به من أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي فعلها على وجه العادة، كلبس الخاتم، وتطويل الشعر، وغيرهما؟

الإجابة: يجب أن تعلم أن ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى العادة فإن السنّة أن تتبع عادة بلدك إذا لم تكن محرّمة، وليس السنّة في عين ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل السنّة في جنس ما فعله، فإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك بمقتضى العادة، فإن السنّة أن تفعل ما تقتضيه العادة في زمنك، ما لم تخالف النص. وعلى هذا فلباسنا نحن هنا في نجد والجزيرة عامة هو القميص والسراويل، والطاقية والغترة، والمشلح عند بعض الناس، فإذا لبس الإنسان هذا كانت في السنية مثل لباس الرسول صلّى الله عليه وسلّم العمامة والإزار والرداء، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك بمقتضى العادة، ونحن فعلنا ذلك أيضاً بمقتضى العادة، ولأننا لو خالفنا عادتنا إلى ما كان الناس يعتادونه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكان ذلك شهرة، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن لباس الشهرة[(165)].

أما مسألة الخاتم فالخاتم إنما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم للحاجة، وهو أنه نُقِش عليه «محمد رسول الله»[(166)] وكان يختم على الرسائل التي يبعثها إلى الملوك، ليكون ذلك كالتحقيق لكون هذه الرسالة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فنقول: القاضي والأمير والعريف ومن يحتاجون إليه هؤلاء يلبسون الخاتم، لأنهم محتاجون إليه. على أن بعض أهل العلم يقول: إن التَّخَتُّم سنّة مطلقاً، والذي يظهر لي أن التَّخَتُّم تبع للعادة، فلا يتختم إنسان إلا إذا اعتاد الناس ذلك، إلا ما احتيج إليه، فإن السنّة أن يتختم من أجل هذه الحاجة.

مسألة: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وجد اليهود يسدلون شعورهم فوافقهم وخالف قومه، ثم إن اليهود لما عتوا عن الأمر وخالفوه، رجع إلى تفريق شعره[(167)]، أفلا يدل هذا على أن اتخاذ الشعر سنّة؟

الإجابة: الشعر إذا اتُّخِذَ، فله سنّة مثل غيره من العادات، وذلك بأن يرجله وينظفه. وكيفية ترجيله عليه الصلاة والسلام أنه أول ما قدم المدينة كان يحب موافقة أهل الكتاب رجاء أن يسلموا ويتبعوه، فهو من باب التأليف. ومن جملة ما وافقهم فيه أنه كان يسدل شعره ولا يفرقه. ثم صار بعد ذلك يفرقه كما كان الناس يفعلون في مكة، لأن المشركين صاروا أقرب من اليهود لكثرة الذين أسلموا منهم ولا سيّما بعد فتح مكة.

مسألة: الذين قالوا بأن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما بال بين عرفة ومزدلفة سنّة استدلوا بفعل ابن عمر رضي الله عنهما، وبقول الله تعالى: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}} [الأحزاب: 21] فما الجواب عن هذا؟

الإجابة: أما فعل ابن عمر رضي الله عنهما فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم: إن هذا الأصل الذي كان ابن عمر رضي الله عنهما يتمسّك به لم يوافقه عليه جمهور الصحابة، وأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وهم قادة الحجيج وأفقه من ابن عمر رضي الله عنهما كانوا لا يفعلونه، ولو كان هذا من السنّة لوجب على قائد الحجيج أن يفعله ليبيّن السنة[(168)].

وأما الآية ففيها دليل على أن المراد بذلك التعبّد، لأن ما يُرجى به اليوم الآخر هو العبادة. أما ما يتعلق بالأمور العادية أو الأمور الغريزية فمتى احتاج إليها فعلها.

القسم السادس: ما فعله على وجه الخصوصية، فهذا يختص به ولا يشاركه فيه أحد ولكن لا بد من دليل يدل على الخصوصية، ولا تقبل دعوى الخصوصية إلا بدليل، لأن الأصل التأسي به صلّى الله عليه وسلّم، لقول الله تعالى: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}} [الأحزاب: 21] . وقوله تعالى: {{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}} [آل عمران: 31] ولقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}} [الطلاق: 1] . فوجّه الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم ذكر الحكم عاماً، مما يدل على أن خطاب الله له خطاب له ولأمته، فيكون الأصل عدم الخصوصية وأنه عام له ولأمته.

ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}} [الأحزاب: 37] وهذا زيد بن حارثة رضي الله عنه مولاه صلّى الله عليه وسلّم، وكان قد تبنّاه في أول الأمر وكانوا يقولون: إنه لا يحلّ للرجل أن يتزوج زوجةَ مَنْ تبنَّاه، فأراد الله أن يبطل هذه العادة. فقال: {{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}} [الأحزاب: 37] . فالحكم كان في الأول للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والتعليل له ولغيره {{لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}}؛ فدل هذا على أن الحكم الثابت في حقه حكم له وللأمة، ويدل لذلك أن الله تعالى لما أراد الخصوصية نبّه عليها فقال: {{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}} [الأحزاب: 50] .

ودل هذا على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم له أحكام تخصّه من بين سائر الأمة على حسب ما يليق بنبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام، فالخصوصيات التي ثبتت له ثبتت لمعنى لا تشاركه فيه الأمة؛ وهو مقام النبوة والرسالة، لا لأنه محمد بن عبد الله.

وبهذا نعرف أن ما يشاركه فيه البشر فإنه لا يختص به، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون»[(169)].

وبهذا نعرف كذب ما يذكر بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خُلِقَ من نور، فإن هذا كذب، بل خُلِقَ من ماء أبيه الذي أصله التراب كغيره من البشر.

إذاً ما اختص به صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن تشاركه فيه الأمة، ولكن هل نقول: إن هذا خاص به بدون دليل؟

الجواب: لا، لأننا ذكرنا الأدلة على أن الأحكام التي تتعلق بالرسول صلّى الله عليه وسلّم تكون له وللأمة إلا ما قام الدليل عليه.

فهذه ستة أقسام لأفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قلّ أن تجدها محصورة في كتاب معيّن أو في مكان معيّن، بل تجدها مشتتة في كلام أهل العلم، لكن هذا ما حضرني منها.

وليعلم أن العلماء رحمهم الله كتبوا خصائص للنبي صلّى الله عليه وسلّم، مما يتعلّق بالأمور الكونية ولكن بعضها صحيح، وكثير منها ضعيف لا أصل له.

فمن ذلك قول مَنْ قال: إن من خصائصه أنه لا ظل له إذا مشى في الشمس، وعلّلوا ذلك بأنه نور، والنور يضيء، وهذا كذب لا أصل له، بل له ظل كغيره، لأن جسمه جسم كثيف كغيره من الأجسام، فيكون له ظل.

ومنها أشياء شرعية قالوا: إنها من خصائصه. بعضها صحيح وبعضها غير صحيح فمن ذلك قول بعضهم: إن فضلاته من البول والغائط ونحوهما طاهرة فإن هذا لا دليل عليه.

ومن ذلك مثلاً: هل له أن يتزوج وهو محرم؟ فيه حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو محرم[(170)] ـ وميمونة خالته (رضي الله عنه)، فله علم بما يتعلق بها ـ لكن هذا، وإن كان قد ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لكنه مرجوح، فإن أبا رافع رضي الله عنه، وهو الواسطة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين ميمونة رضي الله عنها قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهو حلال، وهي نفسها قالت: إنه تزوجها وهي حلال[(171)]، فيحمل كلام ابن عباس على أنه رضي الله عنهما حدَّث بما علم، ولم يعلم بنكاحه إلا بعد أن أحرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فظن أنه تزوجها وهو محرم ولهذا كان الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو حلال قبل أن يحرم.

والحاصل: أن مسألة الخصوصية مسألة مهمة ينبغي للإنسان أن يعرفها ويعرف سقيمها من صحيحها لئلا يزل فيما زلّ فيه كثير من الناس.

28 ـ وإن يكنْ مُبَيِّناً لأمرِ***فالحكمُ فيه حكمُ ذاك الأمرِ

هذا شرحناه في القسم الثالث من أقسام فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم[(172)]، إذا كان فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبيّناً لأمر من أوامر الله أو من أوامره هو نفسه، فإنه يكون له حكم ذاك الأمر، إن كان هذا الأمر واجباً فهو واجب، وإن كان مستحباً فهو مستحب، وهذا ظاهر، لكن أهل العلم قالوا: ما كان مجملاً لا يتبيّن إلا بالفعل، كان الفعل واجباً على النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يتبيّن المجمل، وذلك لوجوب الإبلاغ عليه، ثم بعد ذلك يكون في حقه وحقنا حسب ذلك الأمر، إن كان واجباً فهو واجب، وإن كان سنّة فهو سنّة.

29 ـ وقدِّم الأعلَى لدى التزَاحُمِ***في صالحٍ والعكسُ في المظالِمِ

قوله: (قدم) : الخطاب لمن يتأتى خطابه.

قوله: (الأعلى لدى التزاحم في صالح) : يعني: إذا تزاحمت العبادات أو غيرها وكان لا بد من ترك إحداها فإنه يقدم الأعلى ندباً في المندوبات ووجوباً في الواجبات، لأن فيه زيادة خير، وزيادة الخير مطلوبة. وفي هذا قال العلماء رحمهم الله: إذا تزاحمت مصلحتان قدّم أعلاهما، لأنها أولى بالعناية. وهذه قاعدة بيّنها الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله لما سأله الرجل: أي الناس أحق بحسن صحبته؟ قال: «أمك ثم أمك ثم أمك» ثم قال في الرابعة: «أبوك»[(173)].

ـ فإذا تزاحم حق الأم وحق الأب قدّمت الأم، لأن القيام ببرّها من المصالح، وبرّها في المصالح أعلى من برّ الأب.

ـ تزاحم نفل مطلق ونفل مقيّد، فيقدّم النفل المقيّد، مثل أن لا يبقى من وقت العشاء إلا مقدار ركعتين، فهنا نقدم ركعتي راتبة العشاء على النفل المطلق، لأن النفل المقيّد أعلى من النفل المطلق[(174)].

ـ تزاحم تهجّد وطلب علم شرعي، فهنا نقدم طلب العلم، لأنه أنفع وأصلح من التهجّد، فإن التهجّد منفعته قاصرة، وطلب العلم منفعته متعدية.

هذا إذا لم يمكن الجمع ولهذا قلنا: (لدى التزاحم).

ـ أشكل على شخص حكم مسألة يحتاجها الآن ومسألة أخرى لا يحتاجها الآن، فإنه يقدّم في البحث الأولى التي يحتاجها لكونها أصلح، لأن الثانية عامة ووقتها مدرك، أما الحاضرة فوقتها حاضر وخاص.

ـ جهاد المشركين وأهل الكتاب كله خير، لكن نجاهد المشركين أولاً، لأن أهل الكتاب يمكن إقرارهم بالجزية، ولأن أهل الكتاب أجاز الشارع لنا أن نأكل طعامهم، وأن نتزوج نساءهم، فلنا فيهم نوع اتصال، لكن إذا علمنا أن شر أهل الكتاب أكثر من شر المشركين علينا فإننا نقدم جهاد أهل الكتاب، لأن المصالح يقدم منها الأعلى، فكل شيء كانت مصلحته أعلى فهو مقدم.

ـ إذا تزاحم الفرض والنفل فنقدّم الفرض، لأن الفرض أحب إلى الله، لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه»[(175)]. فلو أن إنساناً ضاق عليه وقت الفريضة، فأراد أن يصلّي قبلها نافلة مع ضيق وقت الفريضة، فإننا نقول له: قدّم الفريضة لأنها أعلى.

ـ إذا تزاحمت الحاضرة والفائتة فنقدِّم الحاضرة، لأن القيام بالحاضرة يجعلها مؤداة،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://eldaaia-gantelfrdous.yoo7.com
 
منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:7- الشرح
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 5- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 6- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى::8- الشرح
» منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 2- الشرح
»  منظومة أصول الفقه-الشرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: 3- الشرح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الداعية جنة الفردوس :: العلوم الشرعية :: علم الفقه-
انتقل الى: